مقالات كل العرب

علولة الظاهرة الفسيفسائية الأبدية

أ.بوعلام رمضاني

شارك

علولة الظاهرة الفسيفسائية الأبدية

 

أ.بوعلام رمضاني

يخطىء من يتناول إبداع الراحل عبد القادر علولة في ذكرى اغتياله بقارعة الطريق يوم العاشر من مارس عام 1994 من منظور مسرحي محض، وبالتالي ضيق حتماً، لماذا؟؛ لأن علولة ظاهرة فسيفسائية متعددة الأوجه، ولم يحدث في تاريخ المسرح الجزائري والعربي أن قارب المسرح مثل الراحل علولة سوى الراحل الكبير سعد الله ونوس السوري، وعبد الكريم برشيد المغربي، وروجيه عساف اللبناني، بحكم تنظيرهم لمسرح يقوم على رؤية فكرية وفنية وإنسانية واحدة خارجة من قلب الموروث الثقافي المحلي، إلى جانب عزالدين المدني التونسي، والمغربي الآخر المخرج الكبير الراحل الطيب الصديقي، لكن بعيداً عن الخلفيات والأبعاد الفكرية للراحل علولة.

علولة الإنسان

قبل مقاربة الراحل علولة مسرحياً، يجب مقاربته إنسانياً؛ حتى نتأكد من تطابق موقعه الاجتماعي، وتوجهه الفكري اليساري، وتواضعه مع إنتاجه المسرحي الذي ولد من رحم وعيٍ مسرحي نتج عن دراسة عميقة ومتفحصة لمسرح أجنبي لا يتماشى مع التاريخ الثقافي والاجتماعي والسيكولوجي للشعب الجزائري، كما سنرى في محور “علولة المفكر”، فسيفساء شخصية الراحل علولة تبدأ بشخصيته الإنسانية الحافلة بخصال متعددة نادراً ما نجدها في رجال المسرح جزائرياً وعربياً وعالمياً، علولة الرجل الطويل، وصاحب القامة الفارعة والشامخة، كان قامةً نفسية واجتماعية شامخة أيضاً بتجذره في مجتمعه، وتقربه من طبقته الكادحة التي آمن بها كمحركة للتاريخ وفق الفكر الماركسي الذي عانقه، وجسَّده ركحياً كما لم يفعل آخر قبل وبعد رحيله، علولة الإنسان كان يتنفس تواضع الشخصيات الاجتماعية المطحونة والمقهورة التي لم تكن تعي خلفيات مسرحه بالضرورة، لكنها كانت تجد نفسها عبرها، ولعل مسرحيته “الأجواد” التي تبقى خير نموذج لمقاربته المسرحية أكبر وأقوى دليل على إيمانه “بأناس التحت”، على حد تعبير نعمان عاشور المسرحي المصري الكبير، علولة الإنسان عاش بطريقة اجتماعية تعكس فعله المسرحي، وهو الفعل الذي لم يذهب بعيداً ليبحث عنه، واستقاه من ذاكرة مجتمعه الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية، علولة الإنسان، لم يكن منسلخاً عن مجتمعه كما فعل الكثير من المسرحيين الذين كانوا يعيشون حياة تتناقضٍ مع خطابهم المسرحي؛ بسبب بعدهم كل البعد عن إنسانية علولة الفطرية والاجتماعية، علولة الإنسان الذي عرفته مهنياً، وجالسته عدة مرات، وحللت هندامه وأقواله وكلماته وتصريحاته، لم يكن إلا صورةً مطابقةً لمسرح يُعد نسخةً طبق الأصل لحياته وسلوكه وأفكاره، علولة الإنسان كان هادئاً وخجولاً ومحترماً لكل الناس بما فيهم الذين لم يكونوا يؤمنون بتوجهه الفكري والمسرحي الغارق في تقليدية تجاوزها المسرح المعاصر في تقديرهم، وكما راح يجسدها مسرحيون من تونس الشقيقة في الثمانينيات، علولة الإنسان، أو مهاتما المسرح الجزائري، كان زاهداً زهد الإنسان البسيط اجتماعياً تماماً مثل شخصيات مسرحياته، وما زلت أتذكر حتى اليوم بذلته الرمادية التي كان يرتديها في كل الأوقات، وحذاءه العسكري، علولة الإنسان كان يبدو جاداً وخجولاً أمام الصحفيين، لكنه كان ينفجر دعابةً وضحكاً مع المقربين منه تماماً كما فعل مع شخصياته التراجيكوميدية، أخيراً وليس آخراً… كان علولة شخصيةً منسجمة مع سلوكه أمام كل الناس وكل الممثلين الذين كان يجود عليهم بكل ما يملك من تواضعٍ وتقدير وود وتبجيل؛ باعتبارهم مبرِّر وجوده الاجتماعي والفكري والفني المسرحي.

 

علولة المفكر

أؤمن جازماً أن الراحل عبد القادر علولة لم يكن مسرحياً ككل المسرحيين، وهو الوحيد الذي جسَّد توجهاً فكرياً لا يقم على الشعارات الإيديولوجية كما فعل كثيرون، ووحده الراحل ولد عبد الرحمن كاكي الذي يشبهه في توجهه المسرحي، لكن كان بعيداً عن ثقافته السياسية والفكرية والمسرحية، وعن كيفية تجاوزه القالب المسرحي الأوروبي والغربي إلا في حالة استغلال البريختية في أسمى تجلياتها، اعتماداً على موروثٍ ثقافي محلي ناطق هو الآخر بروح الحلقة والكلمة المحكية المؤثرة سيكولوحياً واجتماعياً، والخارقة لعامل المستوى الثقافي والأدبي الذي يُميز نخب البرجوازية التي حاربها علولة في مسرحه، أستطيع أن أؤكد في هذه الورقة التي أكتبها في باريس بعيداً عن الجزائر التي أتنفسها كما كان علولة يتنفس وهران، أن علولة مفكر بوجهٍ عام، ومفكر مسرحي بوجهٍ خاص، علولة هو الوحيد الذي راح يكتب منظراً لمسرح الحلقة أو الحكواتي، استجابةً لتجذره في تراث شعب الأصقاع السفلى، وليس في تراث الترفيه المخملي الذي لا يمت بصلة لأوجاع البؤساء والفقراء والمواطنين البسطاء اجتماعياً، علولة راح يُطوِّر مسرحه، ويُعمِّق منظوره الثوري لمسرحٍ يُخاطب الأذن، ليس في العلبة الإيطالية، أو البناية الأوروبية الموروثة، ولكن في الأسواق وفي الساحات الشعبية العامة، مخاطباً الطبقة البروليتارية العاملة الصانعة للتاريخ من منظور ماركسية لا تتنافض مع قيم الشعب في منظوره المتميز، علولة وحده الذي ترك عامة الشعب من المتفرجين المشاركة في فرجة اجتماعية، منطلقاً من إيمانه بالصراع الطبقي كما قلت له في سؤالٍ أعجبه وابتسم له دون أن يرد عليه بصفة مباشرة، علولة الماركسي، كان ضد خدش مشاعر الشعب المكون من فئات مؤمنة، ولم يكن مباشراً مثل كاتب ياسين، وساخراً من دين يعد أحد أعمدة هوية مجتمع يُجب مقاربته كما هو، لكن بمسرح ناقد لتجار الدين من غير المعنيين بهموم يومية تركها البرجوازيون للفقراء على حد تعبير نيتشه: “البرجوازيون تركوا الدين للفقراء”، سواء اتفقنا أم لا، أيديولوجيا مع الراحل عبد القادر علولة لا يمكن في حالٍ من الأحوال إنكار إبداعه الأول من نوعه في الجزائر كما مرّ معنا على مستوى الوسيلة والشكل والهدف.

علولة المسرحي

المحور الثالث هو وليد المحور الأول والثاني، ويمكن القول منهجياً أن علولة هو نتاج إنسانية وأخلاق اجتماعية، وتوجهٍ أيديولوجي وفكري وجد كل تجلياتها في واقع الشخصيات الاجتماعية السخية سيكولوجياً وسلوكياً وإبداعياً، ولعل ثلاثيته “الأقول، اللثام، والأجواد” هي المرحلة الجديدة التي تؤرخ لتنظيره بعد مسرحية “الخبزة” التي أبدع فيها محمد أدار كاحد أكبر المسرحيين الكبار قبل أن ينفجر الفقيد سيراط بومدين في مسرحية “الأجواد” التي أبهرت الحضور في مهرجان قرطاج بتونس عام 1989، علولة الذي رحل في أوج العطاء، كان باستطاعته أن يذهب بعيداً في نهجه المسرحي الذي نجح من خلاله في المزاوجة  بين تركة مسرحية أوروبية اشتراكية، وبين موروثٍ ثقافي محلي يستجيب لخاصية “التبعيد” البريختية التي تضمن متابعة عقلية فطنة، وتبعد المتفرد عن الإيهام، اعتماده على الكلمة المحكية والمسموعة، وعلى الممثل الصانع لحركة يُمليها الموقف التاريخي والطبقي تحديداً في ثوب تراجيكوميدي جعل منه فارساً ركب نزعةً تميَّز بها وحده، علولة الذي تجند الجميع لإحياء ذكرى رحيله بغض النظر عن هوامش الاختلاف أو الاتفاق مع توجهه الإيديولوجي، حقيقةً شامخة تُثبت صحة الأثر الفسيفسائي الذي تركه في أعماق بسطاء أناسٍ كانوا في صُلب الصراع الطبقي دون وعيهم بذلك كما قلت له يوماً، وأنا أحاوره في المسرح الوطني حول كؤؤس قهوة، علولة كان يشرب القهوة بقوة أيضاً، كما كان قوياً إنسانياً وأخلاقياً وفكرياً ومسرحياً، سيبقى نبراساً مُتعدِّد الأضواء لإنارة درب الأجيال المسرحية والعامة من الناس المحبين للجود والكرم فنياً وسلوكياً، رحمه الله.

 

كاتب وأديب جزائري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى