كل الثقافة

خماسية لوحة جدارية

قصة قصيرة

شارك

خماسية لوحة جدارية

قصة قصيرة

العصا

أ. حمزه ابوخالد

اصر على ان لا يعطيهم الإذن بالجلوِس منذ القيام الجماعي، حسب العرف السائد في احترام التلميذ للمعلم عندما وضع قدميه في الصف ، طال الوقوف وكان مملاً، كان يرى قوته في العقاب هذا شأنه و ربما شأن اكثر زملائه دائماً، اقترب إلى طاولتهِ فوضع عصاهُ ثم ما لبث ان اسرع فعاد واخذها كما لو أنَّه قد احس بالضعف والنقص فاسترجعها فوراً ثم شد هندامه الممتلئ بقامتهِ القصيرة، لقد كان يبحث عن الطريقة التي تعطيه الاقتدار او ربما هيبته القهاره التي يظن أنه قد اكتسبها و هو يضرب جليلاً يوم أمس الأول بسبب تلعثمه وظهور لهجتة العربية و هي تصرخ بالنطق الفارسي .
شد طرفي سترته نحو مركز بطنه المنتفخ ثم اخذ نفساً عميقاً متفحصاً وجوه غاضبة متذمرة ساخطة ما عادت تلك التي يعرفها وتعوَّد عليها ..
حينها شعر أن العصا التي لا زالت في يده اليمنى ولم تفارقه، خائبةً ميتةً و غير مؤثرة لإرعاب و تخويف الطلاب فأهتز لها شاداً عضلات يده مستديراً نحو السبورة طاويا” كشحه وردفيه المثقلين بالشحم بحركة بهلوانية ليعطيها جرعةً من الطاقة التي تمدُّ جسده الكثير من القوة كما لو أنَّ مجرماً في فيلم بوليسي تحرك مستيقظا” ليملئ سلاحه الناري بالرصاص ..
لم ينسَ الطلبة يوم معاقبة جليل، لقد كان يوماً بالغ القسوة والألم…
حيث أنزل كل جبروته كما لو أنه قاتل يبيد متمرداً وسط جمع بشري من الأفارقة في جنوب أفريقيا او الميانمار، أو أنه جزار محترف في مسلخ بدائي يجيد العنف و السرعة في الذبح او شرطي متمرس في غرف التعذيب يتقن كيف ينتزع الإعتراف وكيف ينهي ملفات المساجين ويدفع المتهم طواعية” ان يصبح بلبلاً . . .
لقد كانت فضيعة تلك الطريقة ، وبرغم عنفها الشديد إلا إنها لم تشفِ الغليل او تطيب روح المدرس، وبرغم ذلك كله فلم يُشبع او يُملئ فوهةَ انبوب حقد ضخم ممتد فارغ لا بل لم ينتزع الماً یترک وجعاً، كون ان جليلاً كان يحدق في عينيه بتحدي ، دون صراخ و لاحتى تأوه ، انه لم يخرج صوتاً خافتاً او تأوها” و نفساً ساخناً لوجع . .
ثم عاد إلى وضعه ليكسر الصمت والهدوء المملين، فأدار رأسه المدور کالقرعة الملساء و بغَبغَبه المترهِّل نحو جليل وحدق بعينيه من بعيد فلم يرَ سوى تحديا” و تمرداً يضمر شيئاً ما فرفع عصاه التي لازمته منذ أن بدأ يمارس التدريس ومنذ ان نعته الطلاب بـ (عِيِل نخالة) *1 وشاع هذا الأسم في ثانوية( سيد جواد طباطبائى _التي تأسست قبل الحرب العالمية الثانية) ، ثم بٍحركةٍ اشتد فأظهر هيمنةً فارغةً لم توحِ بنيّةٍ شجاعةٍ..
تجمد الدمُ في عروق الطلبة بعَدَ أنْ افزعهم التهديدُ المبطن وكأنه يريد أن ينتقم وينزل جام غضبه على الآخرين فراحوا لا حيلة لهم و لا قوة يترقبون حركاته و هو يتلفتُ ويدير وجهه نحو السبورة تارةً وتارةً أُخرى إلى الوجوه والعيون المعذبة مفتخراً بنفسه و كأنه يريد أن يوحي لهم بأنه يضمر شيئاً او يفكر بقرار توبيخ او تجريم سيتخذه لاحقاً..كان الظلام كما الخوف بفعل الغيوم السوداء التي غدت تتزاحم وتحجب الضوء وتسد الطريق يأخذ الطلبة الى القمة إلى صفر الرعب دون توقف.. لحظة التفت فيها ماجد مسترقاً النظر إلى الخلف ليحذر جليلا من التهور والانتقام حيث بدا أنه يعلم علم اليقين بردة فعل منه او من الآخرين، بعد أن شعر بسقوط الرهبة في ذات الطلاب
.. حوّل المدرس العصا إلى يده اليسرى وراح فأغلق الباب ، ثم محاولاً أن يكتب ، اخذ الطبشور وخط عنوانَ الحصةِ وإسمه(آخوند زاده) كالعادةِ على السبورة…
هكذا بقي الطلاب واقفين يتمعنون في قامته او الى اصابعه وهي تكتب وتصطنع جر الحروف بتكلف تنزل ممتدة ثم منحنية، هاربة مبتعدة عن اصولها تباعاً . . حروفٌ لم يسجل شكلها في اسناد التاريخ ولم تعرفها السنسكريتية او مزاعم فلاسفة الألمان في أصولهم المنتزعة من الهند فلسفياً . . .
حروفٌ حقيقتها مأخوذة من اشكال مرسومة في لغة تاريخية معروفة كما ان الكلمات المؤلفة لها قد شذت عن تكوينها النحوي الأصيل، منحرفة عن معانيها المسجلة في التراجم والقواميس كما إنها باتت عقيمة! َفاقدة لروح الإشتقاق والتوليد من وجهة نظر اللغويين. هذه التي تتحرك مع عصا مدرسنا و المستشرقين الغارقين في التزييف على أنها لغة قديمة وبعمر التاريخ، متجاهلين حقيقة أن هندسة حروفها انحدرتْ من الخط العربيّ ومعاني كلماتها اخذت من هذه اللغة العملاقة تواً و غير بعيد. وتمردت على فلسفة تلك الأشكال من الخطوط العربية واعوجت عنها في شكلِها، حروف ترهلت وبدت تنزل على لوحة الدرس لتظهر سبكاً مبتوراً فقد خاصية الابداع بانحنائاتها المأخوذة من الأقواس التي تتركها نهايات رأس العصا المرفوعة والمشهورة في الهواء الطلق وهي تنزل بالضرب على الأجسام بمنحنياتها الممتدة القاسية لتضيف متطفلة إلى الرقع والثلث والنسخ وغيرها بعد أن اخذت منها ما تشاء ناكرة لها للاصل ، للغة الام ،كما تتنكر النكرة لحليب أُمها دون خجل … كانوا يتابعون كل ما يكتب ويثقل على اللوحة وسط ظلام متزايد تفرضه تراكم الغيوم التي فرضت السكون على المدرسة والمحيط بنحو اوحى بطوفان مجهول ، والصمت يأخذهم كانوا ركباً كوميدياً مفضوحاً لعبيد تصطف في مسير لتتلقى اوامر السادة *الـ(كو كلوسيِّين البيض)* حاملي العصي في مزارع أمريكا كون إنَّهم اجتازوا كل صنوف الاذلال وبات وعيهم وادراكهم للمفاهيم يأبى ومنذ زمن بعيد ان يكون جسمهم مباحاً وعقلهم مهاناً… كانوا من الوعي بحيث كانوا يدركون ان الشرطة حينما تقتل الأبرياء بأمر قادتها بوسائلها الخاصة لا تختلف عن المؤسسة التعليمية المؤدلجة في الكثير من سياساتها وممارساتها أينما كانت في شئ حينما تقتل بوسائل اخرى فالمدرسة هنا مأمور يمارس القتل المتعمَّد عبر المنهاج الحكومي وينزل بالقتل الجماعي المدروس حينما يطلقُ رصاصات الموت الناعمة نحو عقول الطلبة تنفيذاً لتلك المناهج، مثلما يقتل الاعلام العالمي الحديث و اللا انساني الجموع البشرية اليوم، هذه العصا المارقة النافذة عبر الالكترونيات المتجددة، المستحدثة باستمرار …
ازداد الظلام و الإختناق ، وهم على حالهم واقفين ، أما هو فقد كان يتحرك بجبروت واقتدار ظاهر
و يتلفت و يزيد بتمعنه معبراً عن قوة مزيفة بعينين ما عاد يحتمله الجمع الذي خرج من نفق الخوف فما عاد يهابه احد، أن ضرباته تلك التي انهالَ بها على جليل ؛ اسلوباً مرسوماً للتعليم ، تعودت عليه العقليات المؤدلجة ، رويّة ممعنة ربما لا تختلف عن إسلوب شرطي يتقن ترويض الرجال المتمردين و المحتجزين في مطامير الموت المنتشرة في كل أرجاء الأرض.. يومها رافق ماجد زميله وابن حارته جليلاً وكأنه خارج من غرفة التعذيب تواً.. رافق اوجاعَه إلى منزله في حارتهما وهو يحاول ان يكون له كالقارورة يصب فيها نزيفه من الأنين والآهات …
تحدث جليل مثرثرا” يفضي .. عن عصا التهجير و استيطان اليزديين عنوةً في مدينته الحويزة.. عن الأهواز، والهجرة والأنهار و عصا التعطيش.. عن الأهوار و الطيور، الأسماك والاحشام.. عن عيون الجاموس و هي تبكي قبل الموت.. عن الطبيعة وكيف انها ابيدت بعد أن قتلت العصا كل ما فيها٠ حتى الهواء الذي بات سماً.
… فجأة اخترق الصف ضوء البرق وغدت اركانه و جدرانه مسرحاً اضيئت فيه الأنوار ،
فاظهرت بسطوع كلما رسم على الجدران من لوحات وابانت هوان وارتباك المدرس.. وبسرعة البرق هز الرعد كل الفضاء وكان ممتداً مع شدة سقوط المطر…
ومع صوت هطول المطر علا صوت وسط الصف متسائلاً من المدرس :
_ إلى متى نظل واقفين أُسراء كالعبيد؟
_ الا يكفي عقابك؟
_ ثم لماذا هذا العقاب؟
_ فهل لأننا قدمنا التحية واعتبرناك معلماً
_ او…
قاطعه آخوند زاده :
_من هذا الأحمق الذي علا صوته؟
اجابه الصوت :
أنا لست احمقاً انا جليل الحويزي..
المدرس :
أخرس وتقدم إلى السبورة..
جليل :
لن آتي وسأجلس ولن تخيفني..
ثم اردف غاضباً.. :
وسوف يجلس معي كل الطلبة فلن تخيفنا عصاك وسوف لن ترانا أسراء بعد الآن . . .
وهنا أثرت هذه الكلمات وكأن قائداً يأمر جيشه بأوامر صارمة. بدأت أصوات الأرجل وخشخشة الكتب تتسارع والمدرس يراقب المشهد بذهول قبل أن يقعد جليل . . . ثم شَرَع التلاميذ بالضرب بأكفهم على طاولات الصف الخشبية و أخذوا يزمجروا كزمجرة الأسد الغضبان للذود عن عرينه.

_______________
1: مثل شعبي يقال عن العجل الذي تربى وسَمِنَ على أكل النُّخالة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى