كل الثقافة

لا تشرق الشمس على ضريح سيد زكي

قصة قصيرة

شارك

لا تشرق الشمس على ضريح سيد زكي

أ. سيد كاظم القريشي

– هل تتركيني؛ لو اطّلعتِ على سرّي؟

وأشيح بوجهي عن وجهها؛ احدّق في اصابع رجليّ وأنا متوسّد حجرها؛ أصابعي تتحرك

– وما هو سرّك أيها الشقي؟

تبتسم وتداعب وجنتيّ بطرف ظفيرتها

– سرّي هو أنني أحبكِ ولا اطيق فراقكِ

– لا بأس بك أيها المجنون

تنحني عليّ وتقبّلني..
أذهب للقرية كلّ خميس. قاطعاً عشرات الكيولومترات. أصل قبل المساء إلى المقبرة حيث ضريح سيد زكي. أركن السيارة خلف الأحراش. أدلف إلى الضريح. تستقبلني روائح البخور وماء الورد. الضوء خافت داخل الضريح. القماش الأخضر يغطّي القبر. صور الأئمة تملأ الجدران. صورة رجل مهيب واضع سيفه على فخذيه. يجلس إلى جانبه أسد. وصورة كبيرة أخرى لمحارب بأزياء المحاربين القدامى وقد دخل هو وفرسه إلى الماء ليملأ قربته وصور أخرى..

– تعالي يا سنونوتي؛ فأنا اتحرّق شوقاً للقائك. تعالي واطفئي ظمئي بقبلاتكِ قبل أن يفتت مهجتي..

اجلس عند رأس القبر وأقرأ الفاتحة؛ وأشعل سيجارة؛ آخذ نفساً عميقاً وانفخ الدخان نحو الشبابيك. هناك صندوق حديدي أسفل الشباك على شمال القبر وبه فتحة صغيرة لدسّ النقود. وعليه قفل ذهبي اللون من طراز جديد. في الركن البعيد من الغرفة يقبع مهد حديدي لا يظهر منه الّا قطعة صفيح على شكل منارة مصبوغة باللون الأخضر. تغطيه أقمشة وأشرطة ملونة كثيرة. أنتظر حتى يحلّ الظلام.

– أيها الليل؛ يا صديقي؛ اسكب ظلالك على القرية ليعمّ الهدوء.

تأتي بوجل متلحفة بالصمت. تضع الصرّة التي تحملها على القبر وترمي بنفسها علي

– اهلا بك يا ملاكي؛ اهلا بك يا حبيبي يا (بعد طوايفي) .. يا (بعد اچلاي)

و تطوقني بذراعيها؛ تعانقني؛ تقبلني في نحري وتدسّ رأسها بين ذراعي. اقبّلها وأدس أنفي بين ظفائرها. نقضي ردحاً من الوقت متلاصقَين. تضغط نهديها على صدري وتناجيني.

– لماذا تتأخر عليّ دائما يا مهجتي.

وتسرد لي ماجرى عليها في الفترة التي لم نلتق فيها

– انا هنا الآن؛ لماذا تذرفين الدموع يا روحي وريحانتي؟

– أنت أيضا دموعك غالية يا طفلي الصغير!

تمسح دموعي ونضحك معا وننسى كل شيء وأنسى سرّي الدفين..

– ضمّني بقوة؛ أريد أن تتكسر أضلعي على صدرك

وأنا اضمها بقوة جاهداً ألا ترى دموعي و آلامي

– قبلني؛ كم اشتهي أن تلمس شفاهك شفاهي

و أنا استسلم لها ولما تفعله.

هي تعيش وحيدة في بيت اخيها أو بالأحرى في ركن بعيد منه في قرية عرب ناصر. أذهب للقرية بحجة زيارة المرقد الواجم في الركن الغربي منها.. تأتي إليٌ ما إن ترى عيون الناس قد أفَلَت. تجلب الخبز واللبن. نفترش الأرض عند الرأس بعد طقوس اللقاء. ونأكل كطفلين وديعين. ونحلم بأماس ربيعية. ونكركر كالأطفال ونقهقه كالصبيان. ونغوص في الأماني والذكريات.
في قمة النشوة يفزّ ألم في جوفي؛ يجتاحني قلق يسوّط فؤادي؛ أشعر بحمّى تسري في عروقي يخيٌم الأسى على صدري وتصيبني القشعريرة.

– ماذا دهاك؛ لماذا هذه الدموع؟.. لماذا لا تخبرني سرّك

تسورًها الدهشة والقلق. ويطوقها الأسى. تمسح دموعي وتمسٌد على رأسي

– سري هو أنني احبكِ

أعانقها وأدس رأسي بين نهديها.

كنا أطفالا حين التقينا في ذلك الضريح لأول مرٌة. ذهبنا أنا وأمي إليه. حلقت أمي شعري ووضعته في كيس

– أنت منذور لسيد زكي يا ولدي.

ظهرت من ناحية الشط. تمشي على مهل؛ تحمل الاواني؛ جلبتها لأمي من بيتهم. فهم قيّمون على الضريح. نظرت إلى يافوخي وكركرت

– (صنديحة طگ الریحة)

كانت فتاة سمراء، تمتلك قواما رشيقا، ترتدي فستانا اخضر؛ و لها ظفيرتان متدليتان على كتفها؛ يشعان بسواد صارخ تحت ضوء الشمس. يبدو أنها في الثامنة من العمر كما أنا..
واستمرت الزيارات وتكررت اللقاءات.. عشقتها حدّ الجنون وأحبتني حدّ الهيام.

جلستُ القرفصاء في سيارتي.. طأطات راسي كي لا يراني أحد. رأيتها وهي تخرج بمعيّة العريس. تتلفت يميناً و شمالاً لعلّ يأتي فارس أحلامها لينقذها من كابوسها لكن دون جدوى. رأيت النداء في عينيها

– أين أنت يا طفلي؛ أين أنت يا صغيري؛ لماذا لا تأتي وتنقذني.

و الدموع تحفر الأخاديد على وجنتيٌ

– قل لي أنني أرى حلما وهذا ليس إلّا كابوساً

وتنزّ من صدري شهقة.. ستتركني وستنام في احضان الغرباء..

منذ سنة ولم أذهب لزيارتها.. انقطعت عنها .. قاطعتها.. انقطعت اخباري عنها..

– لن تريني بعد اليوم.

– مجنون!

وضربتني بكفها على قفاي..كيف أصارحها .. لا اريد تعاستها.. هي لا تعلم سرٌي.. هي لا تعلم بمأساتي..

بعد عام جاء اليها رجل لم تره في حياتها.. خطبها.. وافق اخوها.. لم تستطع ان تبوح بسرها.. أخرجوها من بيت أخيها ببدلة بيضاء محاطة بناس كانت تفر منهم إلى أحضاني.. اركبوها السيارة. مازالت تتلفت يمينا وشمالا. انطلقت السيارة.
ترجّلتُ من السيارة. خرجت من مخبئي. كنت آتي إلى هنا استقصي أخبارها. أذهب نحو الضريح. أشعل شمعه و أبكي عند المزار

– هل ستشرق الشمس عليك يا سيد زكي بعد اليوم. لطالما توسّلت إليك لتعيد لي رجولتي.. لتعيد لي عضوي الذكري. أما تعلم بأنني فقدته في طفولتي بفعل لدغة أفعى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى