مقالات كل العرب

فاغنر لعبة التهديد و المصلحة.. قراءة في الاستثمارات المضادة

شارك

فاغنر لعبة التهديد والمصلحة
قراءة في الإستثمارات المضادة

أ. نسيم قبها

وصفت المؤسسات الغربية تمرد مالك شركة فاغنر الخاصة، يفغيني بريغوجين، بأنه أول تهديد مباشر للكرملين من نوعه منذ الإنقلاب الذي أطاح بغورباتشوف، مع نفي امريكا لصلتها بالحادث ، مع تضخيم المؤسسات الغربية ( التمرد ) ، حيث رسمت صورة احتمال تفكك روسيا وانهيارها السياسي وسقوط بعض من أسلحتها النووية في أيدي عصابات إجرامية، مما يزيد من التهديدات الأمنية التي تواجه أوروبا ويزيد من رعب الشارع الأوروبي، الذي لايزال يعاني تبعات الأزمة الأوكرانية والتضخم والتحولات الجيوسياسية والأمنية، ويُهدد نموذج الثراء الأوروبي المرتكز على ضمانات الأمن الأميركية، وبخاصة في مجال الطاقة وطرق إمدادها، والتحديات القيمية، و”التهديدات الإرهابية”، والمرتكز أيضًا على التجارة الحرة مع روسيا والصين.
والواضح أن كافة أطراف النزاع يحاولون استغلال الحدث لأهدافهم وتأويل الوقائع لخدمة أجنداتهم. وبرغم أن المعطيات والظروف المحيطة بالحدث كالخلافات والتنافس بين زعيم فاغنر وبين قادة الجيش الروسي تفيد بخلو العملية من تخطيط أو تنسيق مسبق مع القيادة الروسية أو الدول الغربية على التمرد، غير أن الشواهد وحيثيات العملية تشي بتواطؤ القيادة الروسية عبر استدراج بوتين لزعيم فاغنر للعصيان، والاستثمار في عصيانه لأهداف عديدة، من مثل تطهير مؤسسات الدولة العسكرية والسياسية من المعارضين للحرب، وإلقاء اللوم بشأن الإخفاقات العسكرية وعدم تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب على جنرالات الجيش، وإعادة إنتاج الدور المنوط بفاغنر وضبط سلوكها وسلوك الشركات الأمنية الروسية الخاصة واحتوائها تفاديًا لتمرد وفوضى أوسع وأخطر على الداخل الروسي بعد انتهاء الحرب.
ولذلك طالما سكت بوتين على انتقادات زعيم فاغنر للقيادة العسكرية الروسية، ومدّه بأسباب التمرد عبر الضربة التي وجهها الجيش الروسي لقوات فاغنر قبل التحرك بيوم، ثم تركه يتقدم نحو موسكو دون مقاومة، وجرى إيقافه بعد ذلك بضمان عدم المساس بحياته. ومن هنا أيضًا تعمد بوتين في خطابه تخويف الشعب الروسي من الفوضى ومن العودة إلى الماضي البلشفي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن ما حصل من استدراج وسكوت على ما كان يقوم به مالك فاغنر من انتقادات وهجوم علني على القيادة العسكرية الروسية وما تبع ذلك من تحرك وصفته الدوائر الغربية بالانقلاب ووصفته السلطات الروسية بالتمرد، إنما جرى توظيفه من قبل بوتين في تحقيق أهداف تريدها القيادة السياسية والعسكرية الروسية، وهو ما بدت ملامحه في الواقع بهدف الوقاية من تداعيات الحرب والتشقق والتذمر في الداخل الروسي، وهذا التوظيف وإن كان له انعكاسات سلبية على القيادة الروسية وهيبة بوتين لكنه أخف ضررًا من فوضى عارمة أو عصيان مسلح ،أو انقلاب ، وهو ما جرت العادة تاريخيًا على وقوعه في روسيا عقب الإخفاقات أو الهزائم الخارجية.
أما بخصوص الاستغلال والاستثمار الغربي للحدث، فلا بد من التذكير أولًا بالمخطط الأميركي والذي انطلق بوتيرة عالية في الثورات الملونة، ولا سيما ثورة اختطاف أوكرانيا وسحبها خارج النفوذ الروسي، وخلق بؤرة توتر أمني وحالة من عدم اليقين حيال روسيا والرئيس بوتين، الذي نسج علاقات ودية مع ألمانيا وفرنسا، وهو ما وضع أوروبا كلها أمام تحديات كبرى بشأن المسألة الأمنية والعلاقة الأوروبية الروسية، حيث استدرجت الولايات المتحدة الرئيس بوتين لضم شبه جزيرة القرم في واحدة من أكبر عمليات ضم الأراضي التي عاشتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ثم أعقب ذلك حرب دونيتسك ولوهانسك بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية، وقيام أوكرانيا بإيعاز أميركي باستفزاز روسيا وعرقلة تنفيذ بنود معاهدة مينسك عبر الخروقات العسكرية في إقليم دونباس، وفرض الخيار العسكري الذي وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن آنذاك بأن “له عواقب وخيمة وسيغير العالم”. ثم جاءت الحرب الأوكرانية قبل عام كرد روسي على استمرار سياسة التغلغل في مناطق المجال الحيوي الروسي، ومحاصرة روسيا بـ”سوار” من الديمقراطيات الموالية للغرب، مع محاولة عزلها عن الصين من أجل الانفراد بالأخيرة لاحقًا، وتعميق حالة عدم اليقين بين روسيا وأوروبا وتغيير البيئة الأمنية بما يضمن تحكم الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي من خلال التحالف الغربي القيمي وحلف الناتو وخارطة الطاقة العالمية، وإبقاء روسيا فزاعة للأمن الأوروبي، وهاجسًا قوميًا يقوض العلاقة الروسية الأوروبية، ويفرض على الدول الأوروبية الخضوع لأميركا على المدى البعيد، من خلال الاستثمار في البنية العسكرية المعتمدة على السلاح والمظلة النووية الأميركية، وهو ما يفسر التصعيد المتتابع ضد روسيا في الحرب الأوكرانية من خلال مواصلة تسليح أوكرانيا واستغلال حادثة “تمرد فاغنر” والتخويف من انتقالها إلى بلاروسيا.
ولا يخفى أن “تمرد فاغنر” أو “محاولة الانقلاب” كما يطلق عليها الإعلام الغربي، قد وقعت في ظل الحديث عن خطة الهجوم المضاد الأوكراني، وفي ظل استغلال أوكرانيا لـ “مأساة باخموت” وجرائم الحرب التي نفذتها قوات فاغنر وفي ظل شيطنتها من قبل الولايات المتحدة، حيث لم يعد خافيًا دور فاغنر الوظيفي كمنظومة عسكرية روسية تملأ فراغ الموارد البشرية التي يفتقر إليها الجيش الروسي. وهو الأمر الذي أدى إلى نفور عدد من دول “الجنوب” من الاستثمار فيها والحدّ من تقاربها مع روسيا في ظل مساعي الصين الولوج إلى تلك الدول عبر مشروع الحزام والطريق. حيث واجه بوتين تنديدًا من تبعات الحرب الأوكرانية من قبل رؤساء جنوب أفريقيا والسنغال وجزر القمر وزامبيا وأوغندا ورئيس وزراء مصر في الاجتماع الذي جمعهم في موسكو منتصف شهر يونيو/حزيران الماضي، إذ صرح رامافوزا رئيس جنوب أفريقيا أن “الحرب يجب أن تنتهي” مما أدى لخرق بوتين للبروتوكول مقاطعًا خطاباتهم. ولذلك نجد استغلالًا روسيًّا وغربيًا لحادثة التمرد، فمن جهة روسيا فقد جاء الحدث بعد توجيه بريغوجين كيلًا من الاتهامات بالخيانة والجبن لقيادة الجيش الروسي، وبخاصة لوزير الدفاع سيرجي شويغو ورئيس هيئة أركان الجيش فاليري غيراسيموف، واتهامه لهما بالبيروقراطية وتعطيلهما فعالية قواته عبر تقاعسهما عن دعم الشركة بالأسلحة والذخائر اللازمة لحسم المعركة، وتجاهلهما لنجاحاته في باخموت وتقديمهما تقارير كاذبة للرئيس الروسي تخفي الخسائر الضخمة في صفوف الروس في الحرب الأوكرانية، وهذا الاتهام تحديدًا إنما ينأى ببوتين عن مسؤولية الخسائر البشرية الأشد وطأة على المواطنين الروس وسمعة الرئيس الذي يواجه انتخابات سنة 2024، حيث يحاول كل طرف في المؤسستين العسكرية والسياسية التملص من المسؤولية وإلقاء اللائمة على الآخر لكسب ثقة الشعب والإفلات من العقاب، وهو ما استغله بوتين من خلال حادثة زعيم فاغنر؛ ولذلك جرى حصر التمرد في الإحاطات الرسمية الروسية بتمرد فاغنر على الجيش الروسي وليس على الرئيس بوتين. ومن المتوقع أيضًا أن يستغل بوتين هذه العملية لترتيب أوضاع نظامه من أجل تحمل تبعات حرب طويلة الأجل عبر مزيد من التعبئة وإحكام قبضته بشكل كامل على البلاد وسحق أي معارضة قبل الإنتخابات بذريعة الخيانة، بالإضافة إلى ما قد يوفر هذا التمرد لبوتين من فرصة للتراجع وقبول الصلح مع أوكرانيا دون أن يتحمل تبعات هذا القرار بحجة أن القيادة العسكرية عاجزة عن تحقيق النصر الكامل.
ومن جهة أخرى يحاول بوتين إعادة إنتاج فاغنر وضبط سلوك الشركات الأمنية الروسية الأخرى، ومن ذلك ضبط النشاط التجاري المتعلق بعقود فاغنر الخارجية ومنها حقوق التنقيب واستخراج الموارد طبيعية في أفريقيا لقاء أعمال الحماية والدعم لبعض الأنظمة، ومن تلك الموارد بعض المعادن النادرة وبخاصة تلك التي تخدم التحول نحو الطاقة البديلة مثل النيكل والليثيوم بالإضافة إلى الذهب.
وهو ما يؤكده تصريح لافروف حول استمرار دور فاغنر في أفريقيا ولكن تحت سيطرة الدولة الروسية والجيش الروسي. وربما يريد بوتين أيضًا أن يرعب ألمانيا وبولندا على وجه الخصوص بنقل مركز ثقل فاغنر إلى بلاروسيا المجاورة لبولندا والقريبة من الحدود الألمانية ويشتت تركيز القوات الأوكرانية ويخفف من ضغطها في مناطق الشرق.
أما الولايات المتحدة وحلفاؤها واستغلالهم للحدث فقد ضخموا العملية ووصفوها بـ”الانقلاب”، وصوروا الأمر على أنه نهاية بوتين لخلق بلبلة في الداخل الروسي، وضخ الهواء في رئة المعارضة الروسية المختنقة من سطوته، كما استغلت أميركا إعادة انتشار فاغنر في بلاروسيا لتخويف أوروبا الغربية لا سيما وأن بوتين كان قد نشر أسلحة نووية تكتيكية في بلاروسيا قبيل التمرد، وهو ما استغلته الولايات المتحدة لتعزيز تواجد حلف الناتو في دول البلطيق وشرق أوروبا. كما استغلته لتحجيم نشاط فاغنر في أفريقيا والشرق الأوسط وإضعاف ثقة حلفائه دوليًّا وإقليميًّا ورهانهم عليه وبخاصة تركيا وروسيا وإيران، حيث نفذت حكومة طرابلس ضربة لمواقع فاغنر مؤخرًا بغرض تخويف القادة الأفارقة من الاعتماد على فاغنر بشكل مفرط، إذ ثمة ضغوط أميركية على أنظمة الشرق الأوسط وأفريقيا بإعادة برمجة علاقاتها مع فاغنر بحسب صحيفة مدل إيست آي.
في ظل هذه المعطيات وسواء كانت العملية بتفاهم أو من دون تفاهم، فإن العبرة هي بكون الحدث قد جرى استغلاله والاستثمار فيه من قبل كافة الأطراف، لكن بوتين كان المستفيد الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى