مواضيع منوعة

ضجيج.. نص مسرحي

شارك

ضجيج

نص مسرحي 

أ. حميد عقبي

مقدمة مختصرة جدا

هذا النص المسرحي الرابع والذي أنشره على موقع مجلة كل العرب في باريس وقد سعدت أن نصوصي تُقرأ هنا لمئات المرات وتصلني بعض الملاحظات وهذا شيئا طيبا يُثبت أهمية هذا الموقع كفاعل ثقافي وهو يرحب بتجارب مماثلة ومتنوعة ويساهم في تغذيتنا بنصوص مسرحية للقراءة وهذا النوع نجده مظلوما ومهملا غالبية المواقع العربية حيث تتحول النافذة الثقافية إلى نافذة هامشية غير مرئية.

المجازفة بنشر نص مسرحي تبدو خطيرة وثمة مخاوف من سرقة النص وأفكاره ولكننا يجب أن ندعم الكتابات المسرحية بكل أنواعها وكذلك تلقي هذه الكتابات  وحتى دعم والتوجه لنقد مثل هذه النصوص المسرحية المنشورة، تحية ومحبة لهذا المنبر العربي الإنساني الأصيل كل العرب.

 

مؤلف النص

حميد عقبي

باريس

 

النص المسرحي ضجيج

تظهر عدة شجيرات طبيعية قصيرة ومتقاربة الطول، ما بين متر ومتر ونصف. أحواض الشجيرات تبدو متفاوتة الارتفاع، موزعة على الخشبة تعطي شكل مثلث. تتميز الأولى بمقدمة يمين الخشبة بلونها الذي يميل للصفرة قليلا، وتتميز واحدة من الشجيرات على اليسار بطولها وشكل مثلث، وتكون واحدة في وسط المسرح بشكل الأقرب للمستطيل وكأنها عمود، ويميل شكلها للعضو الجنسي الذكوري ولكن ليس بالوضوح التام. 

بالأسفل، يظهر ما يشبه الحوض الطبيعي محاط بالكثير من الحجر والحصى، ويوجد تراب يحيط بالشجيرات لتعطينا شعورا بطبيعتها.

 

بقية جغرافيا الخشبة تظل عارية، وأقصى العمق كأنه جدار حجري عليه رسومات تعبيرية. في الوسط، تظهر أرجوحة مصنوعة من الحبال، ويميز مجلس الأرجوحة بمخدة قطنية وفرش قماش بلون أصفر.

 

تظهر الشخصية، امرأة تبدو كأنها في بداية الأربعينات لكنها تتمتع بشكل وجمال أنيق. تلبس فستانا أبيضا يميزه وجود قماش متدلي من اليمين واليسار، كأنها أجنحة صغيرة لكن شكلها كأجنحة يظهر مع حركة الشخصية. تدخل المكان كأنها طائر وهي تمسك بطرفي الفستان، دخول وخطوات تشبه رقصة هادئة. تدور حول الشجيرة الأولى بالعمق، وتسير بالوسط مكتفية بتحريك الأرجوحة، ثم تتجه إلى اليسار وتدور حول الشجرة، وتنتهي بالوصول إلى الشجيرة بمقدم المسرح، تدور حولها مرتين، وتتوقف للحظات تنظر إلى الأعلى. تصفر بهدوء.

 

يكون الصفير مع الخطوات الهادئة والنظر إلى أعلى، وكذلك تُخرج الشخصية من جيب فستانها بعض الحبوب وتنثره قرب الحوض. تعيد النظر كأنها تنتظر هبوط الطيور ولكنها لا تأتي. تبتسم، تأخذ شهيقا وزفيرا، تنظر حولها ثم تتغير ملامحها:

 

“قلت له لا لا لا، لا تعني لا.. لا تعني لا.. قلت له.”

 

تصمت للحظات.

 

 تقترب من الشجيرة أكثر وتهمس لها:

 

“أشفق عليك من البرد ولفحات الريح في مواسم الخريف والليالي الشتوية القارصة، وأشفق عليك من حر الصيف الملتهب عندما تصاب الشمس بالدمال والقروح، تلتهب أثدائها ويفيض ذلك الشيء القار الحارق والذي سرعان ما يتحول إلى دخان وذرات هالكة، وأشفق عليك من المشاغبين الذين يستمتعون بكسر أضلاعك والقساة المرعبين الذين يخططون لاقتلاعك ليصنعوا حريقهم المرعب.”

 

تصمت للحظات 

تتحرك إلى الشجيرة الثانية باليسار، تهتف لها:

 

كوني قوية، ستأتي ريح محملة بالضجيج غير المفهوم، كأنه ضجيج من لغات مختلفة من الشرق والغرب والشمال والجنوب. أنتِ تنتظرين ريح محملة بالأماني واللقاح. تريدين أن تكوني حبلى، عناقد الأحلام تتراقص لتغري العشاق وتحلمين أن يمتد ظلك من هناك. أعلم أنك تكرهين الضجيج والفوضى ومشاهد الحرائق. تشبثي بقوة حتى لا يقتلعك الضجيج.”

 

تصمت

 تندفع إلى الوسط، تُحرك الأرجوحة ثم تشير بيدها لعدة اتجاهات:

 

“هناك وربما هنا… البحر والحوت… أتذكرون ذلك الحوت العظيم الذي ابتلع كل أساطير وخرافات قرية. هناك كانوا مطمئنين وسعداء بطقوسهم، يقدسون الشمس ويتمنون أن تُشفى من سعال حاد جعل وجهها أصفرا يميل إلى البرتقالي.”

 

تتجمد للحظات

 ثم تضحك

 تعود إلى مقدمة الخشبة كأنها تريد تخاطب الجمهور. تدخل شخصية نسائية ثانية بثوب أسود مقارب لتصميم الأولى، تتجه مباشرة إلى الأرجوحة وتجلس تتأرجح، ثم تضحك تخاطب الأولى:

 

“خرج شباب القرية وفرسانها، الذين يتقنون الصيد والرمي، والذين يتقنون فنون الغناء والعزف على الناي. ذهبوا لمطاردة الحوت الجشع الذي سرق أغاني الرعاة وأهازيج الصيادين، والحان طبول فض البكارة وزغاريد أمهات الأولاد في صباح يوم ختان الصبيان. كلهم ذهبوا ولم يعد أحد. أترين موجة قادمة تحمل أغنية أو حتى صرخة شاب أو أنين عائد جريح. تمر الأيام والأسابيع والشهور ، يطول الانتظار ولا عودة  لأحدهم يحمل ولو كلمة من هناك البعيد.”

 

ترد الأولى مباشرة دون أن تلتفت:

 

تقصدين أولئك الذين ذهبوا إلى مملكة سليمان ليختبروا نواياهم ويصطادون ذلك الهدهد الواشي، لقد أقسم حبيبي أن يعود لي برأس ذلك الهدهد الذي هبط يوماً بالقرب من هنا، كان جائعًا ومنتوف الريش، فاشفقتُ عليه نخلاتنا وأطعمته وأرضعته وتعلم من الموج والأغاني لغتنا، ثم ذهب.. ناكر الجميل وأغرى الملك ففتح شهيته الملكية.

تنهض المرأة الثانية وتدور حول المرأة الأولى وعلى ملامح وجهها علامات الاستفهام.

 

الثانية:

 أنت لا تزالين في الماضي البعيد، ويبدو أنك لم تفهمي سؤالي.. أنا أتحدث عن أولئك الذين ذهبوا ليستعيدوا الأحلام من الحوت الغول.. هل تظنين أنه أكلهم؟ هزمهم؟ لن تكون هناك أحلام ولا أهازيج؟

 

ترد الأولى بغضب:

 كأن بمقدورنا أن نهزم الغول ونقول لا.. بسبب ذلك أصبحت أرضنا، مدننا وقرانا مطمعًا للحوت وأسمك القرش والغول الطائر وكل غول يسرق منا شيئًا، ونرسل الشباب والرجال ليمسكوا بهذا وذاك ولا يعودون.. ربما باعوا ذممهم وكل ما يحفظونه من أغان وأهازيج لحصاد ومواويل البحر إلى الغول والحوت وسمك القرش والثعبان و.. و.. لا أتحمل أن يظهر غول جديد ونجازف بفتياننا الصغار فيأكلهم أو يغريهم ولا يعودون.

 

الثانية:

 تحلمين ببطلك الأسطوري الثائر وأنتِ في زمن الخوف.. تعدين طعامه وتنتظرينه، تنتظرين كل مساء وأنتِ بكامل زينتك وببهجة البخور والعطور والشموع والشوق، ولكنه لا يأتي، لم يأتي قبل الف ليلة وليلة وستأتي مثلها ومثلها، هو هناك وأنتِ هنا، أنتِ هنا وهو هناك، وفرق كبير بين هنا وهناك وفرق كبير بين هناك وهنا.. مرة هو فارس ومرة كإله سومري ومرة تصبين لعناتكِ ثم تبكين وتسارعين بالاعتذار، هو لا يسمعك.. متى تفقين وتعرفين أننا أصبحنا هنا وليس هناك.

تنظر المرأة الأولى إلى الثانية وتقترب محافظة على مسافة بحدود متر، تبتسم:

 لم أكن أعرف أن الملائكة يلبسون الأسود! أحان وقت الاستجواب؟ منذ وصلت هنا وأنا أنتظر الأسئلة.. لا أعرف هل سيكون التحقيق والسؤال صعبًا؟

 

تستمر الشخصية الثانية في التأرجح وتضحك:

 تريدين العودة إلى حبيبك وكل ذلك الضجيج والفوضى هناك؟

 الأولى ترد: 

فقط للحظات كل صباح أكون بقرب البحر ووسط النخلات، على ربوة عالية أو قمة جبل وأتأمل ركض السحب الحبلى وتلك النجمات المراهقات الراغبات والباحثات عن اللذة، عودة الطيور المهاجرة وفي جعبتها حكايات وصور للبلدان البعيدة.

 

تصمت الثانية للحظات ثم ترد:

 ألا يرضيك المكان؟ أنت بين البين، ليس المحطة الأخيرة.. أسمعي، لا يحق لي أن أعطيك معلومات أكثر ولا تخبري أحدًا بمقابلاتي لكِ.. تفهمين؟

 

ترد المرأة الأولى:

 هل أنا ميتة؟ هل هنا ما بعد الموت؟ كيف كان موتي قضاء وقدر؟ هل مت مقتولة؟ مت على فراش حبيبي بعد عناقات دافئة أم في غرفة تحقيق باردة ورطبة أم تلقيت ضربة على رأسي في مظاهرة هناك؟

 

تتوقف الثانية عن التأرجح: 

أسئلتك كثيرة.. أنت هنا ليس للسؤال ولا لتلقي أجوبة.. تعرفين لماذا أنتِ هنا؟

 

تنزل المرأة الثانية من الأرجوحة وتصعد الأولى، تتحرك الثانية خلفها وتدفعها برفق لتتأرجح.

 

الأولى: 

هل مت حقا؟ كيف كان موتي؟ أشعر بأني في غيبوبة، نعسة حلم طويل لا ينتهي وماذا يعني بين البين وإلى متى يستمر؟

 

تستلم المرأة الأولى لتأرجح هادئ.. تنسحب المرأة الثانية في هدوء. تستمر بالتأرجح دون أن تشعر بالمرأة الثانية، ثم تدندن.

 

المرأة الأولى تدندن:

 

لا تخجل الشجرة من جسدها العاري، ترقص رغم أضلعها المكسورة، تبتسم للريح لعلها تقلل جنونه، يفرش البردُ أردية من سراب. مضى القمر الأزرق، نسيه الناس ولم يعد أحد يتداول صوره. ولدتني الشمس في صباح ممطر، أسمع وشوشات المطر. يأتي من النوافذ يرتسم في ذهني ذلك المشهد. أشعر أن ألوان السماء ناقصة.

 

تتوقف، تنهض وهي تنظر إلى الأعلى، تكرر عبارة:

 “أشعر أن ألوان السماء ناقصة، أشعر أن ألوان السماء ناقصة.”

 

ولكن أين ذهبت السماء؟ أيمكن أن يكون هنا المكان بلا سقف ولا سماء؟ 

ثم تعود إلى مكانها في الأرجوحة.

 

تم تسارع في التأرجح لبعض الوقت وتلتف كأنها تريد عصر جسدها. هنا تدرك أن المرأة الثانية قد غادرت أو أختفت. تضحك وتردد: 

تفعلها دائما.. تظهر فجأة وتختفي دون تنبيه ولا إخطار.. أعلم مهام الملائكة كثيرة ومعقدة.”

 

كأنها تسمع حركة وسقوط أشياء في العمق، تنزل من الأرجوحة وتسير نحو الشجرة الثالثة في العمق بحذر. 

تهمس:

 “ظننت أن خوفنا يموت أيضا بعد موتنا، لا تروق لي الأماكن المغلقة أو المحاطة بالجدران أو أسوار. ربما يأتي العشيق إلى هنا يفعل كما فعل أورفيوس لينتشل حبيبته من العالم السفلي. هل سيكون شجاعا ليأتي ويغامر؟

 

تنهض وتسير إلى الشجيرة بالوسط ثم تعود إلى الأمام وتكمل حديثها وكأن رعشة صغيرة تهز جسدها.

 

تكمل وكأنها تخاطب الجمهور:

 

“أترونه ربما هناك في العمق، أن ريتموه أخبروني، هو يحمل مفكرة أشعاره وتدوينات خيالاته المجنونة، وقد يحمل قنينة صغيرة من النبيذ الأحمر وكثيرًا ما يهتف باسمي.. لكني لا أتذكر أسمي هنا.. أخبرتني الحارسة الملاك تلك التي كانت هنا قبل قليل.. أن لكل واحد هنا أسمًا خاصًا ولا أعرف سبب تأخر الإجراءات.. هنا يوجد الزمن ولكن بشكل مختلف وكذلك المكان لكل شخص مكانًا خاصًا والحقيقة أحببت خياراتهم بهذا الديكور وربما أخذوه من إحدى صوري أيام الطفولة.. أنصحكم.. أن يأخذ كل واحد منكم صورة له من أيام طفولته في مكان جميل كهذا.. هنا ملائكة أذكياء بوسعهم أن يعيدوا الأشياء وحتى الأماكن التي اندثرت ولكن هنا وليس هناك.. هناك الكثير من الأماكن أصابها الخراب بسبب كثرة الحروب المجنونة.. أنتم الذين في هناك التقطوا صورًا جميلة لمدنكم وقراكم وأوطانكم قبل الخراب البشع والمدمر.”

 

تصمت

 

صمت للحظات

 ثم تسمع صوت عزف كلارينيت لا تدري مصدره

 تتوقف لتبحث عن مصدر العزف ثم تتجاهل المصدر وتستمتع بالمعزوفة، تتراقص كأنها في حلم هادئ. تتوقف مع نهاية المعزوفة.

 

تواصل خطواتها، تصل إلى الشجرة بالعمق، تدور حولها ولا تجد شيئًا، تمسح غصن الشجرة ثم تخاطبها:

 

“أظن أنتن في أمان هنا حيث لا يوجد حطابين، ستبقين أشجارا ولن تتحولن لمشاجب ملابس كما يحدث هناك.”

 

تجلس، تضع يدها في التراب، تغترف غرفة وتتقدم إلى مقدمة الخشبة وهي تمسكها بيدها، تضعها بحرص وهي تجثو على ركبتيها.

تهمس للرمل بصوت حزين:

 

“هنا لا تمطر ولكنك أيها التراب تحتفظ بالندى العطر.. كانوا يخيوفوننا بالدود والقوارض والظلمة الموحشة عندما كنا هناك.. أنتم الذين هناك لا تخاطروا بمسح الندى من على واجهات نوافذكم وشبابيكم، تبللوا بالمطر واحتفلوا بالثلج وصافحوا الريح.. تأملوا السماء وأرسلوا بالونات ملونة إلى النجمات العذارى وهن يرقصن.

 

كأنها في صلاة حزينة، تكون مستغرقة ولا تشعر بما حولها حيث تدخل المرأة الثانية ومعها مكنسة وملف، تقترب وتقوم بكنس حفنة التراب وحملها بالملف. هنا تنهض المرأة الأولى مترجية:

 

“أرجوكِ كوني ملاكًا رحيمًا لا تلقيها إلى العدم، ربما ثمة عاشق سيغني لها و يصلي من أجلها.

 

تخطو المرأة الثانية نحو الشجرة على يمين المسرح وتضع التراب في الحوض. هنا كأنه سؤال جديد في ذهن المرأة الأولى، تسرع نحو المرأة الثانية تسألها بترجي:

 

“هل لي ضريح؟

هل حضيتُ بجنازة ودفن وصلوات وأغاني على قبري؟

هل نبتت زهرات لتظللني؟

هل أشعلت الشموع من أجلي؟”

 

كمن يحاول التملص من رد مقنع ترد عليها:

 

“أفهمي وضعك.. لست بمكان تطلبين فيه أجوبة الآن على الأقل.. قلت لكِ أنتِ بين وبين.”

الأولى بحزن تتقدم عدة خطوات:

 

“ظننت أن كل الحقائق والأجوبة نعرفها عند الغفوة الأخيرة.. يغتالني القلق والشك هل أنا ما بعد الغفوة الأخيرة أم المشهد يتحول لكابوس مرعب.. أتذكر بعض الناس عندما يسافرون في طائرة تحلق فوق السحب تكون أحلامهم مختلفة وكذلك في ليالي القمر المنير وليالي القمر الأزرق والأحمر.. نحن في أي ليلة الآن؟ أي ساعة.”

تقترب منها المرأة الثانية متعاطفة:

 

“ربما ربما “

تصمت لبرهة

 

أقترح عليكِ أن تسلي نفسك بسقي الشجيرات الثلاث والتأرجح.. التارجح مفيد جدا لمن هو في حالتك.. سأذهب أحضر لكِ معدات السقاية.”

 

تتحرك المرأة الثانية لتجلب عدة السقاية، تتجه المرأة الأولى إلى الأرجوحة.

تدور حول الأرجوحة وتحركها، تأخذ المخدة والفرش وتضعها جانبا، تضع الحبال على جسدها وتدور وهي تفكر وتحاول تذكر ما حدث:

 

يوجد شرطة حمقى وعنصرين.. ربما صفعني أحدهم ففقدت الوعي؟ ربما الآن يحاولون انعاشي صناعيا وكهربائيا.. صدمة بعد صدمة..

تدور تتخلص من الحبال، تقع على الأرض، تتمدد على ظهرها وكأنها تتلقى صدمة كهربائية، ينتفض جسدها ثم يسقط ثم الصدمة الثانية وهكذا ثلاث أو أربع مرات.. ثم تنهض وتعود تتمسك بالحبال كأنها ستقع ثم تختلق فرضية جديدة:

 

“ربما طلقة عنيفة أو طائشة.. طلقة في الرأس.. هناك من يكره رؤوس النساء التي يفكرن أو يكتبن.. ربما مايزال القلب ينبض وبصحة سليمة لايزال قويا يدفع الدم والأوكسجين .. ربما الرصاصة أو الطعنة أو ضربة الهرواة قتلت الرأس وشلت الدماغ.”

 

تترنح كأنها أصيبت بطلقة في الدماغ، ثم تخطو خطوات وتسقط. تظل للحظات على الأرض، ثم تنهض وتعيد الموقف كأنها أصيبت بضربة هراوة، تترنح بخطوات إلى الأمام وتسقط مرة أخرى، ثم تكرر الفعل للمرة الثالثة وتتقدم أكثر إلى مقدمة المسرح وتقع. في المرة الثالثة، تظل ملقية على الأرض ولا تتحرك. تمر لحظات وهي ما زالت هامدة وجامدة. تأتي المرأة الثانية بعدة السقاية، وهي تشمل دبة ماء ومرش السقي. ترى المرأة الأولى جثة هامدة لا تتحرك، تسرع وتقلبها وتلطمها على خديها، ثم تبدأ في عمل تدليك لصدرها عدة مرات، ثم تبدأ في تنفيذ تنفس صناعي. هنا، تسرع المرأة الأولى وتستفيق وهي تضحك:

 

“هنا أيضًا تمارسون نفس تقنيتنا إلانعاش القلبي و التنفس الصناعي فم لفم. ربما أنا من عائلة محافظة.”

تظل تضحك وهي تتحدث:

 

“ظننت هنا تقنية مختلفة أو أنه لا غفوة بعد الغفوة الأخيرة. أنتِ ملاك، أليس لكِ قدرات خارقة؟ وتقولين كذا وكذا كما تفعل الساحرات. يبدو أن خيال الإنسان تجاوز كل المعجزات في أفلام الرعب والسحر والفنتازيا. توجد شخصيات خارقة جداً وألعاب فيديو، لا أدري هل مسموح لكم لعبها ففيها دهشة وإثارة، متعة وإدمان عجيب غريب.”

تنهض المرأة الثانية ولا تثير أسئلة ولا ترد على أجوبة. تشير إلى معدات السقي:

 

“سأدعك تسلين نفسك بألعاب سقي الشجيرات.”

ثم تغادر خارج الخشبة.

 تنهض المرأة الأولى وهي ماتزال تحاول السيطرة على نفسها من نوبة الضحك. تهدأ قليلاً كأنها تتذكر ما يجب فعله، تنظر إلى معدات السقي. تأخذها وتسير بخطوات نحو الشجيرة بيسار المسرح وتبدأ بالسقي بلطف. تهمس للشجيرة:

 

تستمتع بسقي الشجرة وتنفخ بعض الأوراق.

تقوم بتلوين بعض الأوراق باستخدام أحمر الشفاه الذي يكون في جيبها، تستخرج مقصًا صغيرًا من عدة السقي، تأخذه وتلعب به وتقترب به نحو إحدى الأوراق، ثم تتراجع مذعورة. تهمس وتردد:

يلبسُ الليلُ المعاطف لكنها باردة

يسد انفه بسبب أدخنة الجثث المتفحمة

لا ماء ولا مطر للأحياء والموتى

الكل سواسية في العذابات

لا خمر للعشاق

لا حبر لمن يرغب في الكتابة

تئن الأرض

السماء أكثر قسوة

صامتة

باردة.

 

“تعيد ترديد مقطع كأنها تلحنه.

تئن الأرض

السماء أكثر قسوة

صامتة

باردة.

تمرر المقص على شعرها بهدوء، ثم تقص بعض الشعرات، تربط بعض الشعرات بأحد الأغصان الصغيرة وتردد.”

 

ترقص حول الشجرة، تهذي:

 

“كأني أتذكر مقطعاً من قصيدة قالها شاعري الذي عشقته لألف ليلة وليلة، وربما أكثر. أحاول أن أتذكر ما قاله عن عالم ما بعد الموت. ذاكرتي ضعيفة ومترهلة.”

 

تتوقف وتدور بحركات متعددة، تمارس تمارين رياضية بسيطة لتنشيط ذاكرتها، كأنها تتذكر شيئًا، تسرع نحو الجمهور وهي فرحة.

 

تلقي مقطعًا من قصيدة حبيبها:

 

لماذا نخاف أن يعود أحد الموتى؟

ربما نخاف أن يخبرنا

أن لا شيء بعد الموت.

يعدنا الموت أنه سيأخذنا إلى

أماكن لطيفة

وسيكون أطفالنا فراشات لا تشيب

لا يتغير لونها

أنهم لن يجوعوا بعد الموت ولا نحن

جروحنا الدامية ستنزف مسكًا وعطرًا

وسيضحك الله لنا كل صباح.”

 

ثم تقف في وسط المسرح للحظات، تتجه إلى اليمين وهنا تستعد للرقص بأخذ شهيق وزفير ثم تبدأ الرقصة بتألق ضوء خافت يميل إلى البنفسجي يسلط الضوء على المرأة الأولى، ثم بقعة ضوء مشابهة بلون أصفر للمرأة الثانية، تكون الأولى باليمين والثانية باليسار.

 

تبدأ الموسيقى بإيقاع هادئ مع آلة الكلارينيت تندمج مع صوت الأمواج البعيدة.

 تبدأ المرأة الأولى بحركات بطيئة ورقيقة، ترسم خطوطًا في الهواء بيديها، مع تدفق جسدها بانسيابية. تعكس حركاتها حالة من الفقدان والبحث.

 

ثم تبدأ المرأة الثانية بالاقتراب مع وجود مسافة بينهما قصيرة، وتكون حركاتها أكثر انسجامًا مع الموسيقى. يتحول الإيقاع إلى أكثر حيوية، ويزداد تناغم الحركات بينهما.

 

تتحول الحركات إلى لغة تعبيرية، حيث يظهر الصراع الداخلي للمرأة الأولى. تتبعها حركات توازن بين الألم والأمل، مما يضيف بعدًا عاطفيًا إلى الرقصة.

 

تكون المرأة الثانية كأنها تحاول أن تقترب أكثر، ولكن وكأن قوة خارجية تبعدها عن المرأة الأولى وتجعلها تقع على الأرض. تحاول المرأة الأولى مساعدتها، كأنها تتلقى صفعة تجبرها أيضًا على التراجع. تتلاشى المرأة الثانية تدريجياً في الظلام، فيما تتسارع حركات المرأة الأولى وتصبح أكثر غموضًا. يصاحب ذلك تلاشي الموسيقى.

 

تنتهي الرقصة بسقوط المرأة الأولى على الأرض، حيث تنعكس معاناتها وتحاول التماسك والنهوض مرة تلو مرة. تزحف كمن يطلب دعم الجمهور وتحاول أن تعقد معه شراكة تفاعلية وعاطفية.

 

تصمت للحظات 

ثم تنهض وترفع أجنحة فستانها كأنها تطير مستمعة بحلم جديد يخرجها من الحالة السابقة، ويظهر هذا بوجود أضواء متعددة تتساقط بدفء.

 

تردد المقطع الأخير مقتربة من مقدمة المسرح:ـ

 “وسيضحك الله لنا كل صباح، وسيضحك الله لنا كل صباح”. 

تتوقف وتتأمل السقف وكأنها تبحث عن شيء ما.

 تسأل:ـ 

لم يحدث ذلك، لم يحدث ذلك. لم تحدث هنا أشياء كثيرة كنا نظن أنها ستحدث. كان الجميع يتحدث.. الجدات والشعراء والحكايات وكتب السماء. ربما أنا حالة خاصة أو جديدة، ولم يُسجل اسمي هنا بشكل رسمي ولم أمنح بطاقة ولا هوية ولا اسم ولا صفة، وهذه الملاك لا تملك الكثير من الأجوبة. اعتقدت أن الملائكة أكثر علمًا منا بعالم هنا، اللأمرئي لكم، وأنتم تتخيلونه وتكتبون عنه وفقًا لما وصلكم من صحف وكتب وحكايات. جميعكم غالط. الأمر مختلف هنا خصوصًا كحالة مثل حالتي ليست مسجلة رسميًا لكي أكون من أهل هنا”.

 

تعود إلى حبال الارجوحة وتتشبث بها، تتسلق وتصعد وكأنها تود الوصول إلى أعلى ثم تحدث نفسها:ـ 

ماذا لو هذه الحبال تجعلني أصل إلى صدر الشمس، سأهمس لقلبها وأقول له قلبي ينتظرك، حديقتي والأشجار وضفتي حيث لكل موجة سبع سيقان وثلاثة أجنحة، وحتى الأحلام تسبح بحرية وتمارس التزلج على الأمواج والطيران الشراعي كان ذلك شرعيًا ومسموحًا وتقام مباريات أجمل الأحلام وأشجعها ويكون أكثر دهشة وكان روميو يغني لحبيبته يواعدها عند النهر والبحر وقيس بن الملوح يقبل ذا الجدار وذاك الجدار ويرسل لليلى قصائده وقلبه المجروح وجميل بثينة وكل العاشقات ينتظرن رسائل توضع في سيقان الحمام الزاجل والفراشات الأميرات والزهرات يضحكن ويلوحن للغيمات الحبلى والقمر الأنيق”.

 

خلال هذا الحديث، تتعامل مع حبل الارجوحة كأداة متعددة الدلالات وتخلق لوحات تشكيلية بدعم من إضاءة خاصة حالمة.

 

تترك الأرجوحة وتعود حيث معدات السقاية. تأخذها وتتجه بعمق المسرح وهي تهتف متفاخرة:ـ

 “قضينا ألف ليلة وليلة مشبعة باللذة. في الشهور الأولى، لم نسأل أنفسنا أي سؤال. كنا نمتزج معًا ونغيب عن الوجود، ونفعل الحب الصباحي ببطون خاوية، وبعد الظهر والليل، مملكتنا وبحرنا العميق. قبلاته هنا مرسومة على صدري وأسفل بطني ومؤخرتي وكل جغرافيا جسدي. أيتذكرني الآن؟؟”

 

ينخفض صوتها مع نبرة حزن تردد مع وصولها للشجرة 

بالعمق، كأن الهتاف يتحول إلى همسات للشجيرة:ـ “أيتذكرني الآن؟؟ أيتذكرني الآن؟؟ أيتذكرني الآن؟؟

تحاول أن تخرج من قسوة السؤال وتأثيراته الحزينة والمقلقة. تسقي الشجيرة بفرح وتساوي التراب، تأخذ حفنة وتشمها وتمسح بها يديها كأنها، تضع قليلا على جبهتها، ترسم صليبا بالتراب المبلل على صدرها. تقترب بخطوات سريعة إلى مقدمة الخشبة وهي تعيد رسم الصليب على صدرها وتضع خط على جبهتها كما يفعل الهندوس.

 

تهتف:ـ

 “لا أرى السماء ولكني سأكتب إليها رسالة خاصة، وأريد أجوبة لكل أسئلتي المقلقة ولماذا لست مسجلة رسمياً في هنا ومن أهل هنا رغم أنني غادرت هناك؟ أريد توصيفًا مقنعًا لحالتي، فلا أنا فهمت ولا أحد يفهم حالتي.”

 

تضع بعض التراب على رأسها، تسارع وتتحرك تجاه الشجرة بالعمق، تأخذ معدات السقاية وتركض نحو الشجرة الأخيرة عند يمين مقدمة الخشبة. تتراقص وتدندن وهي تسقيها وتتغنى:ـ “

(على أشجار الجنوب فاكهة غريبة. دمٌ يلوّن الأوراق ودم منسدل فوق الجذور، أجسادٌ سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب. فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور…)” تتغنى بالمقطع بطرق متعددة، كأنها تسمع لحن وعزف كلارنيت مع غنائها.

 

تردد عدة مرات عبارة

 “لن أتأخر”.

 

هنا تدخل المرأة الثانية وكأنها سمعت شيئاً آخر، تتدخل بعبارة:ـ 

تظنين أنك تأخرتِ عليَّ؟ لديكِ أشياء كثيرة للتسلية هنا. هنا أيضاً للراحة وربما النسيان.” تسير المرأة الثانية وتشاهد أحواض الشجيرات الثلاث، تصفق مهنئة:ـ “أنتِ ماهرة وفنانة في السقي. عملٌ جيد. يمكنكِ العودة للتأرجح.”

 يبدو أن منظر التراب على وجه المرأة الأولى لم يعجب المرأة الثانية، تسارع بالخروج وتعود سريعاً معها بمناديل معطرة وعلبة مكياج ومعدات تسريح الشعر. تضع الأدوات بجانب الأرجوحة ثم تسير وتأخذ بيد المرأة الأولى وتجرها حيث الأرجوحة. تفرشها بعناية وتدع المرأة الأولى تجلس، ثم تبدأ بتسريح شعر المرأة الأولى ومسح وجهها وتجميلها. تكون المرأة الأولى هادئة نادراً ما تتحرك قليلاً، لكن المرأة الثانية تدفعها برفق من حين إلى آخر، هنا أيضاً تعدد دلالات الأرجوحة، الفعل كذلك يكون مشحوناً بنظرات وهمسات لا يسمعها أحد، نوع من الاستسلام التام للمرأة الأولى وسيطرة تامة للمرأة الثانية وثمة علاقة لطيفة وحميمية.

 

تنقل عملية التسريح والتجميل من الأرجوحة إلى الأرض بمقدمة الخشبة، تنزل المرأة الأولى وتسير بخطوات هادئة، تختار مكانًا بمقدمة وسط الخشبة، تجلس وتتبعها المرأة الثانية بعدتها وتجلس خلفها، تحدث بعض التحولات المهمة بين الشخصيتين فالمرأة الثانية (الملاك) أو الحارس تصبح أشبه بالأم والأخت ثم يتولد الشعور بالصداقة وأكثر من ذلك، فنرى كأننا نشاهد صديقتين تزداد الألفة والمودة بينهما ولم تعد هناك تباعد جسدي وعدم تلامس كما كان يحدث بالبداية، تبتسم المرأة الأولى ويبدو الإنسجام أكبر رغم غياب الحوار لكن ملامح الوجوه تكون متدفقة بالعاطفة الرومانسية. تبدو الشخصية الأولى سعيدة تهمس بكلمات لا نسمعها بفرح، تبتسم المرأة الثانية وتستخرج عقداً من الزهر وتاجاً من الورد، تضع التاج فوق رأس المرأة الأولى والتي تنهض فرحة تتراقص كفراشة، تضع المرأة الثانية لها أيضاً عقداً من الزهر والورد حول عنقها. تتراقص المرأة الأولى وكأنها تبحث عن شيء تنتظر تردد:ـ 

أخبريني هل سيتم تسجيلي رسمياً من أهل هنا؟ أريد أن تظلي ملاكي اللطيف،  سئمت الانتظار ولم أكن أعرف أنني سأظل لا شيء. أنا هنا وغريبة عن هنا ولا أعرف حقوقي وما سيحدث هنا؟ أريد ألا أظل مفقودة وتائهة. ربما لآن الموت أخذني من بلاد الحرب. لا أعرف شيئاً عما حدث وكيف حدث ومتى حدث؟ تقتلني هذه الحيرة والأسئلة وهذا الضياع.”

 

ترد المرأة الثانية وكأنها مشفقة على المرأة الأولى:ـ 

لستُ عليمة بأي شيء ولكن أظن أننا سنتلقى معلومات مهمة عن حالتكِ. يوجد الكثير من الارتباكات وحالة فوضى هنا كما هناك. مهمتي محددة وبسيطة وأتمنى ألا تعتبريني سجانةً قاسية. مهنة الملائكة صعبة وليست كما تتصورونها هنا. فلا نحن أقوياء ولا نحن مخلوقات خارقة وعالمة بالغيب.”

 

تستكمل هنا المرأة رقصتها وهي رقصة شرقية، تصفر وكأنها تبحث عن بحرها ونهرها. وهنا تنسحب المرأة الثانية بهدوء مع عدتها دون أن تشعر بها المرأة الأولى، التي تندمج وكأنها تغيب عن المكان وهي ترقص. تتوقف للحظات، تأخذ أنفاسها ثم تركض إلى الشجيرة بالعمق ثم تتأرجح ويكون التأرجح قويًا. تستمر لبعض الوقت، بعدها تُوقف الأرجوحة كأنها تعبت. تظل تصفر وكأن بيدها حفنة من حبات نوى التمر، تعود إلى مقدمة المسرح لا تجد المرأة الثانية وكأنها تفتقدها وتبدأ البحث عنها.

 

تهتف بصوت أعلى:ـ 

“أنتِ أيتها الملاك الصريح. أخاف أن يتم إيقافكِ عن الخدمة أو معاقبتكِ لصراحتك أو تتحولين إلى بخار وسراب. كأني سمعت شيئا كهذا، فالملائكة لا تموت. لا يوجد ملاك موت مخصص للملائكة السماوية ولكن في حال طرحهم لأي سؤال أو في حالة الحب والعشق فقد يتحولون إلى سراب. كأني أتذكر حبيبي الشاعر كان يقول هكذا. نعم أتذكر الآن هذه مقولته: لا يحق للملائكة أن تعشق. العشق جريمة تعني الفناء. هل من العدل أن نعاقب العشاق والعاشقات بهذه القسوة؟ يتحولون إلى سراب. سراب كاذب يؤدي إلى التهلكة ولا يقود إلى أي حلم.”

 

يزداد إنفعالها وكأنها تشفق على المرأة الثانية، وكأنها تخشى أن تصرح بهذا المشاعر. تعوضها بالمناداة على بحرها البعيد، يتضح هذا من خلال ملامستها لشعرها وجسدها، والحركة في جوانب المسرح والشجيرات الثلاث، ثم العودة إلى الأرجوحة حيث تلمسها برفق. ثم تعود إلى المكان حيث كانت تجلس خلال تمشيط الشعر والتجميل، وكأنها تبحث عن شيء أو ذكرى للملاك، كأنها تفتقد القداسة.

 

المرأة الثانية (الحارسة أو الملاك) قد تحولت إلى صديقة مقربة للمرأة الأولى، وتظل تهتف وتردد:ـ

 “ملاكي لقد أصبحنا، أنا وأنتِ، أكثر من مجرد صديقتين. تمشطين شعري ونتبادل النكات المغرية، تلمسين صدري وأنتِ تبدلين فستاني، أشعر بلمس أصابعك وهي تداعب حلمة صدري، تغسليني جسدي العاري وأغوص برغوة الصابون لكني أرى الرغبة في عينيك وأسمع نبض قلبك وجريان الدم النوراني في عروقك. نحن نتقارب وأنا سعيدة بك سجانة وصديقة، لكنك ربما تخافين أن تتحولي إلى سراب، تخافين العشق وأن يمسخوك إلى سراب، أليس كذلك؟”

 

تتوقف المرأة الثانية، تبدو حزينة وتلتفت يمينًا ويسارًا، ثم تركض بجوانب الخشبة وتهمس للشجيرات الثلاث واحدة بعد الأخرى بكلام ووشوشات لا يسمعها أحد. تعود إلى مقدمة المسرح، وفي رأسها الكثير من الأسئلة:ـ 

هل يوجد هنا كاميرات مراقبة؟ أم أن أحدكم أرسل شيئا إلى السماء وحلل كما يحلو له؟ ولماذا لا نقع في حالة عشق مع ملاك مذكر أو مؤنث؟ لقد تغيرت الكثير من القوانين الأرضية وربما كذلك السماوية. فلماذا تعترضون على حالة عشق؟ حالتي الآن، لم أعد أشعر بعشيقي الشاعر، وربما هو الآن مخمورٌ يترنح قرب الشط أو القناة ويدخل من حانة إلى أخرى يتأمل صدور وأفخاذ النادلات ويكتب عنهن. نسيني ونسي ما حدث بيننا وما فعلته من أجله. أنا أيضًا يجب أن أشق طريقًا آخر. ها هي الرغبة تدعوني إلى لذة مختلفة لم أجربها. لم أجرب اللذة مع أنثى، ولكن هنا ستكون مختلفة مع أنثى مختلفة وامرأة مختلفة مع ملاك. أتفهمون معنى ملاك؟”

 

تكرر المقطع كأنها تعيد لها بعض ابتسامتها:ـ

 “هنا ستكون مختلفة مع أنثى مختلفة وامرأة مختلفة مع ملاك. أتفهمون معنى ملاك؟”

 

كأن المرأة الثانية سمعت جملتها الأخيرة، حيث تظهر قادمة من العمق وتظل متوقفة بعد خطوات هادئة وغير محسوسة، يشتد انفعال المرأة الأولى وتهمس ثم ترفع صوتها أكثر:ـ “سرحت شعري ومنحتيني عقدًا من الزهر وتاجًا من الورد، شعرت بهمساتهك الدافئة وأكثر من ذلك، حرقنا المسافات بيننا والآن أفتقدكِ. 

تتقدم إلى مقدمة المسرح لتقدم نفسها كعشيقة وعاشقة:ـ 

أفتقدها منذ مغادرتها، أو أخاف أن مهمتها انتهت، أو ربما هي كسرت حواجز وقوانين لا أعرفها. ثمة من راقبنا أو نقل أخبارنا، ولربما هي الآن تعاقب كهاروت وماروت. أعتقد أنها ستعلق ما بين السماء والأرض هنا قرب غابات سوقرة أو في جبال الأرز والصنوبر، أو في بلاد سومر حيث وجد جلجامش صديقه أنكيدو، حيث أول صداقة بين عالمين. خفت من التصريح بالفقد، وأشعر أن المكان يفقد سحره بلا حب وصداقة. تفقد القصور والحدائق بهجتها في العزلة نشعر بالغربة وإن كنا في الفردوس.”

 

هنا تسمع ما يشبه ضجيج الأمواج، ثم عزف الكلارينت، يعلو الصوت ويرتفع أكثر وأكثر. تبتسم وتفرح:ـ

 “ربما حولوها إلى موجة، وربما تركت لي ذكرى، وربما قطرة ندى على أحدى هذه الشجيرات. أشعر بالصداع، أفتقدها وأريد أن تغسل جسدي، أكون عارية ثم أهزها إلى لنمتزج معاً وليحدث ما يحدث بعد ذلك.”

 

تركض فرحة بجوانب الخشبة دون أن تنتبه إلى العمق، وحينما تلتفت إلى العمق، تركض نحو المرأة الثانية وتسرع ترتمي بأحضانها، لكن المرأة الثانية لا تبادلها نفس ردة الفعل، تتجمد وتظهر تصرفات رسمية من تصرفاتها وملامحها، تدفعها بقسوة بعيدًا، تصبح المرأة الثانية كرجل الي وبملامح جامدة. المرأة الثانية ـ بجمود ـ

“تلقينا المعلومات الجديدة وسنرد على أسئلتكِ. حدث خطأ غير مقصود من ملاك الموت. بقي من عمرك تسع سنوات وتسعة أشهروتسعة أيام وتسعة ساعات وتسع دقائق. ستعودين إلى هناك لقضاء هذه المدة، بسبب الفوضى هناك حدث خطأ غير مقصود ولذلك نعتذر عن هذا الخطأ ويجب أن تعودي إلى هناك.”

 

تضرب المرأة الأولى بيديها على رأسها وتلطم خدها لهذا الخبر الصاعق وتسأل:ـ 

أتمزحين؟ حدث خطأ غير مقصود من ملاك الموت ليأخذني من هناك إلى هنا؟ أظل هنا لزمن لا أعلم مدته وأقع أخيرا في عشقكِ؟ أقبل بهنا من أجلكِ وأنسى هناك والآن تقولين لي خطأ غير مقصود من ملاك الموت؟ بأي صورة أعود وأي زمن؟ أريد أن أكون معكِ هنا أو هناك..لماذا تجمدت ملامحكِ وأصبحتِ كرجل الي..سوف أوافق للبقاء أو الذهاب إلى هناك شرط أن تكوني معي.”

 

ترد المرأة الثانية وكأنها شرطية آلية فاقدة لأي أحساس أو مشاعر:ـ 

قُضي الأمر، هذه أوامر عليا يجب تنفيذها وقد يصرف لكِ تعويضاً بمضاعفة حياتك هناك، لا يحق لك البقاء هنا ولست من أهل هنا.”

 

تتجمد المرأة الأولى كمن يود الصراخ وإعلان الرفض وقول لا، يحدث ارتباك في الضوء

 يعلو عزف مرتبك يشبه صوت الكلارنيت ثم يمتزج بصوت ريح عاصفة وتلاطم الموج.

 ظلمة تامة

 تستمر الأصوات بشكل مرتبك. 

صمت تام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى