مقالات كل العرب

قراءة في رواية “روح النهر” لليلى ابو العلا

شارك

قراءة في رواية ” روح النهر ” لليلى أبو العلا

بقلم: د. خالد محمد فرح

رواية River Spirit أو ” روح النهر ” هي أحدث عمل أدبي ظهوراً لليلى أبو العلا، هذه الروائية السودانية ذائعة الصيت، التي تكتب باللغة الانجليزية، و أول من فاز بجائزة ” كين ” البريطانية للرواية الافريقية المكتوبة باللغة الانجليزية، والتي تُرجمت رواياتها ومجموعاتها القصصية حتى الآن، إلى حوالي خمسة عشر لغة عالمية بما في ذلك اللغة العربية.
صدرت رواية ” مناجاة النهر ” او River Spirit كما هو عنوانها الاصلي، في مطلع شهر مارس الحالي 2023م، عن دار الساقي اللندنية بترتيب مع دار Grove Atlantic الاميريكية، التي هي الناشر الأساسي لأعمال ليلى أبو العلا، في 305 صفحة من القطع المتوسط.
تعرفت على ليلى ابو العلا كفاحا عندما التقيت بها لاول مرة بقاعة الصداقة بالخرطوم في شتاء عام 2015م على ما اعتقد، عندما تم تكريمها بواسطة لجنة جائزة الطيب صالح للابداع الكتابي في ذلك العام، رغم اننا قد تعاصرنا طلابا بجامعة الخرطوم في النصف الاول من ثمانينيات القرن الماضي، ولكننا لم نكن نتعارف، غالباً لأنها كانت تدرس الاحصاء بكلية الاقتصاد، بينما كنا نحن بكلية الاداب، وكنا نتقدم دفعتها بعام او عامين. وقد سعدت جدا ببروزها منذ بضعة عشر عاماً كروائية سودانية ذات موهبة عظيمة، نوهت بها الملاحق الادبية بكبريات الصحف العالمية، وخصوصاً في العالم الانجلوسكسونيي. وقد سبق لي ان نشرت من قبل، مقالين عن روايتيها ” مئذنة بريجيت بارك ” و ” كرم الأعداء ” على التوالي.
ثم اننا صرنا اصدقاء عبر تطبيق فيسبوك، وصرت من المداومين على الاطلاع بانتظام على مقالاتها وجميع منشوراتها، بما في ذلك سائر انشطتها الادبية والثقافية، ومن بينها بطبيعة الحال، احتفاؤها الواضح بصدور روايتها هذه التي نحن بصددها الآن، وحرصها الظاهر على الترويج لها عن طريق نشر مقتطفات عما نشر عنها في الصحافة الادبية العالمية، ومقاطع من تسجيلات لمقابلات اجريت معها حولها.
كل ذلك شوقني للاطلاع على هذه الرواية، فلم اصبر حتى تصل الى المكتبات حيث اقيم الان او لا تصل، فاتصلت بفرع لمكتبه WHSmith الانجليزية فجلبت لي نسخة من الرواية من لندن في غضون أقل من اسبوع.
إنّ رواية ” مناجاة النهر ” هي في الواقع رواية تاريخية متخيلة، تحكي قصة حب ظلت تنمو وتتوالى فصولها على نسق تصاعدي، بالتواشج مع جملة من الاحداث والمواقف التاريخية التي شهدها سودان أواخر عهد الحكم التركي المصري، وطوال فترة الثورة والدولة المهدية 1881 – 1898م، وحتى غروب شمس هذه الاخيرة، بسحق مدفع المكسيم المبير، وقذائف البوارج النهرية الرهيبة، لجيش الخليفة عبد الله التعايشي في معركة ” كرري ” غير المتكافئة، التي وقعت في يوم الجمعة الثاني من شهر سبتمبر عام 1898م، ايذاناً ببدء عهد الاحتلال الثنائي البريطاني المصري للسودان.
تجمع قصة الحب تلك بين شاب تاجر في مقتبل العمر ، من شمال السودان اسمه ” ياسين “، وفتاة صغيرة في الحادية عشرة فقط من عمرها عندما تعرفت عليه لاول مرة، تنتمي الى احدى القبايل النيلية القاطنة في ديار الشلك بنواحي ملكال، كان اسمها الاصلي ” أكواني ” ثم تم تغييره الى ” زمزم ” عندما انتقلت للعيش في شمال السودان هي وشقيقها الصغير ” بول ” الذي صار اسمه ” اسحاق “.
كان ياسين يتردد على قرية اكواني ببضاعته المجلوبة من الشمال في اواخر سنوات العهد التركي بالسودان 1821 – 1885م ، وينزل ضيفا عند والدها في منزلهم، وكانت تربطه بوالدها علاقة صداقة وتبادل تجاري حيث كان والدها يستضيفه ويكرمه، ويزوده بمنتجات المنطقة وخصوصا الصمغ العربي، بينما يجلب له ياسين مختلف السلع الاستهلاكية وغيرها من مدن الشمال. ومن هنا نشات علاقة محبة عميقة وتعلق واضح من قبل اكواني وشقيقها الطفل الصغير بالتاجر ياسين، الذي كان يبادلهم المحبة الصادقة، كما كان يكن احتراما وتقديرا شديدا لوالدهما.
بدأ حباً طفولياً اخوانياً بريئا من قبل اكواني ، كما بدأ ايضا حباً صبيانياً اخوانياً بريئاً من جانب ياسين الشاب المهذب وعميق التدين ، والذي يتمتع بحس انساني واخلاقي شفيف، عمق من صدق وفائه لاسرة اكواني التي احتضنته في موطنها البعيد عن موطنه، وبيئتها المختلفة عن بيئته، ثم حدث ما حدث بعد ذلك، وخصوصاً فيما يلي اكواني التي احبت ياسين حباً جارفاً ملك عليها اقطار نفسها، بعد ان كبرت وشبت عن الطوق. ثم صحا حب ياسين الصبياني والاخواني القديم لها من غفوته في طور جديد، تجاوباً بكل تأكيد مع ما أحس به ياسين غريزياً، من انجذابها الانثوي نحوه كرجل.
تبدو اكواني منذ طفولتها في الرواية، فتاة رومانسية في منتهى الحساسية ، والذكاء المفرط، ورقة المشاعر، ودقة الخيال. وآية ذلك مداومتها على الذهاب الى ضفة النيل الابيض الذي يمر عبر ديارهم، وترقد قريتهم الوادعة على ضفته، حيث كانت تناجي النهر وتبثه شجونها الطفولية واسرارها. والابلغ من ذلك ، انها كانت تتخيل ان للنهر روحا تناجيها هي الاخرى وتتجاوب معها. وهنا لعمري، نلمح ملمحاً من ملامح تبني ثيمة النهر كمصدر وحي ومنبع اسرار مشتركة، بين ليلى ابو العلا والطيب صالح. يتجلى ذلك على سبيل المثال في علاقة الراوي الصبي بالنيل في قصتي ” نخلة على الجدول ” و ” حفنة تمر ” لهذا الاخير على سبيل المثال.
وفي ذات يوم شنت مجموعة من صائدي الرقيق، غارة مفاجئة على قرية ” أكواني ” فقتلوا اباها ونهبوا ممتلكاته واحرقوا منزله وقتلوا عددا كبيرا من رجال القرية واسترقوا عددا اخر من فتياتها وفتياتها قسرا. فما كان من ياسين الا أن قام بواجبه تجاه الاسرة التي اوته على الوجه المطلوب، فحمل اكواني وشقيقها بول معه الى مدينة الابيض وعهد بهما الى شقيقته الكبرى حليمة، فربتهما كمثل ابنائها تماما ، وادخلتهما الاسلام ، وغيرت اسميهما الى زمزم واسحاق على التوالي.
ومن ثم تتوالى فصول الرواية تباعا مع اواخر سني العهد التركي المصري، التي شهدت ارهاصات ظهور الامام محمد احمد المهدي ودعوته. وفي هذه الاثناء ، يسافر ياسين للدراسة بالازهر الشريف، وتنتقل اكواني او زمزم للعمل خادمة ببيت مدير المديرية التركي ، في خضم فترة عصيبة انتهت بحصار الابيض بواسطة انصار المهدي، حتى اضطرت المدينة للتسليم له ، وصار نصيب مديرها التركي محمد سعيد جراب الفول الاعدام ضربا بالسيف.
تتالف فصول الرواية من لوحات قلمية متعاقبة، تصور شخصيات ومواقف شخوصها السبعة، واوضاعهم خلال زمن الرواية، وخصوصاً بإزاء حدثها الاكبر الا وهو اندلاع الثورة المهدية وما تلاها من احداث مزلزلة على الصعيدين الشخصي والعام، بمن فيهم ياسين وبعض افراد اسرته الذين توزعوا في ولاءاتهم ما بين ثوار وفلول ، وبالطبع أكواني، التي لم يبد عليها اي اهتمام خاص، او مبالاة ملحوظة بما يجري حولها من الحقب تركية كانت او مهدية، ولا بتصاريف الاقدار التي رفعت أقواما وحطّت آخرين، بما في ذلك ما انطوت عليه من محن واهوال فظيعة، طالتها هي نفسها وأسرتها ، ومسقط راسها ومسرح طفولتها بصورة مباشرة، وانما كانت معنية فقط بالاحرى بحبها لياسين وتحت كل الظروف. وهنالك من شخوص الرواية، شخص آخر يدعى موسى، وهو رجل مقاتل انصاري صميم، كان سكيرا عربيدا في شبابه، وفاتكاً متمرداً مخوف الجانب، ولكنه تاب واهتدى، وآمن بالمهدي ودعوته أصدق إيمان، وصار من اخلص اعوانه المقربين الذين يعهد اليهم بالمهام السرية والخطيرة، بينما تقلبت سفينة الحياة باكواني في مجراها الصاخب، فتنقلت في الاسترقاق من سيد لسيد، وزاولت مختلف المهن، ولكن قلبها المخلص ظل مقيما على حبه القديم لياسين فقط، رغم انه تزوج بمصر امراة مصرية رفضت المجئ معه الى السودان، ثم تزوج فتاة من عائلة الشيخ الضرير المرموقة بتوتي، التي انجبت له ولدا اسماه ” رستم ” ، كدلالة على انحيازه للادارة التركية وحلفائها المحليين ، وعلى رأسهم نفر من المشايخ والعلماء ، مثل الفكي الامين الضرير ، وموقفهم المناهض لمهدية المهدي ، وذلك بحكم العلم والثقافة الفقهية النصوصية التي تلقاها ياسين بمصر.
وتمضي بنا الرواية من خلال رسم ملامح تلك الشخوص، و خصائصهم الجسدية، ونزعاتهم النفسية، وسرد حكاية كل منهم ، وبيان وضعه من مجريات الاحداث ، مرورا بانتصارات المهدي في الجزيرة ابا وقدير والابيض وشيكان، وصولا الى حصار الخرطوم وفتحها عنوة على أيدي انصاره في يوم 26 يناير 1885م ، الذي شهد محاولة موسى قتل ياسين – مع سبق الإصرار والترصّد – بضربة قاضية من سيفه البتار ، عقاباً له على موقفه المناوئ للمهدية ، ولكن الضربة لم تكن مميتة حقا ، فخبأه اهله في داخل حفرة، وادعوا انه قد مات بالفعل، مما اضطر زوجته صالحة الى طلب الطلاق منه، لانها قد علمت انها سوف تزوج قسرا لرجل اخر من انصار النظام الجديد، بحسب القرار الذي صدر عشية سقوط الخرطوم في يد الانصار، وذلك حتى لا تقع في الاثم بزواج رجلين في وقت واحد، كما شهد مصرع غردون باشا ، احتمالا على يد الانصاري موسى المذكور نفسه بحسب الرواية، ثم انتهاء بوفاة المهدي الفاجعة والمفاجئة بعد ستة اشهر فقط من ذلك التاريخ، لكي تبدا بعدها فترة حكم الخليفة عبد الله، التي سوف تستمر حتى وصول حملة كتشنر على راس جيش استعادة احتلال السودان في 2 سبتمبر 1898م. وقد كان من بين شهداء كرري: اسحق شقيق زمزم الذي كان اسمه ” بول “. وقد استشهد وهو عريس مخضب اليدين بالحناء، بعد ان زوجته حليمة شقيقة ياسين، صغرى بناتها التي حبلت منه قبل استشهاده.
وبعيد تماثل ياسين للشفاء، وبرضاء زوجته السابقة صالحة ومعرفتها، تزوج ياسين زمزم او اكواني ، وهرب معها متخفيا الى ان وصلوا الى قريتها بالجنوب، لكي يكون بعيدا عن أعين انصار الخليفة وقبضتهم، واستانف حياته معها هناك ، وحمل معه ابنه رستم من زوجته صالحة، وبتدبير من هذه الاخيرة، لكي يعيش مع اخوته الذين انجبتهم له أكواني.

استهلت الكاتبة روايتها برسم صورة قلمية بديعة، وعبر سرد تخييلي مشوق، لحادثة تاريخية مشهورة بين السودانيين، تعد من أوائل مآثر البطولة والفداء للثورة المهدية في بداياتها، ألا وهي مأثرة البطلة ” رابحة الكنانية “، التي ظلت تعدو على قدميها لثلاثة أيام بلياليها، من مرابع قومها عرب كنانة الواقعة على سفح جبل الجرادة بجبال النوبة الشرقية، حتى وصلت الى معسكر الامام المهدي في جبل ” قدير “، لكي تكشف له خطة جيش كبير ومدجج بالسلاح، يقوده مدير فشودة التركي ” راشد بك أيمن ” في خواتيم عام 1881م، بتوجيه من رؤوف باشا حكمدار السودان حينئذٍ، لكي يباغت المهدي وجيشه، ويقضي عليهم مرة واحدة والى الابد، قبل ان يشتد عود ثورته المندلعة لتوها آنئذ، ويستفحل أمرها، فتخرج عن السيطرة.
وهنا يتجلى ذكاء الكاتبة التي عمدت الى تشويق القارئ السوداني خاصةً وشد انتباهه، منذ الوهلة الأولى، عبر مغازلة مشاعره الوطنية، بأن أعادت اليه سرد حادثة تاريخية محددة، هو على علم بها بصفة عامة، ويلذ له أن تحكى له مجدداً من منظور تخيلي روائي هذه المرة.
انها بالفعل مأثرة بطولة سودانية خالدة كما أسلفنا، ولكن من شأنها أيضاً، أن تترك أثراً ايجابيا في سائر القراء بمختلف جنسياتهم، وتستثير خيالهم وتعاطفهم من قبيل الشأن الانساني المشترك، بحسبان انها عمل بطولي فريد على كل حال، قامت به فتاة بمفردها، وفي ظل ظروف امنية ومناخية وبيئية وجغرافية قاسية ومحفوفة بالمخاطر المهلكة للغاية، وغير مواتية مطلقا في ذلك الزمن البعيد. وبالتالي فان من المؤمّل ان ترتقي رابحة الكنانية بفعلها الوطني والبطولي الجسور ذاك في خيال أي قارئ عموماً، الى مصاف بطلات عالميات وطنيات شهيرات مثل جان دارك وماريان الفرنسيتين وغيرهما على سبيل المثال.
على أن مما استوقفنا باستغراب، في معرض تصوير الكاتبة لذكريات رابحة الكنانية في فترة ما قبل المهدية، هو قولها ان والد هذه الأخيرة قد قضى تحت وطأة عسف المحتلين الاتراك وجورهم، وقسوتهم المفرطة في تحصيل الضرائب الباهظة، وأنها تتذكر حالة القلق الشديد الذي انتابه عندما فشل محصوله من السكّر وهو قولها حرفياً في صفحة 3: The year his sugar crop failed.
فهل يا ترى توهمت الكاتبة ، وخلطت بين كنانة كردفان البدو رعاة البقر، وذويهم كنانة ما بين النيلين الابيض والازرق بوسط السودان، المزارعين ومربي الابقار الملبنة، والذين يقع احد أكبر وأشهر مشاريع السكر ومصانعه في اراضيهم ” مصنع سكر كنانة ” ؟ وهل كانت قبيلة كنانة الكردفانية تزرع قصب السكر اصلا في أرضها في ذلك التاريخ المتقدم ؟ ام ان لكلمة sugar كما وردت في هذا السياق ، معنى آخر غير الذي نعرفه لها ؟. أم ان الكتابة الروائية ، تتيح ايراد مثل هذه المفارقة التاريخية التي تعرف في الانجليزية بال Anachronism ؟
وفي ذات السياق لاحظنا ان الكاتبة قد ترخصت في التصرف في بعض المعلومات والوقائع التاريخية، فعدّلت فيها. مثل ما جاء في متن الرواية من ان استاذ المهدي هو الشيخ نور الدائم ، بينما كان هو في الحقيقة ابنه محمد شريف، وان سبب الخلاف بينه وبين تلميذه السابق محمد أحمد ، ان الاخير قد لامه على اقامة حفل غنائي راقص بمناسبة زواج أحد ابنائه، بينما المعلومة التاريخية المدونة في سائر المصادر تقول ان مناسبة ذلك الحفل، كان هو ختان أنجال الشيخ محمد شريف وليس زواج أحد أبنائه.
لقد قابلتنا هذه الجرأة في توظيف المعلومات والحقائق التاريخية الواقعية من قبل هذه الكاتبة من قبل في الواقع، بصورة صارخة في روايتها ” حارة المغنى “، التي كانت بدورها معالجة روائية لسيرة عمها الشاعر الغنائي حسن عوض أبو العلا، وذلك عندما نحلت المطرب الذي كان أول من صدح بأشهر قصائده، وعلى رأسها اغنية ” سفري السبب لي عنايا “، اسماً اعتباطياً هو ” حمزة النقر “، بينما ان جميع السودانيين خاصةً، يعرفون انه الفنان العميد ” احمد المصطفى “. وبصراحة، فإننا لم نهتد بعد ، الى قصد الكاتبة من تلك التعمية. هذا مع ملاحظة انها قد سمّت الفنان سيد خليفة مثلاً، باسمه الحقيقي في ذات الرواية.
هذا، ومن التوابل الروائية الخيالية التي أضافتها الكاتبة الى حادثة رابحة الكنانية التاريخية، ان رابحة كانت تعرف المهدي وكان يعرفها، وانه قد صنع لها ولابنتيها احجبة عندما مر بديارهم ذات مرة اثناء سياحته الاستكشافية في كردفان قبل اعلان مهديته. ومنها أيضاً ، ان رابحة الكنانية قد توفيت من اثر لدغة ثعبان تعرضت لها وهي تتخبط ليلاً في طريقها نحوه في قدير، وانها قد اسلمت الروح بعد ان انجزت مهمتها وابلغت رسالتها الى المهدي، الذي اشرف على جنازتها وصلى عليها هو بنفسه ومن ورائه جموع الانصار بالمعسكر.
وصفت الكاتبة رابحة الكنانية بانها قد كانت انصارية صميمة، راسخة الاعتقاد في الامام المهدي ودعوته، بينما كان زوجها مرتاباً وقليل الحماسة نوعاً ما. فهما بالضبط مثل والدة الشيخ بابكر بدري ووالده بازاء المهدية على التوالي، كما صورهما هو نفسه في مذكراته الصريحة والطريفة والممتعة. وبهذه المناسبة، فإن مذكرات بابكر بدري قد كانت احدى المصادر القرائية والمعرفية التي استندت إليها ليلى ابو العلا في تأليف هذه الرواية.
ويقابلنا أثر مذكرات بابكر بدري مرة أخرى في الرواية، في مشهد مصرع ابنة المقاتل الانصاري ” موسى ” بصفحة 193، بعد اصابتها بقذيفة او رصاصة سددها لها احد الجنود الاتراك بمعسكر للانصار على مقربة من شاطئ النيل الابيض، وهو المشهد الذي يشبه بشدة، حادثة مصرع احدى شقيقات بابكر بدري اثناء نفرتهم مع والدتهم في ركاب جيش عبد الرحمن النجومي المتوجه الى توشكى بمصر في عام 1889م.
ولما كانت هذه هي رواية تاريخية، فانه يغدو من الطبيعي ان ترجع مؤلفتها الى المصادر المعرفية ذات الصلة بتلك الحقبة التي صورتها ، والتي اثبتتها هي نفسها في ختام صفحاتها، شاملة مراجع ومؤلفات باقلام كتاب سودانيين واخرين غير سودانيين على حد سواء. فمن بين المراجع السودانية ذكرت المؤلفة على سبيل المثال كتباً مثل: من أبا الى تسلهاي لعبد المحمود ابو شامة، وتاريخ حياتي لبابكر بدري، وتاريخ السودان لنعوم شقير، ومذكرات يوسف ميخائيل، وتاريخ السودان الحديث للدكتور محمد سعيد القدال.
ورغم ان هنالك ما يحملنا على الاعتقاد والتخمين القوي بان اسماعيل ، الشيخ الازهري صديق ياسين بطل الرواية وزميله في الدراسة بالازهر بمصر، الذي انحاز الى المهدية وحاول مراراً اقناع صديقه يس بفعل ذلك ، هو غالباً اسماعيل عبد القادر الكردفاني الازهري، سبط الشيخ اسماعيل الولي 1793 – 1863م، الا اننا لاحظنا انها لم تذكر كتابه المهم ” سعادة المستهدي بسيرة الامام المهدي ” وهو من ابكر المصنفات التي الفت في سيرة الامام محمد المهدي، من ضمن المصادر التي رجعت اليها، فلعلها لم تحصل على نسخة منه لندرته.
ولا ندري ان كانت الكاتبة قد اطلعت على كتاب ” الاصداء العالمية للثورة المهدية ” ، وهو كتاب حديث الصدور نسبياً، من تاليف محمد المصطفى موسى، ذلك بان به بعض المعلومات النادرة التي استقاها من جملة من المصادر الاجنبية، التي كان من شانها ان تضفي على السرد بعداً اكثر عمقاً للمنظور الاجنبي والغربي تحديدا للثورة المهدية ، الذي لم تغفله المؤلفة بالرغم من ذلك. وبالمناسبة فان مؤلف هذا الكتاب، هو حفيد السيد حامد بن عبد الله ود فحل أحد شقيقي الامام المهدي اللذين استشهدا في محاولة الانصار الاولى لاقتحام مدينة الابيض.
ومن مظاهر واقعية هذه الرواية من خلال السياق التاريخي الذي عالجته، انها صورت بصدق، انقسام مواقف الناس وميولهم في السودان بازاء الثورة المهدية، حتى من بين افراد البيت الواحد، وذلك على غرار ما رأينا من انصارية فاطمة والدة يس، ولا مبالاة والده حيالها، ومعاداة يس نفسه لها، ومن قبل ذلك وقفنا على أنصارية رابحة الكنانية الصلبة ، في مقابل موقف زوجها المتراخي ، بينما نجد ما يماثل ذلك في الواقع فعلا على سبيل المثال، انحياز السيد المكي بن السيد اسماعيل الولي للمهدي ولخليفته من بعده ، حتى صار من اخلص مستشاريهما منذ بداية المهدية وحتى نهايتها، بينما ناصبها شقيقه السيد احمد الازهري العداء، مما ادى الى اعدامه جزاء له على ذلك الموقف.
ولما كانت الرواية من حيث هي، مضماراً لعرض الرؤى والافكار عموماً، وعلى نحوٍ شفيف وغير متعسف، وانما يجاء به هكذا عفواً ورفيقاً في تضاعيف السرد نفسه، وبصورة تكون ملائمة للسياق، وغير متكلفة او نابية عنه، فإننا قد وقفنا بالفعل على بعض الومضات المضيئة وذات الدلالات الخاصة في مجال الفكر السياسي والاجتماعي، وبعض الخواطر والتأملات الفلسفية العميقة في طبائع العمران البشري، التي نرى انها من بنات افكار الكاتبة نفسها، وانما صاغتها على السنة بعض شخوص الرواية. ومن ذلك ما ورد على لسان ياسين في صحة 136 في معرض انطباعه عن المهدي وأنصاره من وجهة نظره بالطبع:
” إن الاشخاص المتعصبين لا يستطيعون مطلقاً إخراج أفضل ما في نفوس الناس. انني اخمن انهم سوف يذهبون الى الحرب. سوف يجيشون الجيوش، وسوف يغزون وينهبون، لأن الاعتداء وحده هو الذي سوف يبقي على قضيتهم حية. إن مقاتلة عدو ما، هي دوماً أيسر من إدارة تعقيدات البشر. ” أ. ه
هنالك ملامح حقيقية من الحياة السودانية التي كانت سائدة في زمن الرواية، والتي ما يزال بعضها مستمرا حتى الآن، عمدت الكاتبة إلى إيرادها بصورة واقعية ولطيفة، ولعلها من قبيل الحلية الانثربولوجية او الفولكلورية التي ربما تكون قد قدرت انها ستكون جاذبة ومثيرة لفضول القارئ الغربي او غير السوداني عموما. ومن ذلك على سبيل المثال: ولادة النساء لاولادهن داخل البيوت بمساعدة القابلات البلديات، وهن متشبثات بحبال مشدودة الى سقف الغرفة او الكوخ، وحول القابلة ثلة من النساء لمساعدتها، وكذلك للدعاء للأم بأن يحلها الله بالسلامة، ولا مكان لأي ذكر ولو كان طفلا صغيراً في ذلك التجمع، فإنه من الخصوصيات التي يليق بهم ان يشهدوها. ومن ذلك أيضاً، الغيرة والمنافسة و ” المناقرات ” بين الزوجة وحمواتها وكناتها، وتسلل النساء في هزيع من الليل الى غرف ازواجهن بعد نوم الصغار، وكذلك تخصيص الرجال بأطايب الطعام، وخصوصا صدور الدجاج واوراكها دون النساء، اللائي يكتفين هنّ واطفالهن المساكين، باكل ما يتبقى من الاجنحة والرؤوس والأعجاز والعظيمات الخ !
اما اللغة والاسلوب في رواية ” مناجاة النهر “، فقد بلغت فيهما ليلى ابو العلا أوجاً رفيعا حقا، وقد اثبتت أنها قد امتلكت ناصية اللغة الانجليزية، حتى غدت سهلة القياد ومطواعة في قلمها، فضلاً عن اسلوبها الرشيق والسلس، والمحكم العبارة، والمبرأ من الاسهاب الممل والفضول.
هذا، وقد امتلأت صفحات نسختي من هذه الرواية في الواقع، بكلمات وعبارات عديدة وضعت تحتها خطوطا بقلم الرصاص، لانني لم اهتد لمعانيها المعجمية، وانما فهمتها فهما عاما هكذا بحسب السياق، بامل ان اعود اليها يوماً ما إن شاء الله، لمعرفة معانيها بدقة أكثر ، مستعينا بقاموس اوكسفورد.
وقد أتاحت إقامة ليلى ابو العلا الطويلة بمدينة أبردين باسكتلندا، الفرصة لها لاستعراض شئ من معرفتها باللهجة الاسكتلندية، فأثبتت ألفاظاً وعبارات منها، خاصة على لسان ” روبرت ” فني إصلاح البواخر النهرية والرسام الاسكتلندي، الذي استرق أكواني شراءً لبعض الوقت كخادمة له بمنزله بالخرطوم، ورسم لها عدة اسكتشات وبورتريهات، وهي مكرهة ومجبرة على ذلك.
لاحظنا ان الكاتبة قد راوحت عمدا في استخدام حالات الافعال و الضمائر ، ولم تجعلها كلها على منوال واحد مع كل لوحة او فصل من فصول الرواية، المخصص كل واحد منها لشخصية محددة من شخوصها. فهي تارة تستخدم ضمير الغائب المفرد، اذا ارادت صيغة الراوي العليم، واحيانا تستخدم ضمير المتكلم المفرد، او المخاطب المفرد وهكذا ، وذلك لعمري يضفي حيوية واريحية على السرد، ويتيح قدرا اوسع من الحرية لمعرفة النوازع والخصائص والميول النفسية والعاطفية لكل شخصية في كل موقف على حدة.
وختاماً ، هل تأثرت ليلى ابو العلا بكاتبنا الكبير الطيب صالح وتناصّت معه في بعض المواضع من هذه الرواية يا تُرى ؟ نعتقد اننا نلمس شيئا من ذلك بالفعل، ام ترى أننا نبعد النجعة في ذلك ، ونتمحل في تفسير ما قد يكون مجرد توارد للخواطر؟!. فقد اشرنا من قبل الى اشتراكهما في ثيمة النيل كموحي افكار ومنبع اسرار، ولكننا نلاحظ كذلك اوجه شبه قوية وملفتة للنظر، بين السيدة صالحة كريمة آل الضرير وزوجة ياسين من جهة ، وكل من عزة بنت الحاج ابراهيم في رواية ” عرس الزين ” و فاطمة بنت جبر الدار في رواية ” مريود ” من جهة أخرى، وذلك من حيث الاشتراك في صفات الجمال الحسي والمعنوي معاً، وحب العلم، والذكاء وقوة الشخصية ، ورجاحة العقل ، والتحلي بروح المسؤولية ، والتدين الفطري العميق.
ثم تأمل يا رعاك الله ، في هذا التشابه المذهل بين الاسلوبين اللذين ختم بهما كل من الطيب صالح في ” عرس الزين ” وليلى ابو العلا في هذه الرواية هاتين الروايتين على التوالي، وهما يصوران مشهدين من حفلي عرسي كل من ” الزين ” و ” بول او اسحاق ” شقيق أكواني او زمزم:
” صاح بأعلى صوته ويده مشهورة فوق رأس الراقصة: أبشروا بالخير .. أبشروا بالخير. وفار المكان، فكأنه قدرٌ تغلي. لقد نفث فيه الزين طاقةً جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق، تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب “.
ثم انظر الى ليلى ابو العلا وهي تصور العريس شهيد كرري:اسحق في حفل زفافه بذات اللمسات والحاسة الاسلوبية تقريبا:
His bride dancing, her hair freshly braided and skin glistening. All the ululations and drums. Oh, I wish you had seen him and shared his joy. He was certainly the grand bridegroom stamping in the circle of dancers, with the kohl rimming his eyes and fresh henna on his feet, raising his sword in the air, and jumping.

أديب و سفير سوداني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى