مقالات كل العرب

العراق.. مشيناها خطى

شارك

العراق .. مشيناها خطى

أ. صباح الزهيري

كتب توماس فريدمان المحلل الرئيس في النيويورك تايمز وصحف كبرى أخرى انه :
(( في كل صباح يستيقظ غزال في أفريقيا , يجب عليه أن يجري أسرع من الأسد , وإلا سيموت, وفي كل صباح يستيقظ أسد , يجب عليه أن يركض أسرع من الغزال , وإلا فإنه سيموت من الجوع, لا يهم من أنت غزال أم أسد , عندما تشرق الشمس , عليك أن تركض)).
لا أدري ما الذي أعطى العراقيين هذه الروح المتطرفة, هل التربة الغرينية؟ هل النفط الذي تسبح فيه؟ هل مياه دجلة والفرات؟ هل التفاوت الشديد في الحرارة بين الصيف والشتاء في الليل والنهار؟ لهذا التطرف جذور قديمة, سمعنا أنه عندما بنى عبد الملك بن مروان المسجد الأموي, جاء بعمال سخرة للعمل فيه, أمرهم بأن ينقل كل واحد منهم قطعة حجر للبناء, لاحظ أن واحدا منهم يقوم بنقل حجرين اثنين, تعجب من أمره فاستوقفه وسأله: من أي بلد أنت؟ قال أنا من العراق, قال: يا سبحان الله أنتم يا أهل العراق تتطرفون حتى في عمل السخرة.
ترى على شاشات التلفزيون كل أولئك المنافقين المدعين المدعين اللبراليين والماركسيين والبعثيين والوجوديين والملحدين يرفعون أذرعهم عاليا ويلطمون على صدورهم بحرقة وحماس, حتى سمعت أن أحد قادة اليسار ذهب إلى حج بيت الله الحرام, أين ذهبت كلمات كارل ماركس عن أفيون الشعوب ؟ كتب أحد ألأصدقاء من بلد الضباب : هنا في لندن, ذهبت لحضور حفلة للترحيب بفريق كرة القدم الفائز ببطولة آسيا, ذهبنا لنفرح بهم, وما أقل ما يفرحنا في العراق اليوم , وقف اللاعبون على المنصة وأخذ الميكروفون أحد الشعراء وانطلق ينشد بكائية عن شهداء آل البيت, ودعاني أحد الأصدقاء لوليمة عشاء في بيته, عرفته في القديم يساريا متطرفا غارقا في الديالكتيكية والبروليتارية والداروينية, تناولنا العشاء وأكلنا التمن والسبزي وشربنا اللبن الشنينة, وإذا بأحد الحاضرين, أساتذة وأطباء وأكاديميين, يقف بيننا ويبدأ بصوت رخيم يرتل التعازي والمقاتل, لم تمضِ غير دقائق قليلة حتى وجدت سائر الحاضرين يطأطئون رؤوسهم ويدفنون وجوههم في أيديهم ويبدأون في البكاء ولم تمر دقيقة أخرى حتى تدفقت الدموع من عيني أنا أيضا, ورحت أشاركهم في البكاء, بكيت وبكيت, بكيت على العراق.
يقول محمود درويش : ( سلام لأرض خلقت للسلام, وما رأت يوما سلام), عندما بدأت عقولنا تتفتح علمونا ان قريش أفضل العرب , والعرب أفضل من الموالي , والموالي أفضل من الذميين , والذميين أفضل من الكفار , هكذا نحن رعايا أول دولة طبقية تربينا في ربوعها وشربنا تعاليمها حتى اختلطت في لحمنا وعصبنا وعظمنا , هكذا نحن طبقيون بالفطرة , نمتلك ألف سبب لنكره غيرنا , هكذا سلب السلام من نفوسنا وحلت المفاضلة , وعندما جاء الغزاة وكتب لنا ساسون الدستور , وفسره متسلقوا الدبابة، اكتشفنا اننا عبارة عن مكونات ألأكبر فالأصغر وألأصغر .
يذكر الأديب والمفكر اللبناني ( مارون عبود) في كتابه (حبر على ورق) , بأن هناك آيات كتبت على تاج (كسرى أنو شروان) ملك الفرس سميت بأيات التاج, الآية الأمامية تقول (العدل يدوم وأن دام عمّر) والآية الخلفية للتاج تقول (الظلم لا يدوم وأن دام دمّر), فحسب الملك العادل أيا كان لا يحتاج الى جنود تحميه لينام ملأ عينيه, ويحكي الأديب اللبناني في كتابه الآنف الذكر أيضا : أنه في أحدى رحلات الصيد للملك (كسرى) وبعد أن فرغوا من الصيد , وجاء وقت الغداء لم يجدوا ملحا للطعام فطلب (كسرى) من أحد الخدم أن يأتي بالملح من أحدى القرى القريبة شريطة أن يعطي ثمنه , حتى لا يحيق الخراب بتلك القرية, فسأله أحد وزرائه الذي كان يرافقه في رحلة الصيد مستفهما وبتعجب, أبحفنة ملح تؤخذ بلا ثمن تخرب القرية ويحيق بأهلها الهلاك والفساد ؟ فأجابه (كسرى) نعم , هكذا يبدأ الظلم في الدنيا قليل بسيط جدا ثم يتمادى الحاكم فيه حتى يبلغ الحد الذي نراه.
كتب نجيب محفوظ : ان النباتات لا تملك العقل , و لكن لو غطيتها بصندوق فيه ثقب لخرجت من هذا الثقب متتبعة للضوء , فما بالنا لا نتبع النور ونحن نملك العقول؟ و تقول د. نوال السعداوي : على الإنسان أن يشعر بالإهانة عندما لا يقرأ و لا يتعلم و لا يتساءل و لا يُفكر, و مع كل ذلك يعتقد أنه يفهم كل شيء, وعلى الإنسان أن يشعر بالإهانة عندما يتباهى بماضي أجداده و حاضره بائس, وعلى الإنسان أن يشعر بالإهانة عندما يكون مجتمعه فاشل و لا يقدم للعالم شيء ثم يؤمن إنه الأفضل بين الجميع.
هذه هي المحنة , لقد بدأت تضيق على الأذكياء لدرجة منعهم من ممارسة التفكير كي لا يسيئوا للحمقى , ماذا يفعل العقلاء حين يجدون ان المشكلة عدم وجود من يصطف مع العقل؟ وان غياب التحليل العقلي للأمور يسهل من سيطرة اصحاب المصالح و الثروات على عقولنا وبالتالي يشكلون ثقافتنا؟ لايبق امامنا سوى التظاهر بالجنون ليتسنى لنا العيش المشترك والا سيفردوننا كدخلاء على المجتمع.
أيتها العتمة المذابة في شقوق الحياة, ماذا تخبئين لي تحت أستارك ؟ كان ذلك ما جناه أبي علي , لقد علمني كل ما -لا- يلزم , أن أكون صادقا في زمن الكذبة الكبرى, ونزيها في زمن الفرهود ,وعراقيا في زمن الطائفية والعمالة ,فيا له من معلم سيء عظيم , ويا لي من تلميذ فاشل ناجح .
يقول دوستويفسكي: أقسم لكم بأغلظ الأيمان أيها السادة أن شدة الإدراك مرض , مَرض حقيقى خطير , إن إدراكاً عادياً هو , من أجل حاجات الإنسان , أكثر من كاف, ويقولُ سيوران :الوعي لعنة مُزمنة ,كارثة مَهولة, إنهُ منفانا الحقيقي , فالجهل وطن , والوعي منفى.

كاتب من العراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى