مقالات كل العرب

هروب الملك نتنياهو، و محاولة تأبيد الصراع

شارك

هروب الملك نتنياهو ، ومحاولة تأبيد الصراع

أ. نسيم سيم قبها

إن الموقف الإسرائيلي الرسمي مبني على الفكرة الصهيونية النظرية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والتي تستوجب تطهير الأرض من الفلسطينيين، وهو ما يتبناه نتنياهو واليمين الصهيوني الديني الحاكم في في الكيان المحتل ويُترجمه في حرب الإبادة الهمجية على غزة. وأما القوى الصهيونية الليبرالية فلا تختلف كثيرًا عن اليمين الصهيوني الديني سوى بإمكانية قبولهم للفلسطينيين كرعايا وقبولهم صورة لـ”دولة” فلسطينية فاقدة لـ”السيادة” على الأرض.
ولذلك يتخذ نتنياهو من سياسة فرض الأمر الواقع وتأبيد الصراع استراتيجية في إدارة صراعه مع الفلسطينيين، بخلاف الموقف الأميركي الساعي إلى تحقيق أمن الكيان الصهيوني والأمن القومي الأميركي عبر “السلام والاستقرار” و”حل الدولتين” المزعوم. ومما يزيد المشهد تعقيدًا هو اختطاف نتنياهو للسلطة عن طريق اليمين الصهيوني الديني المسيطر على توجه الرأي العام، وجعله أمن الكيان يدور حول أمنه الشخصي الذي يتطلب بقاءه في السلطة في ظل ملاحقته القانونية، فضًلا عن نرجسيته التي تأبى أن يخرج من الحرب ذليلًا في ضوء ما خلع عليه أنصاره من ألقاب مثل “الملك بيبي” و”السيد أمن” و”السيد اقتصاد”. ولذلك فإن تحقيق نتنياهو لإنجاز يرجع به إلى الرأي العام في هذه الحرب هي قضية مصيرية على كافة المستويات العقدية والوجودية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية والشخصية. ولهذا نجده يسير على قاعدة خسارة الخارج لا خسارة الداخل، ويقوم بحرب إبادة لسكان غزة مستشهدًا بـ”كتابه المقدس” دون اكتراث بالرأي العام العالمي ولا بالأعراف والقوانين الدولية والأصوات المنادية بوقف الحرب، ولا يقيم وزنًا للمواقف الرسمية الإقليمية، إذ سبق وعقب على مواقف الرئيس التركي سنة 2022 بقوله: “كان أردوغان يناديني بهتلر كل ثلاث ساعات، والآن أصبح كل ست ساعات، ولكن الحمد لله التجارة مع تركيا ارتفعت”!! ولم تختلف مواقف أردوغان في هذه الحرب الوحشية عن مواقفه التقليدية السابقة، إذ ما يزال يتدفق النفط الأذربيجاني إلى إسرائيل عبر تركيا رغم مطالبة إيران لتركيا بقطع النفط عن الكيان المحتل بقصد إحراج أردوغان.
كما ويستغل نتنياهو الوحشية والمجازر التي تتفطر لها القلوب لإحداث شرخ بين حماس وحاضنتها الشعبية، وللضغط عليها من أجل إطلاق الأسرى مقابل وقف إطلاق النار، حتى يتقدم بإنجاز يسعفه أمام الرأي العام باعتباره إنجازًا غير مسبوق. ومن هنا يرفض وقف الحرب ويمارس أبشع وسائل القتل والتنكيل بأهل غزة والضفة الغربية؛ لأنه يرى أن وقف الحرب من دون تحقيق أي إنجاز _سوى المجازر في حق المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء_ يمثل خسارة له ولحزبه وحكومته ومشروعه وللمسار الإبراهيمي ولحلفائه من حكام المنطقة ، ويُمثّل انتصارًا لفكرة المقاومة وأهل المنطقة وللتوجه المبدئي ، وهو ما أكد عليه في مقال له في صحيفة وول ستريت جورنال قبل أيام. ولذلك يصطف الليكود واليمين الديني الصهيوني خلفه بكل عزم لارتباط مصيرهم ومستقبلهم بمصيره ومستقبله السياسي.
كما ويقاوم الضغوط الأميركية المتنكرة بمواقف الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية وبعض المواقف الدولية والأنظمة العربية، مستغلًا القيمة الاستراتيجية الاستعمارية للكيان الصهيوني في المنطقة، وحاجة بايدن لورقة “دعم إسرائيل” في الموسم الانتخابي في ظل نتائج استطلاع الرأي العام الأخيرة التي تشير إلى تقدم ترمب على بايدن، وهذا بالإضافة إلى استغلاله لمحاذير توسع الحرب وتمددها في المنطقة وتداعياتها على الأولويات الأميركية الدولية المتعلقة بالصين وروسيا. وهذه المعطيات (وبخلاف ما عدّه البعض حماقة من قِبل نتنياهو) هي التي شجعته لوضع أهداف عسكرية تستعصي على التنفيذ نحو سحق حركة حماس وتدمير قوتها العسكرية وتحرير الأسرى المدنيين والعسكريين؛ أي أنه لم يضع هذه الأهداف لذاتها، وإنما لأجل إطالة أمد الحرب وكسب الوقت ريثما يُحكم حصاره على غزة ويوجد بيئة أمنية تستدعي سلطة تنوب عن إسرائيل في حماية أمنها من جهة غزة، في مقاربة أمنية لدور السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. غير أنه لم يحقق من هذه الأهداف شيئًا رغم مرور ما يقارب الشهر على عدوانه الدموي، بل على العكس خسر ما بقي لإسرائيل من سمعة دولية، بعدما ارتبطت صورتها بالمجازر الوحشية التي ارتكبتها في غزة وعموم فلسطين. ولا يزال نتنياهو يأمل من إطالة أمد الحرب بإمكانية ترميم صورته وقوة الردع من خلال الحصار والدمار والمجازر التي تلقى قبولًا لدى الرأي العام الإسرائيلي المشحون بروح الانتقام، والتي بدأت تعود عليه بنتائج عكسية على المستوى الداخلي والدولي.
وفي هذا السياق تأتي زيارة بلينكن لضبط سلوك نتنياهو، ولكن من الواضح أنه فشل في إقناع نتنياهو بـ”هدنة إنسانية” ليس شفقة على أطفال غزة بقدر ما هي محاولة لاحتواء التشقق داخل الحزب الديمقراطي، وترميم صورة أميركا في المنطقة والعالم، ولخلط أوراق نتنياهو ودفعه لمواجهة داخلية، ومواجهة ما يترتب على عودته للإبادة الجماعية بعد الهدنة من ضغوط وعزلة دولية.
ومن المتوقع أن يزيد نتنياهو من وحشية الحملة العسكرية على أهل غزة تلبية لشهوة الانتقام واستعادة الردع وتحسين صورته الداخلية رغم يقينه باستحالة كسر صمود أهل غزة وسحق حماس، فيما يأمل أن يجر حزب الله وإيران إلى الحرب لتكميم أصوات النقد والمعارضة وحشد التأييد الداخلي له، سيما وأن تراجعه عن اتهام القيادات العسكرية والأمنية بالفشل لم يُسكت الهجوم عليه.
كما يأمل من إطالة الحرب وانغماس حزب الله وإيران فيها أن يُحرج إدارة بايدن التي لا تملك سوى الوفاء بالتزاماتها حيال أمن الكيان الصهيوني، ومن ثم يزج بها في الحرب معه ليضمن حسمها لصالحه والهروب من شبح المساءلة الداخلية.
وأما مقاربة حزب الله فقد أفصح عنها حسن نصر الله في خطابه صراحة بقوله إن كافة الخيارات مطروحة، كما وأفصح عنها في تحميله مسؤولية وقف الحرب لأميركا ، فهو يدرك الموقف الأميركي وموقف نتنياهو جيًدا، ويعلم أن أميركا تستغل الحرب لحرق نتنياهو داخليًا وتقويض مشروع اليمين الصهيوني كله، وقلب الرأي العام الأميركي الذي يقيّد الضغط أو النقد للكيان الصهيوني، وقد بدا ذلك من خلال استطلاع رأي عام
أميركي أفاد بأن أكثر من نصف الشباب الأميركيين يرون أن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها القسام ضد الاحـتلال مبررة. وهو ما يُفسر سكوت الولايات المتحدة على مجازر نتنياهو التي باتت تُخلخل التأييد الدولي له وتزيد من عزلته. وبهذا المعنى فإن حزب الله ينتظر اللحظة التي ينضج فيها الوقت المناسب للتدخل ويضمن فيها عدم اعتراض الولايات المتحدة على دخوله الحرب، وهي اللحظة التي تستيئس فيها أميركا من استجابة نتنياهو لمطالبها ويرتفع فيها صوت الإدانات للجرائم الإسرائيلية وللموقف الأميركي من الحرب، حتى يوسع حزب الله نطاق عملياته العسكرية بالقدر الذي يُحصن مبرر وجود “محور المقاومة” ونفوذه وحاضنته الشعبية، وبالقدر الذي يردع إسرائيل عن أي مغامرة تستهدف الحزب وإيران وأذرعها في المنطقة، ومنعها من تدمير حماس التي تمثل تصفيتها نذيرًا لتصفية حزب الله وفصائل المقاومة في العراق وسوريا واليمن. ومن ثم فإن مقاربة حزب الله مرتبطة فعليًا بالمعطيات المتعلقة بمدى تقدّم نتنياهو في العملية العسكرية التي ستنعكس على فصائل المقاومة كلها، وبالموقف الأميركي ومدى فاعليته في التأثير على نتنياهو في حربه الشعواء على غزة، وبخاصة وأن أميركا لا تقبل بإطالة أمد الحرب وتوسعها بصورة تُخلُّ بالتوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وتقلب أولوياتها الدولية الموجهة نحو الصين وروسيا اللتين تستفيدان من توجيه الولايات المتحدة وأوروبا لمواردهم الحربية والمالية للشرق الأوسط عوضًا عن توجيهها لاستنزاف روسيا في أوكرانيا واستنزاف الصين في تايوان وبحر الصين الجنوبي، فضلًا عن الإفادة من تداعيات الحرب على أسعار الغاز والنفط التي تعود على روسيا بالنفع، والإفادة كذلك من ازدواجية المعايير الغربية التي برزت في العدوان على غزة لتعرية الغرب وضرب منظومته القيمية التي يتقدم لقيادة العالم على أساسها.
وأما الولايات المتحدة وبعد فشل نتنياهو في إنهاء حماس أو إضعافها في غزة بُغية الاستثمار بخسارتها في تقليم أظافر باقي فصائل المقاومة المدعومة من إيران، واستعادة قوة الردع التي يستوجبها الدور الوظيفي الصهيوني في المنطقة، فإنه من المتوقع استدارة الولايات المتحدة على مواقفها، ورفع مستوى الضغط على نتنياهو بوسائل مستترة نحو تحويل المواقف الدولية حيال العدوان على غزة، وتشكيل ضغط عربي في القمة المقبلة على نتنياهو رغم التواطؤ العربي الواضح . وبالتالي فإن الولايات المتحدة تدفع بالسر إلى زيادة النقد والضغط الداخلي والخارجي على نتنياهو واليمين الصهيوني، وتراهن على الثمن الباهظ الذي يتكبده الجيش الإسرائيلي في توغله بغزة وانعكاسه على المجتمع والقيادة الصهيونية بالإضافة إلى ضغوط أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، وضغوط التداعيات الاقتصادية والأمنية على الكيان برمته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى