مقالات كل العرب

الدراماتورج: ركيزة أساسية في بناء العروض المسرحية المتكاملة

شارك

الدراماتورج: ركيزة أساسية في بناء العروض المسرحية المتكاملة

 

أ. حميد عقبي

من حين إلى آخر، نجد بعض الكتابات النقدية والأكاديمية في العالم العربي تتناول قضية الدراماتورج. ولكن الكثير منها يركز على المصطلح والتتبع التاريخي لتطور المصطلح، ويسرده. ونادرًا ما تتوقف الدراسات والبحوث مع نماذج عملية والتعامل معها بشكل تحليلي. حتى في حال وجود دراماتورج لبعض العروض، فإن ذكر دور الدراماتورج قد يكون بشكل ضعيف. وأحيانًا يفضل بعض المخرجين أخذ هذا الدور، حيث قد يكون النص أيضًا للمخرج، وبالتالي يصبح هو المخرج المؤلف والدراماتورج، ويجمع في يده كل السلطات. وحتى أننا نشاهد ونسمع أن بعض العروض يكون فيها أحد الأشخاص هو كل شيء، كاتب، دراماتورج، مخرج، وكذلك بطل العمل. وتزداد هذه الظاهرة في عالمنا العربي، وتحتاج إلى مناقشة جادة. إنها إحدى نتائج عدم فهم دور الدراماتورج وفهم روح المسرح كفن إنساني جماعي، تتشارك فيه رؤى وخبرات متعددة ومتنوعة أيضًا.

نعلم جيدًا أنه مع تطور فنون العرض المسرحي، يظهر دور الدراماتورج بوضوح كعنصر حيوي لتحقيق عروض مسرحية مميزة ومؤثرة، ولها مقدرة على جذب الجمهور. في هذه المقالة، سنحاول أن نتناول هذا الدور بشكل أعمق ونطرح أسئلة حول أهمية وجود الدراماتورج، وكيف يمكن لتواجده أن يسهم في تحسين جودة الإنتاج المسرحي بشكل نقدي. وهل تطور مفهوم الدراماتورج في المسرح العربي؟

الدراماتورج، يمكن وصفه بالفنان الذي يتقن التلاعب بالنصوص بشكل إبداعي، ويحاول أن يتعايش مع عوالمها الخفية. وهو ركيزة أساسية يجب أن تأخذ دورها في تشكيل المشهد المسرحي. عمله لا يقتصر على توضيح النصوص أو معالجة بعض مشكلات الضعف خلال الكتابة وترميم بعض الأخطاء وسد الهفوات. بل يجب أن تتاح له الفرصة لفعل أكثر من ذلك، وأن يسخر قدراته وخبراته الإبداعية في تحليل النصوص وتطوير فهمها لبقية الكادر الفني والتقني، ليجعلها أكثر قوة وجاذبية عند تقديمها على خشبة المسرح.

يظهر الدراماتورج بدوره، الذي يشبه “المهندس المعماري” أي أن دوره فكري، فني وتخيلي وإبداعي، حيث يعمل على خلق الهيكل وجسد العرض ويصمم رؤية للبناء السردي بطريقة تجعل التسلسل الزمني والدرامي والأفكار والشخصيات في تناغم وتماسك جيد، ومشحونة بعناصر التشويق والإثارة وكذلك الجماليات. وهو القادر على بناء الكثير من الروابط و الجسور الفنية بين العرض والجمهور، وهذا لا يلغي دور المخرج ولا ينقص من قدرته. وسنجد الكثير من الأعمال التي تنجح تكون بفريق جماعي متماسك ومنسجم، ويجد كل عنصر دوره الإبداعي، وكذلك الاعتراف والتقدير لدوره.

الدراماتورج قد يضع العديد من الحلول لبعض الاشكاليات، وقد يطلب منه المخرج، على سبيل المثال، البحث في السياقات التاريخية أو الاجتماعية والثقافية في البيئة التي سيُقدم فيها العرض. على سبيل المثال، إذا كان عمل ما يتناول قضية الحرية الجنسية بجرأة، وهذا العمل سيُعرض في مجتمع شديد المحافظة، فإن الدراماتورج سيعبر عن رأيه استنادًا إلى فهمه للجمهور، وقد يجد حلاً ومعالجات لتسهيل مرور العرض. وربما يقترح نقله أو عرضه في مدينة أو منطقة أخرى.

يساهم الدراماتورج في خلق كيمياء تفاعلية منسجمة لفريق العمل، ويربطهم بالنص ويدعم فهم الأفكار والشخصيات والأحداث والأماكن والزمن، ويحفز التواصل بين أعضاء الفريق الإبداعي. كما يربط المخرج بالممثلين والفريق التقني لضمان استمرار رحلة العمل الشاقة من النص إلى الخشبة. لذلك، يظل عمل الدراماتورج حاضرًا خلال البروفات وحتى أثناء العروض.

قد يواجه الفريق بعض المشاكل في العرض أو العروض الأولى. هنا، يكون من واجب الدراماتورج، بالإضافة إلى المخرج، البحث عن جوانب الخلل وأسباب ضعف تفاعل الجمهور أو اعتراضاته، أو مناطق الضعف في التلقي، ربما نتيجة للحوار، أو نقص فني أو تقني. وبهذه الطريقة، يعود فريق العمل لدراسة نقاط الضعف وتفعيل النقد الذاتي، ودراسة ما يُنشر عن عملهم من قبل النقاد أو الجمهور.

بالطبع، لا يوجد أي عمل فني كامل الأوصاف، وأي عمل إبداعي فني لا يمكنه أن يصل إلى الكمال المطلق ولا الجمال المطلق. ولكن هذا لا يعني القبول بالضعف والاستسلام له.

التحليل الثقافي العميق يعتبر من المهام الحيوية للدراماتورج، وهذا يعني أنه يجب عليه أن يمتلك المهارات الإبداعية والفنية، بالإضافة إلى الخبرات في التحليل، لفهم السياقات الثقافية والنفسية والمجتمعية. وبالتالي، يمكنه أن ينجح في تكوين رؤية وفهم وحتى تحليل نفسي عميق للشخصيات والأحداث.

فإن الجوانب الثقافية تعد من أكثر القضايا والمشكلات التي تتسم بالتعقيد في كل المجتمعات الإنسانية، وخاصة في المجتمعات ذات التنوع والتعدد. حيث توجد مجتمعات لها إرث حضاري وتراث ثقافي وشعبي يمتد لقرون أو حتى الآف السنين. وفي بعض المجتمعات، توجد قوميات متعددة أو أقليات أو أديان. لذلك، يتمتع كل مجتمع ببيئة ذات كيمياء خاصة وقضايا شائكة وتابوهات قد يكون من الصعب تجاوزها بواسطة الصدام العنيف المباشر.

على سبيل المثال، في بعض الدول والمجتمعات، يعيش الأفراد في ظل ديكتاتوريات أنشأت ثقافة التسليم وعدم المساس ببعض الأفراد أو المجموعات. وهنا قد تكون الصعوبة مضاعفة وخطرة في حال وجود بعض الأفكار التحررية، بالنقاشات الهادئة لفريق العمل وقناعته بأفكاره يمكن أن توجد الحلول وتمرير العرض وهذا لا يعني أن يخلو العمل الإبداعي من الحرية أو النقد أو المعارضة، خاصة إذا كان الفريق يعيش في هذا المناخ. وهنا يأتي التفنن في استخدام الرموز والدلالات لتمرير أفكار جريئة يمكن أن تصل إلى الناس، حتى ولو بمستويات متفاوتة وتكون ذات تأثيرات مهمة.

من المفترض أن يسهم أي عمل مسرحي أو فني ثقافيا وفكريا، والأعمال التي تخلو تماماً من هذا الجانب لن تكون قادرة على وصف نفسها كأعمال مسرحية أو فنية.

وهذا يقودنا إلى ضرورة تطوير وتشكيل الفكر النقدي، ويساهم الدراماتورج في تجسيد وتحقيق هذا الفكر في النصوص المسرحية، حيث يقدم قراءة تحليلية معمقة وواعية تعكس بعض القضايا والمواضيع الفلسفية وتنقلها للفهم، ولو بعدة مستويات . وهذا لا يعني أن يكون المسرح نخبويًا في بروج عالية صعبة المنال والفهم والتذوق، ولا يعني الهبوط إلى قاع الضحالة والهشاشة.

إذا نظرنا إلى مسيرة المخرج السينمائي والمسرحي السويدي انغمار بيرغمان، نجد أنها عميقة فلسفياً وتناقش قضايا وجودية وإنسانية كثيرة التعقيد. ولكنه نجح في أن يصل إلى الجمهور السويدي والأوروبي والعالمي، ولم يكن فنانًا يعمل بمفرده، فقد كان فريقه ليس ضخمًا، ولكنه نجح في تأسيس فريقه ومدرسته المسرحية والسينمائية. وأصبحت أعماله توصف أو تدخل في نطاق الإرث الإنساني. وهناك أمثلة كثيرة مثل جان كوكتو والان رينية في فرنسا.

 

فقدان الكثير من العروض المسرحية العربية للعمق الفني المشهدي المسرحي والفرجوي الممتع، بالتأكيد، هو نتيجة خلل في الدراماتورجيا، وخاصة في العروض التي يكون المخرج هو كل شيء، أي الكاتب والمعد والدراماتورج والمخرج، وربما يكون هو بطل ونجم العرض. وهنا يصاب العمل بالتكلس بزاوية واحدة، ويصاب هذا الشخص الذي يأخذ كل المهام بالتعب والإرهاق، ويضعف الجانب الفني. قد يسقط العمل ويفشل لأن المسرح هو فن جماعي يجمع فيه إبداعات الكتاب والدراماتورج والمخرج وفريق العمل لخلق تجربة فنية فرجوية متنوعة للجمهور وبحيث يتوفر فيها عناصر المتعة والجمال والفكر، وهم يعملون كفريق واحد لا يمكن أن نصفق بيد واحدة .

سنجد أن أعمال المونودراما والممثل الواحد تحتاج إلى فريق عمل جيد ومتماسك، وليس فردًا واحدًا. وأولئك الذين ينتجون ويقدمون أعمالهم لوحدهم دون شركاء يجدون أن أعمالهم لا تكون ذات تأثير.

التحليل النقدي الواعي وتنمية النقد الذاتي لأي عرض مسرحي ستحتاج إلى دراماتورج مبدع للتعاون ليشكل رؤية فنية جمالية تحاول أن تتكامل وتسند بعضها البعض. وهنا يجب على الدراماتورج عدم دعم سلطة المخرج المطلقة وعدم تفصيل الدور بشكل زائد للبطل أو البطلة بهدف صناعة نجومية، كما يجب عدم إهمال النص الأصلي. في عالمنا العربي، خاصة في بعض المهرجانات الكبيرة، قد يحقق أحد العروض فوزًا بجائزة الإخراج وجوائز عديدة دون أن يُذكر الكاتب بشكل كاف، خاصة إذا كان النص مسرحيًا. يمكن مناقشة هذه القضية في مناسبة لاحقة، وأذكرها هنا للتأكيد على أن مهمة الدراماتورج ليس لقتل المؤلف وتدمير النص بشكل كامل، ولا تعويضه بمضمون ضعيف وهامشي وغير فني. يحق للدراماتورج أن يدعم النص بأفكاره أو تعزيز فكرة معينة وزيادة نسبة الجودة والخيال، والقيام بالإضافة أو الحذف، ولكن دون الوقوع والسقوط إلى التغيير الجذري الشامل. وإلا، لماذا يُختار نصًا ثم يُقدم العرض من دون التشبث ولو بأهم أفكاره والتفاعل معه بشكل جيد. لذا، يسهم الدراماتورج بفعالية في دعم الجميع وتعزيز حضورهم الإبداعي، وربما يؤدي إلى مناقشة مستمرة مع الكاتب، حتى لو كان النص قد نُشر سابقًا في موقع أو كتاب، حيث قد تكون للكاتب أبعض الأفكار الجديدة لتقديم نصه على المسرح، مما يمنح الكاتب فرصة التعاون مع الدراماتورج والمخرج وخلق طقوس إبداعية لطيفة ومفيدة للجميع.

مهمة الدراماتورج لا تنتهي عند جاهزية العرض، ومن المهم وجوده خلال العرض. فالتحليل الفني بعد العرض وتقييم ردود الفعل، والبحث عن نقاط الضعف وتعزيز القوة، قد يعجز عن فعل كل هذا المخرج وحده. إذًا يجب أن نتيح للدراماتورج المشاركة في تحليل ردود الفعل وتقييم أداء العرض، لكي يتم تكوين الفهم الجيد لمدى استجابة الجمهور والنقاد. وبالإضافة إلى ذلك، يساعد في دعم بقاء التوهج والنشاط والحماس والتفاهم في الفريق الفني الواحد. بعض الفرق الفنية العربية تشارك في مهرجانات دون أن تضم الدراماتورج والكاتب إلى الفريق، بدعوى أن مهمتهما انتهت، وهذا يُعتبر ظلمًا يتكرر كثيرًا.

بعض النصوص، وحتى المخرجين، قد  تحمل مشاريعهم أفكارًا وأحداثًا يصعب تحقيقها بسبب الظروف الإنتاجية والمادية. هنا، وعند وجود دراماتورج مبدع، يمكن للفريق العثور على حلول فنية وبدائل ممكنة ذات تأثير إيجابي. وأيضًا، هناك نقطة حيوية وخطيرة، وهي دراسة التجارب الفنية السابقة للفريق، والبحث في إيجابياتها وسلبياتها، وكذلك دراسة التجارب المماثلة حتى لفرق وتجارب أخرى.

 وعلى كل فرقة مسرحية أن تقوم بإنشاء مختبرها الفني الخاص بها لآن للعمل الفني الفوضوي تأثيرات كارثية أدت إلى فشل ونهايات خاسرة للكثير من الفرق والمجموعات الفنية والمسرحية.

أخيراً، نقف أمام نقطة شديدة الأهمية وهي البحث عن طبقة إضافية من الإبداع والخيال. يساعدنا الدور الإبداعي للدراماتورج في استكشاف طبقات النص والوصول إلى العمق، دون أن نظل مقيدين في الطبقات الظاهرة  فقط. يمكن للدراماتورج أن يتشابك ويتجاوز حدود النص المكتوب ويذهب إلى الأبعد لمصلحة النص والعرض والفريق الفني والتقني، فالمسرح فن وفكر إبداعي وقوة أي نص أن يصل إلى الخشبة المسرحية وإلى الجمهور.

في الختام، أود أن أشير إلى نقاط مهمة وتوصيات:

ـ يجب أن نتيح ظهور دور الدراماتورج كعامل حيوي لنجاح عروضنا المسرحية، وربما يمكن للكاتب المسرحي أن يستعين ويستفيد من دراماتورج مبدع قبل طباعة أو نشر نصه للقراءة.

ـ يجب أن يتوجه النقد نحو دوره ومساهمته وتحليل العروض بشكل نقدي عادل.

ـ ندرك أن تأثير الدراماتورج لا يقتصر دوره على التحضير للعرض فحسب، بل يمتد إلى تحليلات الأداء وتحديد الطرق لتحسينه وإصلاح أي خطأ وتعزيز نقاط القوة. لذا، لا يجب نفيه بعد جاهزية العرض.

ـ نحتاج إلى دورات فنية في مجالات الدراماتورجيا وتخصيص فروع وأقسام مستقلة في كليات ومعاهد وأكاديميات الفنون المسرحية العربية.

ـ يجب إعادة النظر في طرق وكتابة البحوث الأكاديمية المسرحية التي تتناول الدراماتورج، حيث يجب أن يتم دعمها بالتحليل والنماذج وتكون مفهومة ومفيدة لتساهم في تطوير الدراماتورج لإبداعه.

ـ يجب على الدراماتورج تطوير موهبته وقدراته الفنية والتحليلية والفكرية.

وأود أن احيل القراء الأعزاء إلى رابط ندوة المنتدى العربي الأوروبي 

للسينما والمسرح والتي كان عنوانها

 

https://youtu.be/FnVJVoPR2uI?si=ow9x8CF129S-Tz5y

مناقشة توصية لجنة تحكيم مهرجان المسرح العربي بغداد، دعم الاقتباس واعادة كتابة النص الغير عربي

بمشاركة

الكاتب المسرحي والناقد العراقي حكمت الحاج

الكاتب والمخرج المسرحي اليمني صفوت الغشم

الناقد التونسي عبدالجليل حمودي

الكاتب والمخرج العراقي بيات مرعي

الكاتب والمخرج التونسي نزار الكشو

الكاتب والمخرج الليبي توفيق قادربوه 

الشاعر السوري نبيل شوفان

الاعداد والادارة حميد عقبي

وقد عقدت بتاريخ 26 يناير 2024

ثمة العديد من الاطروحات المهمة التي تم مناقشتها ومن خلال هذه النقاشات عن الأعداد والتأليف والاقتباس وميلاد النص المسرحي وسنجد الكثير من القضايا الهامة التي يجب أن يعي بها الدراموتورج ومثل هذه الندوات يمكنها أن تنمي وتطور مواهب وامكانيات الدراموتورج العربي أو الراغبين في طرق والولوج إلى هذا الفن الذي يجب ألا نستسهله. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى