مقالات كل العرب

الشاعر أمجد ريان يلجأ كالمجنون للكتابة الشعرية ليجدد إيمانه بالإنسانية

شارك

الشاعر أمجد ريان يلجأ كالمجنون للكتابة الشعرية ليجدد إيمانه بالإنسانية

أ. حميد عقبي

 

في أحدث نص كتبه الشاعر المصري أمجد ريان، والذي عنونه بسؤال: “هل تسمعون ضجيج ماكينة الخياطة؟وهذا السؤال ليس شكوىً من جارٍ لجاره أو زوجٍ من زوجته. كثيرًا ما يفتتح الشاعر أمجد ريان نصوصه الشعرية ببوحٍ متأمل، كمن يترنح بين أفكاره الذاتية الخاصة وأفكار العالم المرتبك المحيط به. يُطلق الكثير من الأسئلة والدعوات للمشاركة في رحلته الشعرية، في خيالاته الطفولية وقلقه الواجداني، الذي يصل إلى درجة الهلع، حيث يتأمل في تفاصيل الحياة وبرنامجه اليومي الخاص ويعرض لنا بعض ما يسمعه ويراه في هدير يضج بالصور التي تتشابك ثم تتنافر ثم تصاب بالشلل، وقد يكون اللاشيء واللاشيء، وهو يسمح لنا بالتجول في عقله الشعري وقد لا يُخفي ارتباكه وعجزه عن فهم بعض الأشياء.

النص 

هل تسمعون ضجيج ماكينة الخياطة ؟

..

الشارع ياقات وأكمام ، 

تسير أو تتداخل

الشارع يزدحم 

بالمزيد من الياقات والأكمام

تسير مهمومة كلها ، 

وهكذا هى الحياة

ياقات تتحرك ، 

وغطاء سماوى متجهم ،

والنساء مشغولات فى المطابخ ، 

يتحركن يميناً ويساراً ، بأرداف كبيرة

وفى الأيادى كسبرة خضراء ، 

وبصل ، 

ولفّة مستكة

ويستمر العمل العارم ، 

فى حجرات صغيرة مربعة ، 

يسمونها المطابخ  .

.

غرز الخياطة محبوكة 

حول المفرش على الكومودينو

وفوقه نصف كوب من الماء 

وشريط أقراص الكحة،

وأنا أنظر للظلام الحالك ، 

وأسأل نفسى

هل تندفع البشرية إلى حافة الانقراض

أم أننا سنلحق بالحقيقة الغامضة ؟

وهل سنتمكن النساء من تسخين المستكة ، 

لكى تبعث بكل هذا العطر الخصوصي ؟ .

.

أريد أن أقطع الشارع العمومى ، 

ثم أقطع الشوارع الجانبية

أنظر فى وجوه الناس الحزينة ، 

أريد أن أواسى الناس ، فرداً فرداً

أريد أن أمنح الناس حناناً ، 

وأستمع لحكاياتهم ، فرداً فرداً

أريد أن أربت على رؤوسهم ، وأكتافهم ، 

ثم أبدأ النقاش الوجودي العظيم :

لأن معظم تلك المشكلات 

قد مرت بى :

 أنا صاحب المشكلات . كلها

.

أريد أن أنادى الناس فى الشوارع ، 

ونجلس متقابلين ، 

لكى يواسى كل منا الآخر ، 

قبل أن تصعد العنكبيات العملاقة فوق الجدران ،

وقبل أن يسقط الحبهان من أيدى النساء ، 

أريد أن أمتلك ماكينات الخياطة كلها ، 

لكى نجلس فى صفوف خلف صفوف ، 

ونقضى الليل كله غارقين في التفصيل ، 

ونخيط الأثواب الجديدة ، لكل الآدميين

القمصان الجديدة ، والفساتين الجديدة ، 

هى الحل الناجع

فساتين جديدة ، 

وقمصان جديدة.  

 

هذا النص يحمل عناصر شعرية متنوعة، أمجد ريان له طابعه الخاص الذي يتسم بأسلوبه، وهو يجمع بين الواقعية والرمزية ويمارس التجريب والتجديد كرياضة شعرية. كهمسات صلواتية روحية تتجاوز الطقوس التقليدية، يصور، يسمع وشوشات الشارع وتنهداته ويتأمل ما يلبسه الناس. هنا، هذا الوصف للياقات والأكمام وهذه اللقطات الميتافورية يخلقها الشاعر ويتركها حرة غير مقيدة بمعنى واحد، فنحن مع رؤية فريدة وتعبيرات مبتكرة قد تتولد منها حكاية أو حكايات وقد لا يتولد من بعضها أي شيء، لا يهرب الشاعر من الحكايات لكنها ليست هدفه ولا يخاف من تأويلاتنا للنص.

 

يرى ويصورالشاعر هذه الشوارع، التي تضج بناسها المهمومة والتي تسير أو تتداخل بها اللياقات والأكمام، وهذه الأجساد والرؤوس والرقاب والأيدي. يواسي الشاعر هؤلاء البشر، يهمس لهم، بأن الحياة هكذا، رؤوس ورقاب وأرواح تتحرك، ويُعيد تكرار اللياقات. وكأنها ميتافور، يمكن أن تكون القيود أو الإطارات. لكل جسد شكله وإطاره الخاص، ولكل روح ياقتها الخاصة. ينهي المشهد برفع نظره نحو الأعلى ليشير إلى هذه السماء المتجهمة، التي لا تُرسل إشارات للأمل والحلم. وهنا ثمة خطاب وعتاب إلى هذه السماء العابسة، كأنه يريد أن يفتح الحوار معها. قد يأتي تأويل آخر ليقول هو كذلك يخاطب السلطة التي تتجهم في وجوه البسطاء ولا تأبه لهمومهم، أي أن لا أحد سيساعدنا في حل أزماتنا وقد يظل واقعنا يزداد بؤسًا ما لم نفكر بفعل شيء ما ونبحث عن أحلامنا.

 

لا  يُقدّم أمجد ريان نصوصًا ذات تعقيدات لغوية بليغة فاخرة، ولا ينخرط في البساطة المباشرة الهشة. يتسم أسلوبه بالانقلابات المفاجئة داخل القصائد، مع انفجارات متعددة تظهر في نصوصه. وكمثال على ذلك، يأتي هذا النص الذي يبدأ بتأملات بسيطة في حدث حياتي عابر، لكن الشاعر يدفعنا نحو قضايا أكبر بعد ذلك. يخلق تشابكًا بين المعقول واللامعقول في نصوصه، حيث تحدث صدمات متتالية مع كل مشهد.

لنتأمل هذه اللقطة من مشهد النساء في المطبخ:

(وفى الأيادى كسبرة خضراء ،

وبصل ،

ولفّة مستكة)

تظهر التأملات والتصوير لأمهاتنا وزوجاتنا، المشغولات بتدبير وجبات ذات نكهات طيبة. وهنا مستكةصورة ميتافورية بديعة تعبّر عن التمسك بالروحانية والميتافيزيقا والإيمان، يمرر الشاعر رؤيته الفلسفية وينقلنا من الحديث عن الجسد إلى أسئلة الروح، فأجسادنا وأرواحنا كبشر تحتاج إلى الخيال والحلم والحكايات والخرافات والجمال.

 

 يعترف الشاعر بتدهور جسده وتقدمه بالعمر، فهو يسعل ويمرض ويخاف أن يضعف خياله وقواه الذهنية. لذلك، يرغب في استغلال كل لحظة قوة ليلاًمس هموم الناس. يتمنى أن يذهب إلى الشوارع الخلفية، وهنا يقدم رؤية ثقافية، فالمبدع ليس عليه أن يظل حبيس المطابخ الثقافية والفنية الرسمية والمرئية وألا يقدم إبداعه لفئة واحدة، بل عليه أن ينزل إلى الهامش ليس فقط لتصويره أوأن يلتقط حكاياته البائسة. وكأننا هنا مع وصية ورؤية مبدع وفيلسوف مجرب يدعونا أن نصافح الناس ونحاورهم ونفهمهم، وأن تكون لنتاجاتنا الإبداعية حياة بينهم، فالبسطاء يعشقون الخيال ويضيفون إليه ويخلدونه، وكأنه يقول كل الخرافات والأساطير والمعتقدات القديمة ناقلتها اللسنة وصدور البسطاء وطورت بعضها ومزجت بعضها ببعض وهكذا، ثمة نقد ثقافي جمالي لواقعنا الذي تزداد أزماته وارتباكاته المفجعة.

 

 أمجد ريان كتب القصة القصيرة في شبابه، لكنه بعد ذلك جرفه هوس وجنون الشعر ومع مجلة “إضاءة 77” وتكتل أدبي تضم حسن طلب، حلمي سالم، جمال القصاص، ماجد يوسف وأمجد ريان.

 

يقول أمجد ريان خلال حواره في برنامج “صالون المساء مع قصواء” حول شعراء السبعينات: “أهم ما كان يميزهم الخروج من الاحادية التاريخية ومركزية الشعر. فالشعر للجميع ولا يمكن أن نصنف أي شاعر بأنه شاعر الأمة، أي النزعة والبحث عن التعدد والتنوع. وهذا انعكس في تعدد المستوى الصوري واللغوي في قصائدهم والتفنن في استخدام الاستعارات والمجازات اللغوية وتوظيفها لإثراء الخيال. وكان للاستخدام الكبير لهذه الجماليات انعكاسات على بعض النصوص كالغموض. وقد قدمت هذه الحركة منجزات إبداعية أنيقة، ولكنها مع مرور الزمن تغيرت وذهب بعضهم مثل أمجد ريان من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.”

و أمجد ريان أنه يميل لتصنيف ما يكتبه إلى النص الجديد، ويرى أن هذا النص يستوعب كل المستويات اللغوية والكلام والتعبيرات اليومية. وهو يصور حياتنا اليومية ببساطتها وهذياناتها، بل يعطي لها الأهمية الكبرى. النص يتعلق بروح الواقعية وتأمل الواقع، وبالنسبة لأمجد ريان، لا يفخم ما يكتبه ولا يبحث لنفسه عن الألقاب ولا يبحث عن مدرسة ولا اطر، بل يسعى ويكتب ليقترب من الحياة المعيشية العادية.

 

ومن خلال هذا النص والكثير من نصوصه، نتلمس أن أمجد ريان يكتب ويصور ويلتقط الأشياء الأكثر قربًا منه، أي التي يراها ويلامسها ويتعايش معها ويجدها كافية وغنية. وحتى أنها ليست بالبساطة التي نتصورها. وإذا عدنا لقراءة “هل تسمعون ضجيج ماكينة الخياطة؟”، يُعلن في هذا النص عن رغبته وأن يمتلك ماكينات الخياطة كلها وتكون صفوفًا خلف صفوف. يريد وكأنها آخر أمانيه في أن نخيط الأثواب الجديدة لكل البشر، ويبدو كأنه يريدنا أن نشاركه ونتكاتف معه لتحقيق ذلك. وهذا الهدف ليس سهلاً  بل أصعب المستحيلات في عالم مجنون بالحروب المدمرة. يتمنى الشاعر أن يمنحنا “القمصان الجديدة والفساتين الجديدة”، وهو من أكبر التحديات ولا يمكن أن يتحقق في ظل هذه الأنانية المفرطة. إذاً، ملابس جديدة لكل البشر تعني أن يلبس الناس اجمعين ويشعرون بالسلام والأمان والشبع والصحة والفرح وعدم الخوف. 

أن يتحقق حلم كهذا سيكون تحقيقًا للفضيلة المطلقة وهذا لم يحدث منذ جاء الإنسان إلى الأرض وقد لا يحدث أبدًا. الشاعر أمجد ريان يكتب ليكون إنسانًا وليجدد شعوره بإنسانيته ويعمق هذا الشعور في دواخله، كأنه يخاف أن تجرفه التيارات المادية وأن تسقطه كما اسقطت غيره من الشخصيات والرموز، بعضها انجرف في السنوات الأخيرة من حياته وأغرتها بعض الجوائز والتكريمات الرسمية. فباعت كل شيء بالذهب والدروع والألقاب، قبل أن ينصحنا الشاعر، فهو ينصح نفسه ويخاف أن يقع في هذا المأزق المهين لذلك يهرع إلى الكتابة كالمجنون ليجدد إيمانه بالإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى