مقالات كل العرب

مؤثرون في بطون أمهاتهم

شارك

مؤثرون في بطون أمهاتهم !

أ. لطيفة لبصير

حظي جنين في بطن أمه بمتابعة الآلاف من المعجبين على الانستجرام، وذلك حين وضع والداه ثلاث صور له باسم بايبي بروفايل بواسطة أشعة رباعية الأبعاد وبواسطة السونار، كما وضع الوالدان لغة تخص الجنين وكأنه يتحدث مع والديه عبر الانستجرام، ويقول لهم: إنني قادم…قريبا سأخرج.
كان الجميع مشدوها بالصور ومتابعا للجنين قبل قدومه للعالم، وبدأ الكل يترقب دخوله إلى هذا العالم ولديه الكثير من المعجبين. خمنت أن العالم تغير فعلا، فهذا الجنين متابع قبل أن ينزل ككائن على الأرض وقبل أن تصبح له أوراق رسمية وشهادة ميلاد، بل إن الكثيرين عبر العالم يتساءلون عن وقت ولادته.
تأملت اللغة الجديدة التي يتحدث بها العالم الآن، متابعون لجنين لم ير النور بعد، أكثر من المتابعين للعلماء والمفكرين، ومؤثرون يهرطقون ويتفوهون بأسوأ الجمل والكلام وفوق ذلك يحظون بمتابعات خيالية كما تقول السيدة م في ردها على أحد منتقديها:
” أنا إيلا طلعت غير للسطح غادي نجيب 5 الملاين ديال الأصوات…كَيْتُوا هو اللي ما يجيب والو…”
يا إلهي ما الذي حدث؟ وكيف تحول العالم فجأة إلى أرضية تملأها فقاعات صابون تزحلق كل من يحاول أن يقف عليها؟ من أين خرج هؤلاء المؤثرون الذين أصبح يحسب لهم ألف حساب في كل شؤون الحياة الدينية والدنيوية؟ ولماذا يتكاثرون كالطفيليات وينتشرون في الهواء حتى أتوا على الأخضر واليابس؟ ولماذا يتابعهم الملايين رغم معرفة المتابعين بأن أغلبهم من ذوي التكوين الهش؟ ولماذا تضاءل العالم ليصبح مزحة عابرة أو مقطعا مبتورا من سياق أوكلمة فارغة من المعنى؟ وما المعنى وما اللامعنى؟
في كل يوم تتحفنا كل المواقع بما فيها المعطيات الرسمية للأمبراطور جوجل عن أخبار أناس لا يفعلون شيئا في هذا الكون، إلا لكونهم دخلوا وسائل التواصل الاجتماعي سواء بفردة حذاء غريبة أو كرش كبيرة ترقص في كل الاتجاهات، أو بابتسامة ذئبية تقلد مخارج الأصوات دون أن تنبس ببنت شفة، أو بمؤخرات غريبة تغير كل مقاييس الجمال في العالم، أو بصراعات بين مطربة وزوجها وأختها وأعمامها وصديقاتها وكأن كل شيء يتنامى فجأة إلى أن يكبر ويصبح بحجم الجبل، بل إن الشجار العائلي أصبح محط اهتمام أكثر من أي شيء آخر، علاوة على الروتين اليومي بأشكاله المختلفة، وصولا إلى أشخاص يتحدثون عبر اللايف بين الفينة والأخرى بلغات فاحشة كي يجلبوا ملايين المتابعين ومعها ينعمون بالمال جراء هذه الفيديوهات.
وفي الوقت الذي تصعد هذه الهرطقات العالمية وتطفو على السطح، يختفي كل خطاب آخر في هذا الكون ويصبح العالم وكأنه قد علق بمشد صغير جدا تخرج منه الآراء اليومية والأقوال المنقولة والجمل المسكوكة الجاهزة والنصائح الكثيرة من أشخاص ليس لهم أي مذهب، يغيرون أحوال العباد بالكثير من التوجيهات حتى أنه في زمن كورونا هذا نجدهم يفتون أكثر من الأطباء ويعرفون كل شيء قبل العلماء .
في الوقت الذي يصعد فيه هؤلاء المؤثرون الذين أصبح يحسب لهم ألف حساب، يتراجع العلم والمعرفة والأدب والفن والحقيقة ذاتها لأن اللغط الحاصل يحجب كل جمال، بل إنهم أصبحوا هم المالكون لزمام الرأي والحقيقة.
أتخيل كأننا نجلس أمام شريط طويل تعبر فيه كل الصور ونحن لا نفعل شيئا سوى المتابعة، بل الأكثر من ذلك أصبحنا بشكل لاشعوري تحت تأثير هوس اليومي، فلا حديث يصعد سوى حديث الخطاب الذي يستهلك في اليومي وينطفىء في نفس اليوم ثم يعود للظهور مرة أخرى.
في هذا الزمن الذي بدأ يفقد وهج الابداع والعمل الحقيقي، ينبغي لهذا الزحف أن لا يكتسح إلى أن يقتل كل شيء، ذلك أن المتابعين أصبحوا مقياس كل شيء، فالكل بدأ يقاس بحجم متابعيه، حتى أن معايير التقييم قد اختلت.
نحن في حاجة إلى إعادة النظر في كل هذا الحجم الهائل الذي يطغى وكأنه المسير للكون في كل المجالات، لأن هؤلاء الذين يتصارعون في كل يوم ويضجون في مواقع التواصل الاجتماعي ويسبون ويقذفون، ولا يتورعون عن سرد كل تفاصيل حيواتهم مهما كانت صادمة، هم أناس مستعدون للارتماء في الجحيم مقابل أصوات تكسبهم المزيد من المال، ولذلك ليس من حقنا أن ندعهم يقودون العالم وينشرون قيمهم البئيسة ويقنعون اليافعين والشباب أنه يمكنك أن تكون فارغا وأن تتحكم في كل من هم من حولك. إننا في حاجة إلى أصوات الحكماء لا إلى أصوات المؤثرين، وذلك لأنه رغم أن المؤثر يسير بسرعة إلا أنه يسير على رأسه، بينما الحكيم وإن كان يسير ببطء إلا أنه يعرف الطريق ويعرف معالمها ويعرف، وهذا هو المهم، تجنب الوقوع في الحفر التي تملأها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى