مقالات كل العرب

الطفلة هند.. تعالوا خذوني

شارك

الطفلة هند…. تعالوا خذوني

 

أ. عيسى قراقع

لقد اختفى المسعفون من طاقم الهلال الأحمر الفلسطيني الذين توجهوا لإنقاذ الطفلة هند رجب ابنة الست سنوات، والتي استهدف جيش الاحتلال سيارة تقلها وعددا من اقاربها في حي تل الهوى في قطاع غزة يوم 29 كانون الثاني 2024، انهمر رصاص المحتلين على السيارة واستشهد بشار وزوجته واطفالهما وبقيت هند محاصرة بين جثامين عائلتها، وتمكن طاقم الهلال الأحمر من الاتصال بهند التي صرخت خائفة ومرعوبة تعالوا خذوني، تكرر النداء حتى سمع عبر الهاتف صوت اطلاق النار لترتقي الطفلة هند شهيدة.

يا هند اين رغد
رغد ماتت
كلهم ماتوا
لم يبق غيري
تعالوا خذوني

ظلت هند ساعات وساعات داخل السيارة تملؤها الدماء، وانتظرت هند سيارة الإسعاف التي توجهت لانقاذها، وعندما اصبح طاقم الإسعاف قريبا من مكان هند، انقطع الاتصال بالطاقم الذي توجه لانقاذها، قتلت الطفلة هند رجب، واختفى طاقم الإسعاف، ربما تم اعدامهم بعد اعتقالهم، تجريدهم من ملابسهم، تكبيلهم وتعصيب اعينهم، ضربهم واطلاق الرصاص عليهم، إخفاء جثثهم، وربما جرى اعتقال الطاقم واقتيادهم الى ذلك المعسكر الجهنمي البشع الواقع على حدود قطاع غزة، الضرب والتكسير والشتائم والاهانات، البرد والجوع وممارسة كل أساليب التوحش فوق أجسادهم كما يحدث لآلاف المعتقلين الذين يروون شهادات مخيفة وفظيعة عن الجرائم والممارسات اللانسانية التي تحدث في السجون والمعسكرات، شهوات الانتقام المتصاعدة، التدمير والقضاء على القيم الإنسانية والحياة، وحوش مسعورة تشن حرب الإبادة الإنسانية على المعتقلين وعلى مبادئ العدالة الكونية.

تعالوا خذوني
انا خائفة
الو… الو…
الطفلة تنام قبل ان تنام
لا مسافة بين الصوت والكلام
هي الرصاصة الخاطفة.
تعالوا خذوني
انا انزف دما
ماذا افعل
الو.. الو…

الطفلة الجميلة هند، تنضم الى اكثر من 12 الف طفل قتلوا في غزة، والعدد يزداد يوميا في ظل تواصل هذه الحرب الدموية المفتوحة، أطفال في حقول من أشلاء، وازداد القتل شراسة بعد جلسة محكمة العدل الدولية، لا تدابير توقف هذا الموت، لا احد يسمع نداءات الناس ولا استغاثات المؤسسات الإنسانية والدولية، منظمة اليونسيف تقول ان اكثر من 17 الف طفل في غزة دون ذويهم وانفصلوا عن عائلاتهم، صور الأطفال المذبوحين الهائمين والمشردين والضائعين والايتام تملأ الشاشة وتقارير المؤسسات الحقوقية، ولازال الامين العام للأمم المتحدة يصرخ دون فائدة، الجميع في غزة جائعون، نزوح اكثر من مليون ونصف من السكان المدنيين، النظام الإنساني والصحي ينهار، الأوبئة والامراض تفتك بالجميع دون استثناء.
تعالوا خذوني
بوسعي الانتظار بين قذيفة وقذيفة
بوسعي الانتظار
الصوت يرتعش بين دقيقة ودقيقة
الو… الو…
توقف النداء، سكت العالم، هو الصدى يرتد جسدا يحاصر بالنار، الصمت المفجوع في غزة، مسالخ للبراءة والطفولة، لا حماية دولية ولا كتاب يسمى الاتفاقية الدولية لحماية الأطفال، لم يصل طاقم الإسعاف، كل شيء ينهار، الاخلاق والضمائر التي افرغتها سماء الحديد والاسمنت، الهيمنة الامريكية والصهيونية التي ملأت الأرض من دمائنا وجماجمنا، لقد ماتت هند، ولم تفتح المعابر والمستشفيات، لم يصل الدواء ولا الهواء ولا التوابيت، ولازالت هند هناك، لا زال الأطفال يتطايرون بين حمم القنابل والصواريخ، لا زال الموت ينتفض في ارض الرمال شهيقا وراء شهيق، مقابر منتشرة في الشوارع والحدائق والممرات والطرقات وفي ساحات المستشفيات، في الملاعب وصالونات الافراح.
ويتحدثون عن صفقة
ويتحدثون عن تسوية
ويتحدثون عن هدنة
لم يعثروا على الطفلة هند
اهي حية ام جثة.
سكت صوت هند، سكتت غزة، احترق كل شيء، تشرد الأطفال، ها هم يبيعون الشاي والقهوة، يفتشون عن قطع الخبز الناشفة، نسفت الاحياء والحارات والذكريات، الملاعب والمدارس والمتاحف والمسارح والجوامع والمستشفيات والجامعات، سكت التاريخ الإنساني للبشرية حضارة وثقافة وفكرا، انها الرذيلة والعودة الى العصور البهيمية، الازدراء الكامل للإنسان، ولأول مرة نسمع السماء تبكي، هند تبكي، ولازالت الدول الاستعمارية تعقد الاجتماعات وتجري اللقاءات والمشاورات، ما الفائدة؟ هند الصغيرة ماتت، هاتوا الاغطية، اخرجوا الجثة، غطوا الطفلة هند، غطوا غزة التي تحولت الى هيكل عظمي ومقبرة، ضروري من اجل التطهير والتنظيف والتهجير واغتيال وكالة الانروا واكتمال قواعد الإبادة.
الاف الأطنان من المتفجرات
قتيل يحمل على كتفيه قتيل
حليب وكالة الغوث يتخثر
لن تكون خيام النزوح مفتوحة للرحيل
لن ننسى ولن نغفر.
تعالوا خذوني، صوت هند يدوي في كل الاروقة والمنابر العالمية، جميع أطفال العالم يتعرضون للموت الان، من لم ينقذ هند لن ينقذ اطفاله في أي زمان ومكان، من يحاصر غزة ويتركها لهلوسات المجرمين والشاذين من ابن غفير حتى نتنياهو والحلف الأطلسي لن يستطيع ان يحمي نفسه من الموت والاعتقال، انه اجتياح للانحطاط العالمي، البرابرة وصلوا كل بيت وخلعوا كل باب، لن يستطيع الشعراء ان يكتبوا قصيدة حب لامرأة، او ان يجلسوا في حديقة هادئة، ولا ان يتذكروا انهم كانوا أطفالا في اية لحظة.
يبكي هذا الطفل بحسرة:
بدي ارجع امسك ايدي
كان لي يدين وكفين وعشرة اصابع
من يدلني على يدي المبتورة.
تعالوا خذوني، لم يسمعها المؤتمرون في باريس، لا زالوا مشغولين في مخطط ما بعد غزة، يرسمون حدود السيطرة والهيمنة وتوسيع احزمة النيران، وعلى مهل ستكون هناك دولة، بين مقبرة ومقبرة، بين حاجز عتصيون وحاجز حوارة، وعلى مهل ستتقلص أعضاء الكينونة، قطعة قطعة، وستكون دولة ممزقة لا تصلح للعيش، دولة خارج مدى صوت الطفلة هند، دولة لا شهود فيها يشيرون الى العصابات والمافيا والقتلة ، وعلى مهل، فإن لم يموتوا بالقنابل سيموتوا جوعا وقهرا وبردا، وعلى مهل ان لم يموتوا في اليأس سيموتون في السجن والعتمة .
تعالوا خذوني
من لم يستطع ان يدخل الكاز والبطاطين الى غزة
كيف يستطيع ان يعطيني دولة!
من لم يستطع ان يعيد جثتي من الثلاجة الباردة
كيف يستطيع ان يعطيني روحا واغنية؟
ولا ادري لماذا يتلهفون للحديث عن دولة فلسطينية بعد كل حرب او انتفاضة او مقاومة، وبعد 76 عاما من الاحتلال والاستيطان والسلب والنهب والبشاعة العنصرية، احاديثهم حامية الان ولكن غاياتهم باردة، او لأنهم لم يروا راية بيضاء ولا خنوعا وتنازلا واستسلاما، رأوا فدائيا حافيا يجمع بين البطولة وقراءة الفاتحة.
الحمد لله “انا جريحة ولست شهيدة”، تقول طفلة اخرجوها من تحت الأنقاض، التفتت حولها فلم تجد عائلتها، نظرت الى السماء طويلا بعيون دامعة، اين الرحمة وكل من حولي يسكن في فراغ القنبلة، لكن الطفلة هند لازالت على خط التلفون، تعالوا خذوني، انقطع الاتصال، انقطع الحاضر عن الابد، يا الهي ماذا تبقى من حدود الأرض ومن أسلحة حتى تتوقف الحرب ويعود الاتصال بين ملكوت الأرض والسماء، يا الهي فلسطين تنفجر احلاما وشهداء، وهند تريد ان تحيا قليلا لترى البحر والحرية وان كانت بحجم جمجمة.
وهذا الطفل قلعوا عينه اليسرى
ارجوك يا دكتور
اعد لي عيني الثانية
ازرع لوجهي العظم واللحم
بلا تخدير
حتى لو انهمر الدم.
الو الو… تعالوا خذوني، انا هند، انا هنا وانا هنا، تراخى الصوت، اختفى طاقم الإسعاف وتشظى الوقت، فهل في هذا الشتاء ما يكفي لكي نزرع حقول الجثث، نتجرع الموت لكي نتجرع الامل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى