مقالات كل العرب

سر الظهور المفاجئ للجنرال حميدتي!؟

شارك

سر الظهور المفاجئ للجنرال حميدتي!؟


أ. يحيى إبراهيم النيل

تسارُع وتيرة الأحداث في النصف الثاني من ديسمبر ونفخها في أشرعة سفن تسير في غير إتجاه داعمي قوات الدعم السريع في السودان، جعلت من الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد هذه القوات، عبئاً ثقيلاً على من يدعمه.
من هذه الأحداث، إعلان رئيس مجلس حقوق الإنسان، فاكلاك باليك، في 18 ديسمبر 2023، تعيين محمد شاندي عثمان (تنزانيا)، وجوي إيزيلو (نيجيريا)، ومنى رشماوي (الأردن/سويسرا) في مناصب الأعضاء المستقلين الثلاثة في البعثة الدولية المستقلة المكلفة بتقصي الحقائق بشأن الوضع في السودان، التي أنشئت في 11 أكتوبر، بموجب القرار A/HRC/RES/54/2 ، “لتحقيق وإثبات الحقائق والظروف والأسباب الجذرية لجميع المزاعم حول انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات وانتهاكات القانون الإنساني الدولي- بما فيها تلك المرتكبة ضد اللاجئين- والجرائم ذات الصلة في سياق النزاع المسلح المستمر الذي بدأ في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى الأطراف المتحاربة الأخرى.”
وفي اليوم التالي (19 ديسمبر 2013) دفع عشرة من أعضاء الكونغرس الأميركي بمذكرة إلى وزارة الخارجية الإماراتية قالوا فيها: “نشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن دولة الإمارات تقدم الدعم المادي، بما في ذلك الأسلحة والإمدادات، لقوات الدعم السريع. ونحث على إنهاء أي مساعدة من هذا القبيل”. وأشارت المذكرة الى أن إرسال الأسلحة إلى دارفور يمثل انتهاكاً لقرار حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على دارفور بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1591. وأوضحت بان هذا الانتهاك “يشكل خطرًا كبيرًا على سمعة دولة الإمارات وسيضع الشراكة الوثيقة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة في موضع تساؤل”. كما كشفت (فورين بوليسي) عن أن مشرّعين أمريكيين “يمارسون نوعا من الضغط على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لاتخاذ نهج أكثر قوة تجاه الحرب في السودان”.
وفي الثالث والعشرين من نفس الشهر أعرب مجلس الأمن الدولي عن قلقه إزاء انتشار العنف في السودان، بعد يوم من إعلانه أن الحرب هناك قد تسببت بنزوح 7 ملايين شخص ولجوء مليون ونصف آخرين إلى دول مجاورة. وندد بقوة بالهجمات ضد المدنيين وتمدد العنف إلى “مناطق تستضيف أعدادا كبيرة من النازحين واللاجئين وطالبي اللجوء”، في إشارة إلى مدينة ود مدني.
علاوة على الضغوط الدولية واحتمال الاتهام بالتورط في الجرائم التي قد يُتهم الدعم السريع رسمياً بارتكابها، فإن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في السودان، في التاسع عشر من ديسمبر، في عملية شُبّهت بأنها (تسليم وتسلم) عقب انسحاب الفرقة الأولى مشاة في الجيش السوداني من المدينة، دون أخذ أسلحتها أو تدميرها، مما جعلها هدية على طبق من ذهب للقوات المهاجمة، أثار حنق وغضب السودانيين في هذه الولاية وفي غيرها من الولايات. الأمر الذي جعلهم يسارعون إلى تسليح أنفسهم لرد أي هجوم من الدعم السريع. وتبع ذلك حملات تعبئة واسعة في كل أنحاء البلاد تحت مسمى “المقاومة الشعبية المسلحة”. وتعتبر المقاومة الشعبية وتسليح المواطنين نقطة تحول فارقة في مسار هذه الحرب بعد تسعة أشهر من اندلاعها. فهي، بداية، تحوّل الحرب من مواجهة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع إلى مواجهة بين هذه الأخيرة وبين المواطنين الذي يسعون للدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم أو للإنتقام من هذه القوات المتفلتة التي طردت المواطنين من بيوتهم ونهبتها واغتصب بعض أفرادها فتيات في الخرطوم وفي دارفور وقاموا بتصوير هذا الفعل الشنيع ونشره في الوسائط. والمحزن أنه بعد دخولهم ود مدني انتشرت في الوسائط نداءات لتوفير حبوب منع الحمل للفتيات اللائي اغتصبن أو يخشين الاغتصاب. كما قام بعض افراد هذه القوات بنهب البنوك والشركات وقاموا بتصوير أنفسهم وهم يعبثون بأكوام الأوراق المالية المنهوبة. علاوة على أن دخول قوات الدعم السريع إلى قرى ولاية الجزيرة الآمنة وسرقة سيارات وأموال المزارعين البسطاء قد جرد هذه القوات وداعميها من أقوى حججهم وهي أنهم إنما يحاربون أنصار النظام السابق ويسعون لنشر الديمقراطية وإنهاء سيطرة نخب الوسط على مقدرات البلاد.
ولكل ما سبق نري أن خروج (او إخراج) حميدتي، الذي ظل مختفياً لعدة شهور مما جعل الغالبية العظمى من المتابعين للشأن السوداني يجزمون بوفاته، كان محاولة لتحقيق هدفين: التخلص من هذا العبء وحجز مكان له في مستقبل العملية السياسية في السودان، يعززها ما كسبته قواته أثناء الحرب.
وتم التمهيد لهذا الخروج بخطوات محسوبة ومدروسة بدأت بإعلان حميدتي عبر منصة “إكس”، في 26 ديسمبر، أنه تلقي خطاباً من الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية [ورئيس الوزراء السابق]، يدعوه فيه لاجتماع عاجل لمناقشة قضايا وقف الحرب ومعالجة آثارها. وأكد حميدتي ترحيبه التام بعقد هذا اللقاء فوراً وترحيبه “بكل جهد وطني يجلب السلام وينهي المعاناة التي خلفتها الحرب”.
وأشارت تقارير إخبارية نُشرت في نفس اليوم إلى أن البرهان قد تسلم خطاباً من الهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيقاد) للقاء حميدتي في جيبوتي يوم الخميس 28 ديسمبر. قبل أن تعلن الايقاد، في اليوم التالي، عن تأجيل هذا اللقاء، بسبب عدم وصول حميدتي إلى جيبوتي لـ”أسباب فنية”، حسب خطابها المرسل للخارجية السودانية. غير أن إبراهيم مخير، عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، أشار إلى “عقبات حقيقية أمام لقاء حميدتي والبرهان” منها أنه كان من بين إجراءات بناء الثقة التي تم الاتفاق عليها في اجتماع جدة، “تسليم الإخوان المسلمين المتورطين في إثارة العنف في السودان”، متّهِماً الجيش بأنه “لم يفِ بالوعد الذي قطعه على نفسه”.
وفي نفس يوم الإعلان عن تأجيل لقائه مع البرهان، أعلن حميدتي في حسابه على منصة “إكس” إنه التقى الرئيس الأوغندي يوري موسيفني وبحث معه تطورات الأوضاع في السودان، مضيفا أنه طرح لمضيفه رؤيته للتفاوض ووقف الحرب و “بناء الدولة السودانية على أسس جديدة عادلة”. ونُشرت صورة تَجْمع الرجلين (وليس فيديو)، مما أطلق التكهنات مجدداً حول موت حميدتي. ومن كمبالا طار الجنرال حميدتي إلى أديس ابابا حيث أجرى مباحثات مع نائب رئيس الوزراء وزير خارجية إثيوبيا ديميكي ميكونن. وقال رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، إنه استقبل حميدتي والوفد المرافق له “لمناقشة إحلال السلام والاستقرار في السودان”. وتم بث فيديو، هذه المرة، لاستقبال حميدتي في مطار أمبلي الأثيوبي وهو ينزل من طائرة تابعة لشركة (رويال جيت) الإماراتية. وتُظْهِر سجّلات الطيران أن هذه الطائرة أقلعت من أبوظبي إلى مطار عنتيبي في أوغندا صباح الأربعاء 27 ديسمبر، حسب رويترز، لكن الوكالة أعلنت أنه لم يتسنَّ لها “التحقق مما إذا كان حميدتي على متن الرحلة السابقة للطائرة “.
وبِذِكر هذه الطائرة، نقول إن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد أبرز داعمي حميدتي الذين نعتقد أنهم قد بدأوا التخلص منه. وتُعدّ كذلك المحرض الأول لدول جوار السودان للسماح لدعها لقوات حميدتي بالمرور عبر أراضيها. فقد سماها أعضاء الكونجرس الأمريكي في مذكرتهم آنفة الذكر إلى وزارة الخارجية الإماراتية. وكان الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة السودانية، قد اتهم الإمارات في 28 نوفمبر الماضي بأنها “دولة مافيا سلكت طريق الشر بدعمها قوات الدعم السريع”. مضيفاً أنها ظلت ترسل منذ اندلاع الحرب أسلحة إلى قوات الدعم السريع عبر أوغندا وأفريقيا الوسطى وتشاد وحفتر في ليبيا، بمساعدة منظمة (فاغنر) الروسية. لكن الامارات نفت هذه الاتهامات. بيد أن وزير الخارجية السوداني المكلف، علي الصادق، قد أشار إلى “توافر معلومات لدى حكومته حول تورط الإمارات في الحرب”.
وفي أغسطس الماضي نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مسؤولين أوغنديين قولهم، إنهم عثروا في الثاني من يونيو على أسلحة وذخيرة في طائرة شحن كان يُفترض أن تنقل مساعدات إنسانية إماراتية إلى لاجئين سودانيين في تشاد. وقال هؤلاء المسؤولون إن الطائرة الإماراتية قد سُمح لها بمواصلة رحلتها إلى مطار أم جرس الدولي في شرق تشاد، بعد أن تلقوا “أوامر عليا” من رؤسائهم بوقف تفتيش الرحلات المتوقفة القادمة من الإمارات. واضافوا أنه “لم يعد مسموحا لهم بتفتيش هذه الطائرات، لإنها أصبحت، بعدُ، مسؤولية وزارة الدفاع”. وهذه الواقعة أكدتها صحيفة الدويتش فيله (DW) الألمانية بتاريخ ١١ أكتوبر. وتحدثت وسائل إعلام غربية بأنه وتحت ستار إنقاذ اللاجئين “تدير الإمارات عملية سرية متقنة لدعم حميدتي بأسلحة قوية وطائرات من دون طيار ومعالجة المقاتلين المصابين من قوات الدعم السريع ونقل الحالات الأكثر خطورة جواً إلى مستشفيات الإمارات العسكرية”. مبررة هذا الدعم بأن الإمارات “تراهن على حميدتي للمساعدة على حماية مصالحها في السودان والوصول الى احتياطيات الذهب الهائلة بالسودان والحصول على مساحات من الاراضي الزراعية السودانية وحصة في ميناء على البحر الاحمر رصدت له أبو ظبي ميزانية بقيمه (٦) مليار دولار. كما برر أليكس دي فال، أحد أكبر الخبراء المتخصصين في الشأن السوداني، دعم الإمارات للجنرال حميدتي لأنه “أرسل جنودا من قواته للمشاركة في الحرب الإماراتية السعودية في اليمن”.
إن كانت نتيجة دخول الدعم السريع ود مدني والاستيلاء على حاميتها العسكرية مصدر إزعاج لداعمي حميدتي لما أثاره من قيام المواطنين بتسليح أنفسهم لمنازلته و ترجيح كفة الجيش، و عجل بالتالي من قرار التخلص منه، فهو ايضاً عامل محفز لتحقيق الهدف الثاني: إيجاد موطئ قدم للدعم السريع في المرحلة القادمة، رغم كل الفظائع التي ارتكبها منسوبوه، لأن دخول هذه المدينة يمثل مصدر قوة وكرتاً رابحاً في المفاوضات بين طرفي القتال في السودان، وربما الوصول إلى صيغة مصالحة تُبنى على “عفا الله عما سلف”، مع احتمال أن يقوم حميدتي، بما له ولحلفائه من أموال طائلة، بتعويض الضحايا حتى يتم تمرير الصفقة وسط المواطنين الحانقين عليه و على قواته.
يضاف إلى النصر الذي حققه الدعم السريع في ود مدني، انتصاراته في عدة ولايات بدارفور، والتي قيل إنها كانت محاولة للإستيلاء على كامل اللإقليم، تمهيداَ لإعلان حكومة مستقلة عن الخرطوم، لإعادة نموذج الجنرال حفتر في ليبيا. ومِثْل التمدد في ولاية الجزيرة، أصبح التمدد في دارفور عبئاً ثقيلاُ على داعمي حميدتي من دول الجوار، خاصة تشاد وإفريقيا الوسطى. ذلك لأنهم رأوا شَرار النار التي زادوها حطباً في الخرطوم يتطاير أمام منازلهم. وقد تلتهم أسِرّتهم غداّ، لأن عدم استقرار دارفور سيمس استقرار بلدانهم، نتيجة للتداخل القبلي بين هذه البلدان الثلاثة، ولأن السلاح الذي تدفق عبرهم إلى دارفور سيرتد إلى صدورهم عند اندلاع أول نزاع مسلح مع معارضيهم. عليه، أصبح من مصلحتهم إخراج حميدتي لوضع حد للحرب في السودان بالاتفاق مع البرهان.
وإذا أخرجنا رأسنا من نوافذ قصور الحاكمين في المنطقة لننظر إلى الخارج الذي يحرك اللعبة عبرهم، نجد أن الغرب، خاصة الولايات المتحدة، قد بدأ يُظهر حرصاً على طي ملف الحرب في السودان بعد تجاهل. لأن إدانة الدعم السريع وحلفائهم بواسطة الكونغرس الأمريكي وبعض المنظمات الدولية، يجبرهم على إبداء نوع من (الإلتزام الأخلاقي)، وإن كان كاذباً، تجاه الضحايا من المدينين، خاصة بعد أن رأينا بأعيننا موقفهم المخزي مما جرى ويجري في غزة.
دعونا ننتظر (لتبدي لنا الأيام ما كنا نجهل وليأتينا بالأخبار من لم نزود)
فـ” الليالي من الزمان حبالى * مُثقلاتٍ يلدن كل عجيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى