مقالات كل العرب

تقويض التيار الديني في إسرائيل من الباب الأميركي

شارك

تقويض التيار الديني في إسرائيل من الباب الأمريكي

أ. نسيم قبها

منذ أسابيع ودولة الإحتلال الصهيوني تشهد صراعًا داخليًّا حادّا بين حكومة نتنياهو التي تمثل اليهود المتدينين، وبين المعارضة اليسارية التي تمثل الدولة العميقة والتي أسست دولة( إسرائيل) بدعم من بريطانيا وبرعاية أميركية.
وقد استعر هذا الصراع بعد أن منح الكنيست صلاحيات واسعة لزعيم حزب القوة اليهودية إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وما تبع ذلك من تصريحات لنواب يمينيين في الكنيست تطالب بتطبيق الشريعة اليهودية، إضافة إلى ما أشعلته خطة وزير العدل ياريف ليفين، للإصلاح القضائي، وتحذيره المحكمة العليا من أية محاولة تدخل لإبطال التعديلات الدستورية، وهو الأمر الذي اعتبرته حكومة نتنياهو تجاوزًا “للخطوط الحمراء”؛ أي تجاوزًا للسلطة التشريعية المنتخبة من قبل جهة غير منتخبة.
وعلى إثر النزاع حول الإصلاحات القضائية التي استغلها خصوم نتنياهو للهجوم على حكومته نزلت جماهير المعارضة إلى الشوارع دعمًا لموقف المحكمة العليا، وأيدهم في ذلك بعض القادة الأمنيين في الشرطة والجيش، مما دفع نتنياهو إلى عزل عدد منهم، من بينهم وزير الدفاع يوآف غالانت، بعد مناداته بتجميد مشروع تعديل النظام القضائي.
واللافت في هذه النزاعات السياسية هو اشتدادها بعد تبدل الإدارة الأميركية التي عدّلت خطة “الحل الإقليمي” والنهج الإبراهيمي من خلال ربطها التقدم فيه باستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، واللافت أيضًا هو استمرارها بشكل كبير بعد عودة نتنياهو واليمين الأشد تطرفًا إلى السلطة وانتقاله إلى الشارع، حيث بتنا نسمع لأول مرة تعبيرات مثل “الحرب الأهلية” و”إشعال النار في البلاد” و”زلزلة الدولة”.
ورغم أنه يجري تصوير الصراع بأنه صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية، ممثلًا في الصراع بين الأحزاب اليسارية والوسطية وبين الأحزاب اليمينية الدينية والقومية، غير أن حقيقة هذا الصراع قائمة على سيادة العرق اليهودي الغربي بغلاف ديمقراطي، وهذا الصراع بين المتدينين من الأصول الشرقية الداعمين لليكود وبين اليساريين من الأصول الغربية هو صراع قديم تعود جذوره إلى نشأة إسرائيل كدولة. فالذين أسسوا الدولة هم اليهود العلمانيون اليساريون، والذين يمثلون الدولة العميقة التي تحكم الكيان الغاصب ويحتلون مركز القوة والثقل في قراراتها. إلا أنه ومنذ ثلاثة عقود بدأ ميزان القوة يميل لصالح اليهود المتدينين الذين كانوا في بداية قيام الكيان الصهيوني مجرد أرقام وحشو بنادق في كيان الدولة. لكنهم أصبحوا اليوم أحزابًا مؤثرة ويشغلون مواقع متقدمة في الجيش والشرطة والقضاء.
ولا يخفى أن أميركا قد وقفت بقوة وراء هذه الاحتجاجات من خلال التمويل، ومن خلال تصريحاتها المؤيدة للاحتجاجات بالإضافة إلى الضغوطات على حكومة نتنياهو لثنيها عن التعديلات الدستورية وعن سياساتها التصعيدية. ويؤكد ذلك قيام يائير نتنياهو نجل رئيس الوزراء بإعادة نشر مقال لموقع بريتبرت (Breitbart) المحسوب على اليمين المتطرف الأميركي، والذي اتهم صراحة قيام أميركا بدعم الانقلاب على أبيه رئيس الوزراء، حيث اتهم الموقع وزارة الخارجية الأميركية “بتمويل إحدى المجموعات التي تشارك في الاحتجاجات”، وهي “حركة من أجل حكومة جيدة Movement for Quality Government”. وهذا بالإضافة إلى ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” (The Times of Israel) يوم ١٢ آذار/مارس ٢٠٢٣ عن مصدر مقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “الولايات المتحدة الأميركية موَّلت جزئيًّا الاحتجاجات” على التعديلات القضائية التي تعتزم الحكومة تنفيذها. مضيفًا أن “هذه الاحتجاجات منظمة وممولة بملايين الدولارات”، وقد علقت وزارة الخارجية الأميركية على ذلك بقولها إن التمويل هو من أجل برامج التدريب على الديمقراطية في المدارس الإسرائيلية وأنه تم إقراره من قبل إدارة ترمب.
كما سبق أن صرح مسؤول أميركي في فبراير/شباط الفائت، لـ”تايمز أوف إسرائيل”، أنه قد تم تجميد خطط بايدن لاستضافة نتنياهو وسط الإحباط من سياسات الحكومة الجديدة تجاه الفلسطينيين، بالإضافة إلى مخاوف بشأن الإصلاح القضائي.
وقد ظهرت حدة النزاع والتجاذب بين التيارات الصهيونية المتصارعة على لسان وزير الدفاع الذي قال: “.. لقد تصاعدت مشاعر الغضب والألم وخيبة الأمل غير المسبوقة من كل مكان”. وحذر من تفكك الدولة بقوله: “أرى أن مصدر قوتنا يتآكل. الصدع المتزايد في مجتمعنا يخترق جيش الدفاع والأجهزة الأمنية. وهذا يشكل تهديدًا واضحًا وفوريًّا وملموسًا على أمن الدولة. لن أمد يدي لهذا”. ودعا إلى إجراء “عملية وطنية موحدة بمشاركة واسعة، وهي عملية ستقوي دولة إسرائيل وتحافظ على قوة جيش الدفاع”. ولا شك أن دعوته إلى مشاركة واسعة إنما ينسجم مع التوجه الأميركي بتقويض التيار الديني المتطرف ولجم نتنياهو عن المضي قُدمًا بالتصعيد وإعاقة الحل الإقليمي المُعدّل. ومع أن وزير الدفاع هو من المحسوبين على حزب الليكود، إلا أن نتنياهو قام بعزله مباشرة في محاولة منه لإظهار قوته وتماسك معسكره أمام الداخل والخارج، غير أن ثمة اتفاقًا للإبقاء على الوزير في منصبه من أجل الحفاظ على توازن الحكومة أيضًا.
ومع زيادة التصعيد ومباشرة بعد الإعلان عن تنحية وزير الدفاع عبرت الولايات المتحدة يوم ٢٧ آذار/مارس عن “قلقها الشديد” حيال الوضع في إسرائيل، داعية إلى إيجاد “تسوية”، وقالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أدريان واتسون في بيان: “نشعر بقلق عميق إزاء أحداث اليوم في إسرائيل والتي تؤكد مجددًا الحاجة الملحة للتوصل إلى تسوية… القيم الديمقراطية كانت دائمًا، ويجب أن تظل، سمة للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل”. وأضافت إن: “المجتمعات الديمقراطية تتعزز من خلال ضوابط وتوازنات”، مشددة على أن “التغييرات الأساسية لنظام ديمقراطي يجب أن تتم على أساس أوسع قاعدة ممكنة من الدعم الشعبي”.
وفي محاولة لنتنياهو لامتصاص غضب المحتجين والانحناء التكتيكي للضغوط الأميركية أعلن مساء الإثنين 27 آذار/مارس “تعليق” العملية الجارية أمام الكنيست حيال التعديلات القضائية، لكن ذلك كان ضمن صفقة عقدها مع وزير الأمن القومي، زعيم حزب القوة اليهودية، إيتمار بن غفير الذي وافق على دعم قرار نتنياهو بوقف تشريع الإصلاح القضائي، بعد أن أعطي وعدًا بتحويل إدارة الحرس الوطني الى الامن الوطني الذي يترأسه، وهو الأمر الذي أفزع قوى المعارضة التي اعتبرت أن مثل هذا القرار سيُمكّن بن غفير من تكوين قوة ميليشيات يمينية. حيث غرد عضو الكنيست عن حزب العمل، جلعاد كاريف: “يجب أن يكون الحرس الوطني تحت سيطرة الشرطة، وليس تحت سيطرة [الجماعة اليمينية المتطرفة] لهافا وبقية الكاهانيين”؛ في إشارة إلى أتباع الحاخام مئير كهانا. وازداد هلع المعارضة بعد أن توعد بن غفير بدعم مشاركة الأحزاب اليمينية في مظاهرات مضادة وتصعيده بقوله “لا يمكن إيقاف إصلاحات النظام القضائي ولا يجب الاستسلام للفوضى”.
وفي آخر تعليق له على الوضع المتوتر في إسرائيل أوضح بايدن في ٢٩ آذار/مارس أنه ” لا يمكنهم الاستمرار في هذا الطريق”، وعلى إثره صدر تصريح من مكتب نتنياهو أشار فيه إلى عزمه على تحقيق “إعادة التوازن المناسب بين السلطات الثلاث للحكومة، عبر توافق واسع في الآراء”.
ويتبين من ذلك كله، ومما سبقه من تحريك لملف إيران النووي في إطار المعالجة الدبلوماسية، وإصرار أميركا على خفض التصعيد العسكري الإسرائيلي تجاه إيران وسكان الضفة الغربية، وتجميد المسار الإبراهيمي مع السعودية مؤقتًا، وإبرام اتفاقية المصالحة السعودية الإيرانية، أن الولايات المتحدة قد عرقلت مساعي نتنياهو في مشروع ما أطلق عليه “صفقة القرن” بصيغته الترامبية، وفوتت عليه فرصة ترحيل أزمته الداخلية إلى الخارج، بل وعمقتها في قلب الحكومة والشارع الإسرائيلي، وفي صلب المشكلة التي تعيق تقدم الأجندة الأميركية حيال “قضية فلسطين”، وهي مشكلة جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى التطرف الديني الذي لا يمكن معه التوصل إلى تصفية قضية فلسطين بصورة تُمكّن الأنظمة العربية من تمريرها. وهو ما تنبه إليه رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك مبكرًا حينما دعا إلى إعادة صياغة وعي المجتمع الإسرائيلي على أساس تقبل “عملية السلام”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن النزاع الدائر بين القوى السياسية الإسرائيلية إنما هو نزاع على السلطة بين متطرفين، وما تذرُّع اليسار الصهيوني بالدفاع عن الديمقراطية وأن إسرائيل كانت ديمقراطية قبل نتنياهو إلا محاولة لتجميل صورة الكيان في عيون الغرب، واستجلاب الدعم لهم ولدولتهم، وفي الحقيقة لم تكن إسرائيل في يوم من الأيام أكثر من قاعدة استعمارية غربية عنصرية بلون ديمقراطي، إذ إنها دولة وظيفية متوحشة قائمة على القتل والتشريد والاحتلال، وعلى تخويف أهل المنطقة ومنعهم من النهوض، وعلى تأمين مصالح الغرب في المنطقة ، ولذلك فإن مشروع “السلام” الذي تسوقه الأنظمة العربية إنما هو تثبيت عملي لهذا الكيان الدخيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى