كل الثقافة

رواية الجدار الحي.. النموذج الحي للكراهية و العنصرية

شارك

رواية الجدار الحي .. النموذج الحي للكراهية والعنصرية

أ. ناهـض زقـوت

إن اللغة العبرية ليست لغة عالمية، بل لغة محلية يتحدث بها أفراد لا يتجاوزون الـ خمسة مليون فرد، أما الغالبية من اليهود فهم يتحدثون لغة البلدان التي يقيمون فيها، ولكن تكمن أهمية هذه اللغة في أنها لغة العدو للفلسطينيين، ولغة التعامل اليومي بينهم، ولغة الاعلام والصحافة، فأصبح العديد من الفلسطينيين حريصين على تعلمها على قاعدة “من عرف لغة عدوه أمن شره”.
بدأت بعض المؤسسات العربية في ترجمة الأدب العبري إلى اللغة العربية وتدريسه في الجامعات التي افتتحت أقساماً للغة العبرية مثلاً جامعة عين شمس بالقاهرة، ومركز مدار للدراسات الاسرائيلية في رام الله، الذي ترجم العديد من الكتابات العبرية إلى العربية، وثمة العديد من الروايات والأشعار العبرية مترجمة للغة العربية، فقد ترجم توفيق فياض رواية (خربة خزعة) ليزهار سميلانسكي، عن دار الكلمة في بيروت. أنطون شلحت ترجم رواية (الطريق إلى عين حارود) لعاموس كينان. وترجم حسن خضر رواية (ابتسامة الجدي) لديفيد غروسمان، عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين سنة 1996، وغيرها العديد من الروايات. وفي المقابل كان ثمة مؤسسات اسرائيلية أكاديمية تترجم الآداب العربية للغة العربية بهدف الدراسة والاطلاع على العقلية العربية، ودخلت في مجال الترجمة مؤسسات شبه مرتبطة بالمؤسسة السياسية الاسرائيلية مثل دار مكتوب العبرية التابعة لمؤسسة فان لير الصهيونية، تترجم آداب عربية تتوافق مع الرؤية الاسرائيلية بمعنى أنها لا تدعو إلى تدمير اسرائيل أو العنف ضدها، أو أنها تدعو للسلام والمحبة بين الشعوب، أو لا تتناول الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بشكل مباشر الذي تبرز من خلاله أحقية الفلسطيني في أرضه، وأن الاسرائيلي مغتصب لهذه الأرض، فهم يختارون القصص والروايات وفق هواهم التي تحكي عن قضايا اجتماعية أو رومانسية بهدف تشكيل رؤية لدى القارئ الاسرائيلي أن هذه الآداب هي التي تمثل العقلية العربية أو الفلسطينية.
لا يبدو أن الكتاب الفلسطينيين أو الكتاب العرب حريصين على ترجمة أعمالهم إلى اللغة العبرية، بقدر حرصهم مثلاً على ترجمة كتاباتهم إلى اللغات الانجليزية أو الفرنسية أو الالمانية أو غيرهما من اللغات الاوروبية. فهم ما زالوا يرفضوا الانخراط في التعاون الثقافي لإدراكهم مدى أهمية الثقافة في القدرة على تغيير العقليات والهويات، وهذا ما أشار إليه العديد من الكتاب ابرزهم ادوارد سعيد في دور المستشرقين، وفي دور الكتابات الأدبية في نظرة الرأي العالم الغربي إلى المجتمع الشرقي، وخاصة في كتابه (الثقافة والامبريالية).
إن اللغة العبرية هي لغة المستعمر المغتصب للأراضي العربية الفلسطينية، وقد عبر عن هذه الرؤية الكاتب اليهودي “عوز شيلاح” الذي غادر اسرائيل في عام 1998 معلناً عن رفضه للسياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وحينما كتب (أراض للتنزه) نشرها باللغة الانجليزية عام 2003، ورفض نشرها باللغة العبرية لأنه يعتبرها لغة استعمارية أيديولوجية، وتعبر عن مشروع استعماري، وهو المشروع الصهيوني في فلسطين والذي كرس الكاتب مؤلفه بكل سطر منه لنقض وفضح ممارسات اسرائيل الاستعمارية للتاريخ والمكان وتعرية السردية الصهيونية عن المكان الفلسطيني.
إن العنصرية والكراهية تملأ المجتمع الاسرائيلي وتعبر عنها السياسات الإسرائيلية القائمة في ممارساتها اليومية تجاه الشعب الفلسطيني، وخير مثال ما تنتجه الانتخابات من فوز لليمين الاسرائيلي المتشدد تجاه القضية الفلسطينية.
وتمثل رواية (الجدار الحي) للكاتبة اليهودية دوريت رابينيان، الصادرة عن دار عوفيد/ تل ابيب سنة 2014، وقد ترجمها الدكتور محمد زيدان المقيم في استراليا، ونشرتها دار الجندي للنشر بالقدس عام 2022، نموذجاً صارخاً لهذه الكراهية والعنصرية المستفحلة في المجتمع الاسرائيلي وتغذيها المؤسسة العسكرية – السياسية الاسرائيلية المتحكمة في التربية والتعليم والثقافة، لإدراكها أهمية هذه المجالات وتأثيرها في العقلية الاسرائيلية.
حينما اطلعت على هذه الرواية التي ترجمت إلى نحو عشرين لغة، من خلال دراسات ومقالات، عادت بي الذاكرة التاريخية إلى سنة 538 قبل الميلاد، حينما استولى الفرس على فلسطين وأعادوا معهم اليهود من السبي البابلي، وقد اتخذ الفرس من مملكة أشدود عاصمة لهم، وأقام اليهود الراجعين من السبي معهم، وبدأ اختلاطهم مع السكان والتزاوج منهم، فما كان من زعيمهم “نحميا” إلا أن صرخ فيهم قائلاً كما جاء في سفره: “في تلك الأيام أيضاً، رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموابيات، ونصف كلام بنيهم باللسان الأشدودي، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي، فخاصمتهم ولعنتهم وضربت منهم أناساً ونتفت شعورهم، واستحلفتهم بالله قائلاً: لا تعطوا بناتكم لبنيهم، ولا تأخذوا من بناتهم لبنيكم ولا لأنفسكم .. فهل نسكت لكم أن تعملوا كل هذا الشر العظيم بالخيانة ضد إلهنا بمساكنة نساء أجنبيات”.
إن العنصرية والكراهية ذات جذور دينية تستمد انبعاثهما الفكري من التوراة، فليس غريباً على هذا المجتمع الذي يخضع للرؤى الدينية التوراتية في تشكيل سياسة الدولة، أن يقف بالمرصاد لرواية اسرائيلية تدعو إلى التعايش بين المجتمعين العربي والاسرائيلي، ويمنع تدريسها في المدارس الثانوية الاسرائيلية، تحت ادعاء أن تتعارض مع الهوية والموروث الثقافي، وأشار بيان وزارة التعليم الاسرائيلية إلى أن مثل هذه الكتب التي تدعو إلى الارتباط بين اليهود بغير اليهود تهدد الهوية الخاصة والمستقلة، كما يمكن لهذا النوع من الكتب أن يخرج طلاباً في سن النضوج يفتقدون للرؤيا والقيم الضرورية لاعتبارات هوية الشعب وتأثيرات الاختلاط، وتشجع الفتيات اليهوديات على إقامة علاقات عاطفية مع الشباب العرب.
وهذا يؤكد أن العقلية الاسرائيلية لا تؤمن بالتعايش بين الشعوب، بل تؤمن بالهيمنة والسيطرة وفرض منطق القوة في التعامل مع الآخرين وخاصة الشعب الفلسطيني، وخير مثال أنها ما زالت تتعامل مع الفلسطينيين الصامدين على أراضي ال 48 بكل دونية واعتبارهم شعب من الدرجة العاشرة، لا يرتقي إلى مكانة اليهودي.
وقد شن مثقفون وكتاب وصحافيون إسرائيليون حملة انتقدوا فيها بيان وزارة التعليم التي خضعت لموقف اليمين المتطرف إزاء أي تقارب يهودي – فلسطيني، والذي يقوده نتنياهو آنذاك، ونفتالي بينت وزير التعليم، وساندوا الكاتبة في عملها الروائي، الذي وصفه الروائي الشهير أ. ب. يهوشواع بـ “العمل الرائع والعميق”، وقال الروائي سامي ميخائيل: “هذا يوم أسود في تاريخ الأدب العبري”. وكتب الروائي عاموس عوز مقالاً ساخراً في صحيفة “يديعوت احرونوت” قال فيه إن الأشد إلحاحاً هو سحب كتاب التوراة من البرنامج الثانوي، فهذا الكتاب فيه من العلاقات الجنسية بين اليهود والوثنيين، ما هو أخطر من كتاب دوريت رابينيان. في حين قالت الكاتبة نفسها حول منع روايتها: “ما زلت أشعر بمدى أهمية الأمر، وأظن أن ما حدث جعلني أدرك تماماً أسباب منع روايتي، وجعلني أرى بوضوح شديد ما آلت إليه الأمور في إسرائيل، والوضع الراهن بها”. لقد أدركت المؤلفة الحال الذي وصل إليه المجتمع في إسرائيل، إلى الدرجة التي أصبح فيها الفن والأدب من الأشياء التي تشكل خطراً داهماً على المجتمع.
تطرح رواية (الجدار الحي) قصة حب بين شاب فلسطيني (حلمي) وبين شابة اسرائيلية (ليئات) في نيويورك، وهي قصة حقيقية وقعت فيها الكاتبة نفسها في حب الشاب الفلسطيني (حسن حوراني) وهو فنان تشكيلي لقى مصرعه غريقاً في بحر يافا سنة 2013.
عندما التقيا أعجب بها وأعجبت به، ودار بينهما حوار تعارف علمت من خلاله أنه فنان تشكيلي، ولبت دعوته لمرافقته إلى بيته لرؤية لوحاته، وكانت رحلة سير طويلة وشيقة في شوارع نيويورك يتبادلان الأحاديث والقصص، كل يحكي قصته للأخر، حتى وصلا إلى منطقة “بروكلين” حيث مرسم وسكن حلمي، وبعد قضاء سهرة ممتعة معاً، فتح كل منهما قلبه للآخر وقص حكايته وأحلامه.
تؤمن ليئات الطالبة الجامعية ذات الأصل الإيراني والميول اليسارية بحق الشعب الفلسطيني في الحرية، وترفض كل الممارسات العدائية التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وطالما تصادمت مع أفراد أسرتها ومعارفها وبعض زملائها في الجامعة بسبب إدانتها لممارسات الجنود في الأراضي المحتلة وتأييدها لإنهاء الاحتلال وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل. وحلمي الفلسطيني المهجر مع أسرته قسرياً عام 1948 من قريته المسمية، وأقاموا في مخيم لاجئين في أريحا ثم الخليل، ثم استقروا في رام الله. يروي قصة اعتقاله وهو في الخامسة عشرة من عمره لمدة أربعة أشهر بسبب رسمه العلم الفلسطيني على حائط في مدينة الخليل، وبعد فترة سجنه أرسلته عائلته إلى العراق ليدرس في جامعة بغداد، وبعدها سافر إلى الولايات المتحدة حيث التقى بها.
يؤمن حلمي كمعظم المثقفين الفلسطينيين أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يكون فقط بقيام دولة واحدة تضم الشعبين معاً، بعد أن غير جيش الاحتلال والمستوطنون جغرافية الأراضي الفلسطينية ومنعوا كل إمكانية لتقسيم البلاد إلى دولتين.
لم يشعر حلمي بأي حرج في قصة حبه مع ليئات، فقد عرفها على أشقائه وأصدقائه، وسهر برفقتها معهم، وتبادلوا الأحاديث والأفكار، بينما ليئات كانت تتحاشى إخبار أفراد أسرتها بقصة حبها لحلمي، وترتعب إذا ما شكت بإمكانية معرفتهم، وتتحاشى ظهورها معه، وتخفي قصة حبها أمام أي يهودي إسرائيلي تصادفه، حيث إن اليهودي الإسرائيلي لا يثق بالآخر، ويقف منه موقف الحذر والترقب، وليس على استعداد لائتمانه والركون إليه وقبول التعايش معه في حياة مشتركة آمنة.
برغم الاختلاف في وجهات النظر والمواقف يتعايش حلمي وليئات في قصة حب متوهجة حافلة بعشرات التفاصيل التي تشى بأن كلاهما لا يستطيع الحياة بدون الآخر. إلا أن الحواجز التي وقفت في طريقهما من حيث أن ليئات تنتمي إلى الطرف الأقوى المحتل للفلسطينيين، وغير مستعد للتنازل عن مواقفه ويؤمن بأفكارها في التعايش، وعن حقها الذي تراه، وبالمقابل يبدو حلمي الطرف الأضعف، الخاضع للاحتلال، يحلم بأنه سينجح، يوماً ما في المستقبل بالعيش في وطن واحد كبير. وليئات رغم اندفاعها في حبها لحلمي إلا أنها كانت تعترف دائماً أن لهذا الحب نهاية، وأنه حب غير مرضي عنه من قبل أهلها وشعبها ومجتمعها. وتدرك في لا وعيها استحالة نهايته السعيدة، لأنها على قناعة أن حلمها لا يلتقي مع حلم حلمي، فهو يحلم بوطن واحد يجمعهما، وببحر واحد يسبحان فيه، وبحياة جميلة تضمهما، في حين أن الواقع يتنافى مع أحلامهما.
لقد تحددت الحواجز التي تفصل بين ليئات وحلمي، وحالت دون امتزاجهما وتوحدهما منذ بداية تعارفهما، وزادت وضوحاً مع استمرارية العلاقة وتطور الأحداث والمواقف. وتؤكد في نهاية روايتها أن مشاعر الحب والإنسانية قد تكون وتتشابك بين أفراد الشعبين الفلسطيني واليهودي، ولكن لا إمكانية للتفاهم والتصالح والتعايش، ولا حل ممكن لقضية النزاع بين الشعبين.
في إسرائيل دولة الاحتلال ممنوع الحب “المزدوج الجنسية” ولا يمكنه إلا أن يكون حباً عابراً وخارج حدود الاحتلال. وعلى رغم الحب العاصف أقامت الحبيبة الإسرائيلية جداراً في نفسها لتحمي نفسها من هذا الحب. تقول الكاتبة: “خطرت لي فكرة غريبة، هذه الصورة الجميلة والحية عنا كلينا، ستبقى محفورة في هذه المرآة المضطربة والمهتزة، حتى بعد انفصالنا، عندما يسلك كل منا طريقه، ستبقى صورة لشخصين ليسا سوى طيفين”. وعندما عادا، غرق حلمي في بحر يافا. أما ليئات التي وقعت في الاكتئاب فهي ما لبثت أن نهضت لتكتب عن انتصار اللاحب في زمن الكراهية الإسرائيلية.
إن الكراهية والعنصرية سمتان تتجليان في المجتمع الاسرائيلي، مهما حاول المثقفون والمناصرون للحقوق الفلسطينية اختراق هذا المجتمع المحصن بأفكار اليمين المتطرف والمتشدد ضد حقوق الفلسطينيين، تذهب محاولاتهم أدراج الرياح، وذلك لضعف قوة تأثيرهم في المجتمع، وقدرة اليمين المتطرف على محاربتهم وتشويه أفكارهم. كما حدث مع رواية الجدار الحي، ومنع ترجمة وتدريس أشعار محمود درويش في المدارس الاسرائيلية.
إن اختراق المجتمع الاسرائيلي يحتاج إلى معجزة، والفلسطيني بكل كتاباته وثقافته لا يمتلك هذه المعجزة، لأن زمن المعجزات قد ولى، وعلينا كفلسطينيين مواجهة حقيقة هذا المجتمع الذي أيد في الانتخابات الأخيرة سياسة اليمين بقيادة نتنياهو، مما يعني أنه يتجه إلى الفاشية ومزيداً من التطرف تجاه الفلسطينيين، لذلك علينا كمثقفين وكتاب تحصين الجبهة الداخلية ضد الاختراق المضاد، بوضع استراتيجيات تعزز فكرنا الثقافي وروايتنا الفلسطينية أمام أنفسنا أولاً، ثم أمام المجتمع والرأي العام الغربي الذي يمتلك القدرة في التأثير على هذا المجتمع الاسرائيلي.

كاتب و باحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى