كل الثقافة

 تباريح ليلية  

لهيب عبدالخالق

شارك

تباريح ليلية

 

لهيب عبدالخالق

 

ألقتْ رياحُ الليلِ في وجهي

بتائلَ من سنا أمسي،

وكانَ صفيرُ تلكَ الريحِ

يقطرُ في شفاهٍ عاشقاتٍ

ريقَ فجرٍ لم يزلْ ينسابُ بينَ نخيلِها،

ويهدهدُ الأمواجَ،

يطوي مثل كلِّ العاشقينَ حنينهُ،

ويلملمُ الندمانَ من وترِ المغني،

والنواسيُّ ارتمى في جبِّ عاشقةٍ،

وكانتْ شهرزادُ تطوفُ في كلّ الكؤوسِ،

صبيةٌ سمراءَ من طينٍ وماءٍ،

ترتمي في ظلّها،

حينَ الظلالُ غدتْ دروعاً

والنخيلُ غدت سيوفاً،

والقلوبُ تراجفتْ لمّا تهاوى صرحُها،

يا أيّها المجبولُ من أفيائِها

سلّمْ على النهرينِ،

قلْ إنَّ التي كانتْ تُغني

أسكَرَتها خمرةٌ،

نامتْ كما نامَ الجميعُ

على ترابِ الأولينَ،

وحينَ أدركَها الصباحُ،

فأحجمتْ عما يباحُ

ولا يباحْ…..

*********

ألقتْ رياحُ الوَجدِ في وجهي بتائِـلَها،

وأَرختْ سترَ ليلي،

أوقدَتْ نيرانُها كلّ الهواجسِ،

سَطّرَتْ في صفحتي البيضاءَ أغنيةً

تُرنّمُها النساءُ على حوافِ النهرِ حين يَرِدْنَ،

يُلقينَ النذورَ،

وكانَ في فجِّ المدينةِ عاشقٌ

ينسابُ مثل الهمسِ بين نوازعِ الأشجارِ،

يوقدُ من حنينِ الروحِ شمعاتٍ معبأةٍ بآسٍ،

كم بقيتُ أُراقبُ العشاقَ من شقِّ المساءِ

وأشعلُ الأحلامَ بين فوارسٍ،

ونوارسٍ ستمرُّ بي،

وزوارقٍ بيضٍ،

وكانتْ في حكاياتي حروفٌ

ترتَمي في حضنِ صبح قد يجيءُ،

بقيتُ دهرا أرسمُ الأشجار حيثُ أحطّ ُ،

أطلقُ كلّ ما جمّعتهُ من أحرفي

لنوارسٍ غامتْ،

تُرى هلْ ما تزال نساءُ تلك الأرضِ

يلقينَ النذور على حوافِ النهرِ

والقهرِ المخبأ بين أوراقِ السنابلِ

والشموعِ،

هنا ترجّلتِ القصيدةُ عندما جاءَ الصباحُ

فأحجمتْ

عما يباحُ

ولا يباحْ….

 

*********

في غمدِ نايٍ كنتُ أحملهُ

كوشمٍ في جدارِ القلبِ،

طافتْ آهةٌ أغفلتُها،

ومشَيتُ أرصدُ كل خاطرةٍ تعِنُّ على شفارِ الأطلسيّ،

تقافَزَتْ مني ترانيمي

كظبيٍ طافرٍ من ثلجِ هذا الليلِ،

“نوحي…” مثلما ناحَ اليمامُ،

توسّمي عبَقَ السواسنِ

والسنابلِ

والجداولِ،

واهربي من وهمِ ذاك الوقتِ،

فالدارُ التي تبكينَ

ما عادتْ كما كانتْ،

تمرُّ ببابنا ليندا،

تودّعنا لتلحقَ آخرَ الطيرِ التي

تطوي الطريقَ إلى الجنوبِ،

وجارتي ليندا عجوزٌ أكملت سبعينَ عاماً،

كان يُطرِبُها شجَى الناي الحزينِ،

حكايةٌ من بينِ آلاف الحكايات التي عبأتُها

في صرّةِ الترحالِ،

من وسنٍ يراودُ شهرزادَ إذا ترجّلتِ الحروفُ

وحينَ يدركها الصباحُ

فتنطوي فوق الكلامِ،

ولم أكن أدري بأن النايَ حين يصولُ في روحي

ويطلقُ بَوحَهُ

لا ينكفي…..

 

*********

وعشقتُ ذاك الوهمِ،

جمّعتُ الغيومَ،

رَصَفتُها فوقَ الجريدِ

بَسَطتُها للريحِ،

أسلمتُ القيادَ لها

وقلتُ: إلى مشارقِها خذيني،

دافقاتٍ كانتِ اللحظاتُ،

لم أُشرِقْ كما أشرقتُ حينَ ركبتُ سرجَ الريحِ

ألقتني على جسرِ الإمامينِ،

انبريتُ أطوفُ بين مآذنٍ ترقي البيوتَ،

وأخرياتٍ تنشجُ الأقدارَ،

كانَ الوقتُ يجدلُ من خيوط ِالشمسِ أحصرةً

ويبسِطُها سنىً فوق الجداولِ والبيوتِ،

وكان بين سنابكِ النسرينِ

ذاكَ العاشقُ المجبولُ من نسغِ السواقي،

يجمعُ الأقداحَ من قَطْرِ الندى

لصبيةٍ تَرَكَتْ ملامحَها على وجهِ النوافذِ،

قلتُ للريحِ امهليني

واتركيني في ثَنايا الدار،

حيثُ تركتُ صندوقاً من الأشياءِ تحتَ شجيرةِ السدرِ العتيقةِ،

دقّتِ الساعاتُ تُنذرُ بالرحيلِ،

كرِهتُ ذاكَ الصبحَ،

لم أكره صباحاً قبلَ ذلكَ،

بَعثَرَ الغيماتِ،

نثَّ صهيلَها حتى تلاشى،

ذاب في صمت النخيلِ،

فأحجمتْ

عما يباحُ

ولا يباحْ….

 

*********

أورَقتُ كانونَ المساءِ،

وكان وجهكَ سيّدَ الليلِ الذي يسري بأوردةِ النشيدِ،

وشقّةُ النعناعِ ترقصُ مثل غانيةٍ على دخّانِ شايي،

أسكرتني “ريحةُ” النعناعِ،

ألفيتُ الحقولَ تموجُ في وهجِ النهارِ

وتطردُ الدخّانَ والليلَ المعبأ بالهواجسِ،

كنتَ في آفاق ذاك َالحقلِ مثلَ سنابلٍ

 

تتلو على نهدِ المراعي أغنياتِ الحاصدينَ

وتنثرُ الأشواقَ،

تنسِجُ من بروقِ الوقتِ للقمرِ البهيِّ سرابَهُ،

والشايُ أسودُ رائقاً مثل السماءِ

ولجّةُ النعناعِ تغمرُهُ،

وكانَ الناي يشدو من بعيدٍ

يورثُ الأجيالَ صبراً،

علَّ ذاك الصبرُ يورقُ موقدَ الخبزِ الذي

انسَكَبتْ ثوانيهِ انسكاباً،

رانَ فوق قلوبهم

سِفرُ الذين تواتروا

جيلاً فجيلاً

يَنذرُونَ سنينهم للريحِ

لا تبقي لهم شيئا،

وفي جبّ الحنايا

كان وجهكَ مثلَ أرمدةِ الكوانينِ

التي تخبو،

ويخبو مثلها كلّ الكلامِ،

وينثني للريح مثل سنابلٍ يبست،

ونامَ الدهرِ

حينَ تمزقتْ أصواتُهم

بين الرعودِ،

وتاهتِ الكلماتُ

في شجو الجراحْ….

*********

ألقتْ رياحُ الأطلسيُّ على بروجِ الليلة الأخرى هواجسَها،

رسَمتُ على ثيابِ الموجِ صاريةً

ومجدافاً

وأشرعةً،

نَطَرتُ على رصيفٍ سادرٍ في غربتي

يوماً يشُدُّ رحالهُ ويلمُّ أشواقي،

نراقصُ وجدَنا،

ونلفُّ أذرعَنا،

ونوقظُ لحظةً خبأتُها منذ افترقنا،

كنت أرنو أن أطوفَ كنورسٍ فوقَ المياهِ

أدورُ أياماٍ واياماً،

ويوقظُني صفيرُ سفائنِ سكوتشيا*،

هنا لا صوتَ يقطع صمتَ هذا الليلِ

غيرَ صفيرِ باخرةٍ تهمُّ بدربِها

وسطَ الضبابِ،

أو الجليدِ،

تدورُ في فلكي خيالاتٌ ترصُّ على رفوفِ لواعجي

قصصاً،

وتضمرُ لحظةً حرّى كظمتُ عبيرَها،

لم تستفقْ تلكَ الحكايةُ

وانتهتْ قبل البدايةِ،

كانتِ الأرضُ التي نمشي عليها

تنهبُ العمرَ المعبأَ بالسرابِ

وتنكفي،

كنّا خيالاتٍ تّراقصُ في كؤوسِ العاشقين،

تركتُ حين أفاقني صوت السفائن

دفّة الأشواقِ،

كلَّ هواجسي،

حين انطوَتْ كالظلِّ

في وهمِ الصباحْ…..

*********

وتكسرت فوق السواحل كلّ أشرعتي

وكانت شهرزادُ تلملمُ اللحظاتِ،

تطفئُ شوقها بندى صباحٍ لم يزل في الظنِّ،

كان الموجُ يعلو

والنوارسُ تعلِكُ الاشلاءَ،

في بحرِ الظلامِ

نوارسُ الشطآن تلتهم الصبايا

والخطايا،

والسفائنُ محضُ أخيلةٍ تطوّفُ في المدى،

تذوي كما تذوي الظلالُ،

ومثلما تلقي النخيلُ شغافَها

وسرابَها،

ألقتْ على صدر الرياح أنينها

تلك الصبيةُ،

وانطوت في شجوِ نايٍ

يرتمي بين الصباحِ،

ولوعة الوطن المعبأ بالجراحِ…..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى