أحمد الشرع.. حين يتقاطع توصيف السياسة مع شهادة التاريخ

أحمد الشرع .. حين يتقاطع توصيف السياسة مع شهادة التاريخ
أ. علي بكر الحسيني
منذ أن نصّبت الولايات المتحدة نفسها شرطياً للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن أحكامها على القادة والحركات سوى إنعكاس لمصالحها ، فالـ”إرهاب” في القاموس الأميركي ليس توصيفاً قانونياً أو معياراً أخلاقياً، بل سلاح سياسي يُوجَّه ضد كل من يقف في وجه مشاريعها. بهذا المعنى، ليست القوائم السوداء إلا أوراقاً متبدّلة، تُخطّ بالحبر الأميركي وتُمحى أو تُبدَّل كلما تغيّرت الظروف والمصالح.
رموز عالمية وُصفت بالإرهاب :
لنأخذ ياسر عرفات مثالاً ، فقد وُصف في السبعينيات بـ”الإرهابي الأخطر”، لكنه قاد منظمة التحرير الفلسطينية حتى اعتُرف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. عرفات الذي بدأ مقاتلاً تحت راية الكفاح المسلّح انتهى زعيماً سياسياً صافحه قادة العالم، لكن واشنطن لم تتردد في شيطنته حتى اللحظة التي اقتضت مصالحها الإعتراف به.
تشي غيفارا ، الطبيب الأرجنتيني الذي ترك حياة الراحة ليقود الثورة الكوبية ثم يقاتل في الكونغو وبوليفيا، صُنّف في الوثائق الأميركية مغامراً دموياً. لكن صورته اليوم تتصدّر الجدران والرايات في كل مكان باعتباره رمزاً للثورة الأممية والعدالة الإجتماعية.
فيديل كاسترو، الذي حكم كوبا لعقود متحدّياً أكثر من 600 محاولة إغتيال وحصار إقتصادي خانق، لم تكن جريمته في نظر واشنطن إلا بناء دولة مستقلة على بعد أميال من شواطئها. ورغم ذلك صار رمزاً لصمود الشعوب الصغيرة في وجه الإمبراطوريات.
نيلسون مانديلا، الذي قضى 27 عاماً في السجن لأنه رفض نظام الفصل العنصري، واصل الأميركيون وضع اسمه على قوائم الإرهاب حتى عام 2008، أي بعد أن صار رئيساً لجنوب إفريقيا وحاز جائزة نوبل للسلام.
أما هوشي منه، قائد فيتنام، فقد أصرّ على تحرير بلاده من الإستعمار الفرنسي ثم الأميركي، فاعتُبر خطراً على “الأمن الدولي”. ومع ذلك أصبح في نظر العالم محرّر فيتنام وموحّدها.
و باتريس لومومبا، رئيس وزراء الكونغو، لم يعش أكثر من أشهر معدودة في الحكم قبل إغتياله بتواطؤ دولي، لأنه أصرّ على إستقلال بلاده الإقتصادي والسياسي.
أوغستينو نيتو، زعيم أنغولا، واجه الإستعمار البرتغالي حتى الإستقلال، وصُنّف إرهابياً، لكنه أصبح فيما بعد أباً مؤسساً لدولة حديثة.
أما روبرت موغابي، قائد زيمبابوي الذي واجه الإستعمار البريطاني والعنصرية البيضاء، حُشر في خانة الإرهاب ثم أصبح رمزاً للإستقلال، رغم الجدل حول تجربته في الحكم لاحقاً.
جوزيف بروز تيتو في يوغوسلافيا، الذي أسّس حركة عدم الإنحياز، وُصف بالمتمرد، لأنه رفض الإصطفاف مع المعسكر الأميركي. أما سلفادور أليندي، الرئيس الإشتراكي المنتخب ديمقراطياً في تشيلي، فقد وُسم بالتمرّد حتى أطاحوا به بانقلاب دموي عام 1973.
و دانيال أورتيغا، زعيم جبهة الساندينيستا في نيكاراغوا، تعرّض للشيطنة لأنه رفض أن تكون بلاده ساحة نفوذ أميركي.
أما هوغو تشافيز في فنزويلا، فقد ظل شوكة في خاصرة واشنطن طوال حكمه (1999–2013). فخطبه النارية في الأمم المتحدة ضد الإمبريالية الأميركية جعلته هدفاً لحملات إعلامية تصفه بالديكتاتور والخطر على الإستقرار، بينما رآه أبناء قارته زعيماً مدافعاً عن الكرامة الوطنية.
و هكذا يصبح ضمير الإنسانية في نظر واشنطن إرهابياً حتى يتغيّر ميزان المصالح.
القادة العرب وأميركا :
في العالم العربي، لم يسلم جمال عبد الناصر من هذه الوصمة ، قاد ثورة يوليو 1952 في مصر، وبنى مشروعاً قومياً عربياً يدعو للوحدة والتحرر، فاعتُبر خطراً على المصالح الأميركية والإسرائيلية. ورغم كل حملات التشويه، بقي رمزاً لعصر الإستقلال وكرامة الأمة، وهو القائل في أمريكا : إذا وجدتم أمريكا راضية عني، فاعلموا أني أسير في الطريق الخطأ .
صدام حسين .. الخصم العنيد لواشنطن :
كان صدام حسين من أوضح الأمثلة على المنطق الأميركي المزدوج ، فمنذ أن تولّى الحكم في العراق سعى إلى بناء قوة وطنية مستقلة لينهض ببلاده، رافضاً الخضوع لإملاءات واشنطن أو لمعادلات الهيمنة الغربية. ومع اجتياح الكويت عام 1990 وما تبعه من حرب وحصار أدى إلى تدمير العراق على مدى أكثر من عقد، و جرى تصوير صدام في الإعلام الغربي على أنه “الطاغية الأخطر” و”المهدّد للأمن الدولي”. لكن في الوجدان العربي ظل صدام رمزاً للتحدي، خصوصاً وهو يرفع راية فلسطين في خطاباته ويقف في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الأميركي. و لقد أُعدم فجر عيد الأضحى عام 2006 في مشهد أرادت منه واشنطن أن تعلن نهاية خصمها، لكن الرجل تحوّل بعد رحيله إلى أيقونة مقاومة ورفض، مختصراً بوضوح أن تهمة “الإرهاب” في القاموس الأميركي ليست سوى عقوبة لكل من يرفض الخضوع .
و مازال العراق يعيش تبعات إسقاط النظام الوطني في العراق بسبب سياسات بوش الرعناء و الحاقدة على العرب ، و التي خلصت إلى تسليم العراق على طبقٍ من ذهب إلى إيران .
ويُذكر أيضاً الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، قائد ثورة الجزائر وأول رئيس للبلاد المستقلة عام 1962. وضعته باريس وواشنطن في خانة “الإرهاب”، لكن الشعب الجزائري رفعه إلى مرتبة الأب المؤسس.
فلسطين .. النموذج الأوضح :
فلسطين كانت الساحة الأكثر وضوحاً لتلك الإزدواجية ، فجورج حبش، مؤسس “الجبهة الشعبية”، مثّل ضميراً قومياً صلباً، لكنه وُضع على القوائم السوداء.
وديع حداد، الذي خطط لعمليات جريئة كخطف الطائرات للفت نظر العالم إلى قضية فلسطين، اعتُبر إرهابياً حتى وفاته في ظروف غامضة.
أحمد جبريل، القائد العسكري المعروف، ظل لعقود هدفاً للتشويه الأميركي والإسرائيلي.
فتحي الشقاقي، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، اغتيل في مالطا عام 1995، وكان طوال حياته على قوائم الإرهاب الأميركية.
أما الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حماس، فكان مقعداً مشلولاً لكنه قاد من كرسيه المتواضع أكبر حركات المقاومة في فلسطين. اغتيل فجر آذار 2004 خارج المسجد، فارتقى شهيداً وصار رمزاً خالداً.
و بعد الشيخ أحمد ياسين ، جاء الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الطبيب المقاتل والخطيب المفوّه، الذي حمل راية القيادة حتى إستشهاده بعد أسابيع قليلة بصواريخ الإحتلال. و كلاهما صُنّفا إرهابيين، لكنهما في قلوب شعبهما رمزان للكرامة والصمود.
ثم برز خالد مشعل، الذي نجا من محاولة إغتيال إسرائيلية في عمّان عام 1997 بعملية شهيرة ، ليصبح لاحقاً أحد أبرز قادة حماس في الخارج. واشنطن وضعته على قوائم الإرهاب، لكنه ظل في عيون أنصاره صوتاً للمقاومة وممثلاً لثباتها السياسي.
أما إسماعيل هنية، الذي انتُخب رئيساً للوزراء بعد فوز حماس في انتخابات 2006، فقد حورب سياسياً و اقتصادياً، وصُنّف هو الآخر على قوائم الإرهاب الأميركية، والذي تم اغتياله في طهران في 23تموز/يوليو 2024، ومع ذلك بقي رمزاً للصمود السياسي في غزة ووجهاً لحركة لا تزال تقاتل رغم الحصار.
أحمد الشرع .. العدو المزدوج :
في هذا السياق يبرز اسم الرئيس أحمد الشرع : الذي قاتل الأميركيين في العراق زمن الإحتلال، وواجه النظام السوري البائد بعد إنطلاق الثورة في سوريا عام 2011، فكان عدواً مزدوجاً لواشنطن ولحليفها في دمشق. وُضع على القوائم السوداء، ثم رُفع اسمه لاحقاً حين اقتضت المصالح، في مشهد يختصر عبثية التصنيفات الأميركية.
صحيح أن فصيله، مثل سائر الفصائل، لم يَخلُ من تجاوزات، لكن هذه الأخطاء لم تكن استثناءً، بل جزءاً من واقع حرب معقدة تختلط فيها السياسة بالميدان والتدخلات الأجنبية ، لكن الفارق أن الرجل كان يقاتل في المواقع التي تُؤلم واشنطن، بينما كثيرون فضّلوا الإحتماء بظلها.
مغزى الدرس :
من كل ما سبق نرى أنّ واشنطن نفسها لا تتردد في تغيير مواقفها ، فقد وصفت ياسر عرفات بالإرهابي، ثم جلست معه على طاولة المفاوضات. وصنّفت أحمد الشرع عدواً، ثم رفعت اسمه حين اقتضت مصالحها. هي إذن لعبة سياسية، لا حكم أخلاقي.
خاتمة :
التاريخ لا يكتبه البيت الأبيض، بل تكتبه الشعوب بدمائها وصمودها. من عبد الناصر و عرفات و صدام إلى غيفارا، ومن مانديلا إلى بن بلة، ومن أحمد ياسين إلى الرنتيسي، ومن أحمد الشرع إلى كل مقاتل رفض الإستسلام .. جميعهم وُصفوا بالإرهابيين في قاموس القوة، لكنهم في ذاكرة أوطانهم أبطال للحرية.
و إن القوائم السوداء أوراق تذروها الرياح، أما الأسماء التي نُقشت بالتضحيات فتبقى في ذاكرة الأجيال ، والعبرة واضحة: من تختاره أميركا عدواً تختاره الشعوب بطلاً .