مقالات كل العرب

لبنان و سوريا أمام الخيارات الصعبة: أحلاها مر

شارك

لبنان و سوريا أمام الخيارات الصعبة: أحلاها مر

أ. معتز فخرالدين

في لحظة تاريخية مشتبكة، تبدو سوريا كأنها تقف على حافة تشكيل جديد، لا يشبه ما سبقها من مراحل. لم تعد المسألة فقط إعادة إعمار ما تهدّم، بل إعادة تعريف لماهية الدولة ودورها وموقعها في الإقليم والعالم. وفي قلب هذه التحوّلات تبرز حقيقة دامغة: أن البلاد تواجه ضغوطاً هائلة من الخارج، وسط خرائط جديدة ترسم للمنطقة، ليس من بوابة الحروب وحدها، بل من بوابة “السلام المفروض” أيضاً.

فمن اتفاقات “أبراهام” إلى مشاريع إعادة الإعمار المشروطة، ومن محاولات فرض التسويات الإقليمية على المقاس الأميركي–الإسرائيلي، تجد القيادة السورية الجديدة نفسها أمام خيارات صعبة أحلاها مر، إذ لا يمكنها مجاراة هذه المشاريع دون ثمن باهظ للسيادة والموقع، ولا يمكنها رفضها بالكامل دون امتلاك عناصر القوة الذاتية الكافية للصمود والمناورة.

وفي مواجهة هذه المشاريع الكبرى، يتقدّم فاعلان أساسيان في مشهد المواجهة: السلطة السياسية من جهة، والشعب من جهة أخرى. الأولى، بموقفها الرافض والمقاوم لما يُفرض عليها، والثاني، بموقف شعبي داعم وواعٍ، يشكل حاضنة وطنية لأي قرار سيادي. ومن هنا، تظهر معادلة الإنقاذ الوحيدة: تلاحم حقيقي وفاعل بين السلطة والشعب.

لكن هذا التلاحم لا يُبنى بالشعارات والنوايا، بل يتحقق بشروط موضوعية واضحة تبدأ من الداخل. فأي سلطة تواجه مشاريع كبرى مفروضة من الخارج، لا تملك رفاهية تجاهل الداخل أو إقصائه. المطلوب اليوم من القيادة السورية الجديدة أن تُحَصِّن موقفها السيادي بشرعية شعبية فعلية، تستند إلى:
- إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها عبر خطاب سياسي جامع يتجاوز الاصطفافات القديمة.

– انخراط حقيقي لمكونات المجتمع السوري كافة، عبر حوار وطني شفاف لا يستثني أحداً، لا الأقليات ولا القوى السياسية التي دفعتها المعركة إلى الهامش.

– إنصاف الضحايا والاعتراف بالألم السوري من خلال مسار واضح للعدالة الانتقالية، لا يستبدل المحاسبة بالتجاهل، ولا يغلق الجراح قبل أن تُداوى.

ورغم أن إعادة الإعمار تُطرح كأولوية اقتصادية ملحة، فإنها ستبقى رهينة الشروط السياسية التي تفرضها الدول المانحة، ما لم تُصغ القيادة السورية معادلتها الخاصة، التي توازن بين قبول الدعم ورفض التنازلات التي تُفقدها استقلال القرار الوطني. أي حديث عن مئات المليارات من الدولارات لإعادة إعمار الحجر، لا يمكن فصله عن ضرورة إعادة بناء “الثقة” داخل سوريا، ومع الدول العربية والمجتمع الدولي.

هنا تُطلّ معضلة السلام بالشروط المفروضة من جديد، بوصفه أداة لفرض اندماج سوريا ضمن مشروع إقليمي جديد تقوده إسرائيل وتغطيه واشنطن، عبر بوابة “الازدهار مقابل السلام”. وهو ما يعني في حقيقته: الإعمار مقابل التنازل، والشرعية مقابل الاصطفاف. وما يُطرح على الطاولة ليس مجرد ورقة سياسية، بل مشروع هندسة جديد للمنطقة، تتقلص فيه سيادة الدول وتتضخم فيه مصالح المحور الأميركي–الإسرائيلي.

في هذا السياق، تكتسب اللحظة السورية الراهنة بعداً استثنائياً. فمعظم “الدول العربية” إما دخلت في مسارات تطبيع مباشر أو اختارت التمسك بحل الدولتين كشرط للسلام مقابل الأرض ولم يبق في واجهة الرفض العلني سوى سوريا أو هكذا يبدو على الأقل. ومع غياب الموقف المعلن من القيادة الجديدة، يبقى السؤال معلقاً: هل ستُكمل سوريا تموضعها التاريخي، أم أنها بصدد مراجعة شاملة لعقيدتها السياسية تحت ضغط الوقائع الدولية؟

ما يزيد المشهد تعقيداً أن الخراب في سوريا ليس مجرد دمار عمره عقد، بل خراب عمره عقود، طال بنية الدولة والمجتمع والتعليم والسياسة والاقتصاد. أي أن إعادة البناء لا تُختزل بإعادة إسكان الناس في بيوتهم، بل بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة نفسها، بعد أن تآكلت الثقة وتفككت الروابط الجامعة، وأصبح الوعي الوطني مجزّأ بين ضحايا الحرب ومنافي الخارج، وجراح الداخل.

من هنا، لا يمكن الحديث عن خلاص سوري إلا إذا توافرت ثلاث مقومات مركزية:

1. قرار وطني سيادي مستقل، يعيد تموضع سوريا إقليمياً دون الانضواء تحت راية المشاريع المفروضة.

2. عقد اجتماعي جديد يؤسس لشرعية داخلية قوامها المشاركة لا الاحتكار، والعدالة لا الانتقام.

3. دعم عربي ودولي مشروط بالإصلاح وليس بالإذعان، وبالانفتاح لا بالارتهان.

في المحصلة، الخلاص ليس مستحيلاً، لكنه يمر في نفق شائك. وسوريا بقيادتها وشعبها مدعوة اليوم إلى قراءة اللحظة بوعي تاريخي.

فالسلام المفروض قد يكون بوابة استقرار مزيّف، لكنه غالباً ما يكون مدخلًا لتفكيك ما تبقى من السيادة وخسارة الأرض المحتلة في هضبة الجولان. في حين أن السير في طريق الإنقاذ الوطني الصعب، ولو بأثمان باهظة، قد يكون المعبر الوحيد نحو سوريا حقيقية، تنبع من داخلها لا تُصاغ خارجها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى