مقالات كل العرب

نحن لحن الخلود

شارك
نحن لحن الخلود
أ. غصون غانم

هنا على المائدة صحنٌ فيه بقايا من الزيت والزيتون ورغيف خبز يابس يطفو عليه بقعٌ من العفن فيتسلل اليّ رائحة الخبز الطريّ يخترق كل شيء فينبعث معه سؤال وهل هنا كسرةَ خبزٍ واحدة أو طعام ؟ وهل ملعقة زيت تكفي لطهي الطعام او تغميسه ؟ لابأس سنطهو كيس من البقول أو الأرز ولكن هل كيس واحد من البقول أو الارز يكفي لإطعام أسرتي وافراد من العائلات الاخرى وأسرة جيراني معا ؟ تأججت معركة الطهو على الموقدة فقد أستبسلت قبل أشتعالها وليس هناك من  الحطب والجمرات ما يبقيها مشتعلة لوقت طويل تحتاج للكثير من الكرتون الممزق للاشتعال؛ وهنا كل شئ ملوث الماء والدخان الصاعد وقد مرض أحد الأفراد وليس  هناك داعي للذهاب للطبيب فالطبيب لم يعد على قيد الحياة والمستشفيات لم تعد موجودة لا بأس يمكن العودة قليلا للوراء الى التداوي الشعبي نتبع وصفات الجدات بعض الجدات نصحوني بأن اسقيه الماء الكثير بسبب حالة الجفاف ويمكن أن تكون أيضاً حالة التهابية والماء لم يعد نقي وغير متوفراً. حان الغروب وهل لي أن آوي للنوم ! أن أغمض عينيّ والليل ينوح والجحيم في رأسي فنحن هنا نقبع على قيد الحياة قليلاً ، ألمٌ يتغذى على سكينة أروحنا وهذا التشوه في روح الانسان أصعب بكثير من دمار الحروب على العمران ومقومات الحياة فكيف تُصلَح تشوهات ارواحنا؟ لكننا نمتلك ذاكرة فريدة لايشوشها ولا يفسدها تلوث الطعام والماء والهواء، تعرف تماماً مواقيت مناوبتها وتعرف جيداً وظيفتها سر كبرياء وجودها وسر تألقها تختزل كل شئ لتتأهب أكثر .

الجوعُ بين مراكب الصيادين والسهول الخضراء وبين الفصول والمواسم و حقول الحبوب و سنابل القمح  سخرية القدر بؤس آخر وشقاء ، هذا أكتوبر ونوفمبر وديسمبر ويناير يعرفُ كلَّ شيءٍ ؛ ها هي العجلات تدوس على كل قطعة من الأرض وعلى المراكب وشباك الصيد والمحراث فيخرج الأجداد من الساحل والرمل والوعر ومن صدور الجبال ينثرون البذور بردٌ وسلام ، يخرجوا من ثنايا الصخور إلى الفضاء ليجلبوا النشيد والحان الحياة في صدى الوديان والمروج وعيون المياه ليعود الحجل والوعل وهبات النسيم الى الجبال العابسه ويجلبوا الريح الى الرمال الساكنه فتهب كثباناً لتتيه بها خطى ومسارات العابرين ؛ اصغوا لهذه الصخور واسمعوا دوي الصرخات بين ثنايها ستلمحون وجودنا . لن تجدَ أرضاً في حالة عشق كهذه تسكنك وتتبعك دوما أرضها و بيوتها وأشجارها واسلافها وتطاردك شوراعها وأماكنها وهي جدولك السرمدي وهي قدرك لايمكنه الابتعاد عنك ؛ والخراب هنا سيظل يترآى لك خرابا في كل البقاع التي تذهب اليها ؛ هي نبوءة   كفافيس الذي   قال :
‘ فلأقف هنا، ولأرى الطبيعة مليا
 شاطئ بحر رائع، أزرق أصفر،
 في صباح سماؤه صافية
 كل شيء جميل مفعم بالضياء
 فلأقف هنا، ولأخدع نفسي بأني أرى هذه حقا
 ولاأرى خيالاتي ومتعة وهمية ‘
سوف تنتهي هنا دائماً ولن تجد سماءاً متعبة كهذه السماء ترتسم على صفحتها تشكيليه مرعبة موحشة ولوحات تتدرج بين الرمزية والتعبيرية  .
 البيوت سوداء . .
 السماء سوداء
 الجبال سوداء
  المدينةُ سوداء ..
هذه الأرض باستبسال وشموخ وإباء جمال الهضاب والبيادر والساحل وفرادة السلاله البشرية ترفع هرمونات الاكتئاب والقلق لدى تلك الوحوش الممتلئه بالشر والشراهه فيرتفع في دمائها عدوانيةً شرسةً ومفترسه تستشر مستسيغه لحوم الاجنة واللحم الطري علها تُهديء شرها، فكيف لا نموت من شدة البرد وهناك من يلتهمون الدفئ في عيون الأجنة ويطير الآلاف من الملائكة بشذى معطره خلف السحب البيضاء مثل نجمة الثلج يلهون ويضحكون بكل خفة في موكب من الضياء يرقبهم الاطفال النازحين والضائعين والمتيتمين فتستد ثقوب الناي فتختنق ليالي الشتاء والصيف والخريف ؟
آيها الألم الذي يُقطع كل الحبال الصوتية عندما نصيح وطن على أوتاره تسير من حناجرنا مواكبٌ لنساء برداء أسود تتقدمهن أم الشهيد والاسرى لتقول : يا أم الشهيد واثنين وأربعه وخمسه وسته و أم الأسير واثنين وثلاثة واربعة وخمسة ويا أخت الشهداء والاسرى ويا زوجة الشهيد والاسير ويا ابنة الشهيد والاسير يا نسوة فلسطين ( مين يشبهك وأشباهك وين؟ من الضي انخلقتي ومن الزَهر ) .
أيتها الكلمات التي تطل على هذا الكون المضطرب الظامئ لا تكتفي تجردي فنحن نولد مثل جميع البشر ونموت ليس ككل البشر بلا دفن ولا عزاء ؛ لكننا نعرف أن هذا الطريق ممتد الى الفجر وقد يثقل المطر لكنها حتما ستمطر السماء مطراً غزيراً بالحرية . .
 أيتها الحرية 
 امديدنا بماء الحياة 
 لِنُبعث ..
 أمدينا بجرار الأمل 
 فَيُزهر .. 
أرهقتنا غيبوبة الشفق ؛ فسطعت أرواحنا متوغلة في الضوضاء والضجيج والضجر بعيونٍ بارقة الى حدائق الشفق الممتده هنالك حيث ترقد ألحان الخلود ويرقد السلام فالحب والحياة جديران . .
وعلى طرف فتحة نافذة من قلاع الزنازين يقف شابٌ فتيّ يناظر نجماً يشق كبد السماء شابٌ رهين لزنازين لاحد لها ولا حساب تدك زهور شبابه بسلاسلها وحوافرها وحتى النجاة أكثر حلكة وقوة ويمر ظلاً بكل خفة في تلك القمم يقف بكل نبل ليفتح بوابة جمهورية الخلود والوجود مطلقاً قلبه عازفاً :
 آيها السياف الشيطان . . نحن آيات الخلود
 يا آلهة المدافن والمعابد المقدسة . . بات الوطن أقرب
 من قاب قوسين . . بات الوطن أدنى..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى