كل الثقافة

رواية معبد الغريب – عري الذاكرة

للكاتب الأسير رائد الشافعي

شارك

رواية معبد الغريب
للكاتب الأسير رائد الشافعي
عُري الذاكرة

أ. سليم النجار

رائد عليان الشافعي، وُلد في ١٩٧٤/ ١٢/ ٦ في بلدة شوكة، وهو أسير يقبع بسجن جلبوع منذ عام ٢٠٠٣، حاصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية، مسار الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس أبو ديس.

لقد سعت الرواية الأسيرة الفلسطينية التي تم إبداعها في المعتقلات الإسرائيلية منذ تشكّلها، إلى إنتاج نص مفتوح على الحكاية والقراءة الإنتاجية التي تنقّب في حفريات النص عن طبقاته البنائيّة والدلاليّة العميقة، فما النص في سطحه سوى قشرة القناع.

إنّ عملية الكشف عن المستور من طبقاته تتطلب استحضارًا واعيًا للتفاعلات النصيّة التي انصهرت في المتن الروائي، بالتناص تحديدًا، بوصفه أداة نقدية كاشفة للمتون السردية التي تشكّلت منها الرواية، وحقلًا إجرائيًا له آلياته وحدوده في تفكيك النص الروائي، تحديدًا الطبيعة النصيّة وما طرأ عليها من استقطاع وتحويل وتورية.

إن كل نص هو تجربة إنسانية تشكّلت من نسيج الاقتباسات التي عاشها الروائي الأسير الفلسطيني في الاحتلال الأسرائيلي، وإنّ الكتابة، كما يشي كاتب رواية “معبد الغريب” تظلّ ممتلئة بذكرى استعمالات الحياة التي عاشها الأسير، واللغة التي استخدمها لا تعود محايدة، فالكلمات لها ذاكرة حاضرة، تمتد حتى تصبح دائمة، فيصبح الكاتب سجين كلمات الغير وسجين كلماته أيضًا.

هناك بعض من النقاد يوسّعون دائرة النص بالشكل الذي يصعب معه استكشاف العالم النصي من دون وضعه في إطار بنية سوسيو-نصيّة أكبر، سواء على مستوى وعي الكاتب بنصّه أو على مستوى وعي القارئ به، ففي هذه الرواية، هناك عناصر غائبة عن النص، وهي على قدر كبير من الأهمية في الذاكرة الجماعية لقراءة عصر المعتقل الإسرائيلي، إلى درجة أننا نجد أنفسنا عمليَّا إزاء علاقة حضورية، بحسب تودوروف.

لقد أسهم التحوّل الذي طرأ على مفهوم النص لدى الكاتب الأسير الفلسطيني القابع في سجون الاحتلال الإسرائيلية في إنتاج وعي مغاير لحدود النص الروائي، والذي ما عاد بنية فنيّة مغلقة ومستقلّة كما في التصوّر البنيوي، بل هو بناء فضاء منفتح على حكايات تنتمي إلى أحداث معتقلة، كما صوّر الكاتب رائد الشافعي في روايته:
“الخوف، تلك الكلمة تنبّئ من كان يترقّب الاعظم، لكنّي أكملت تلك المقارنة وقد استقر صوتي أكثر وأنا أشرح له كيف استشهد ولدي الثاني هنا تمامًا في المكان ذاته الذي يجلس به هذا المحقق الحقير ويضع قدميه في وجهي”

فالنص هنا يحكمه الترابط والتداخل والتفاعل، وفيه ما يدل على اتصاله مع نصوص سابقة في الرواية، وذلك عبر فاعليّتين أساسيّتين هما: التناقض والرؤية، فكما أن الكتابة تحتّم استدعاءً واعيًا مغايرًا لنصوص سابقة تجاوزت فكرة التوافق مع الواقع، لنبدأ رحلة الكشف، حيث جاء في الرواية الآتي:
“ليشكّلوا معًا منظمة ذاتية التمويل، إذ لا صفة رسمية لها، وظيفتها الوحيدة هي الرواية، تستهدف النواة الصلبة داخل الشعب الفلسطيني، وتعمل بدقة وصبر من أجل تحقيق غايتها، جل أعضائها يهود إسرائيليون، والقليل من اللبنانيين الذين تعاونوا مع هذا الكيان الصهيوني، وبعض الفلسطنيين الذين التقت مصالحهم وأهدافهم مع أفكار هذه المنظمة التي لا تنفك تتحدث عن السلام والتعايش وحسن الجوار، وهم قلةٌ على دنائتهم”.

وبهذا، تتداخل الأيقونة الصورية الأمامية لغلاف الرواية في تصميمها، مع أيقونة الكتابة للمشهد الذي رسمه الشافعي، والذي حضر بقوّة أثناء سرده للرواية، إذ جاء: “الرطوبة تكاد تكون هي الهواء الذي يتنفسونه داخل قبوهم الصغير، والصمت امتد ليومين متتاليين، زاد شحن الأجواء داخل الغرفة بمزيد من الكآبة”.

إنّ النص يترواح بين فرادنيّته، وذلك لامتلاكه ريادة المعنى، وبين تماهيه وتخلّيه عن أصالة وجوده، لأن صدفة وجوده لأنساق نصية وعبر نصية خضعت لحوارية غيّبت نصوصًا وأظهرت أخرى ومارست عمليات إزاحة وإحلال وعمليات ترسيب وقضايا يحكمها السياق، كتوظيف شكسبير الذي لم يأتِ في السرد عبثيًا، أو للاستعراض الثقافي، فلهذه الشخصية حضورًا في الثقافة العربية، وعلى وجه التحديد في مسرحية “تاجر البندقية” التي كان لها أثرًا كبيرًا في وضع المدماك الأول في الصراع اليهودي، وهذا النص الأصلي الذي طرحة الشافعي عبر متن السرد:
” – من هو شكسبير إذن، أنت من عدت على ذكره يا غريب
– دعك منه، إنه شخص يبيع الخردوات في أحد أسواق غيتو قلقيلة
رفع حاجبيه متعجبًا وهو يسأل
– غيتو قلقيلية؟! وأين يقع هذا الغيتو؟ لم أسمع به
– في فلسطين، كل فلسطين
– فهمت قصدك جيدًا يا غريب”.

مما تقدّم، تستوعب الرواية بوصفها جنسًا غير مكتمل كما يصفها باختين، فضلًا عن انفتاحها على الأجناس الأدبية المتاخمة لها، أو تلك التي تنمو بشكل مستقل عنها أحيانًا في حدود حوار معلن، “إن كان لا قيمة للحياة بلا كرامة، والكرامة غير ممكنة بلا حرية، فلماذا لا زلنا أحياء؟؟ ”

ولنعرض مشهدًا للعناصر الأوليّة التي بنيت عليها الرواية، ومدخلًا كاشفًا للحدث عبر مساراته السردية المتشعبة التي تعتمد التقطيع عن السياقات، جاء في الرواية:
“تروقني ثقافتك الموسيقية، لكن الموسيقى التي ذكرتها لا يمكن سماعها في سيارة يا غريب، لكن بحق، كيف كونت كل هذه الثقافة المتنوعة؟ أنتَ لا زلت صغيرًا واعتقلت عن مقاعد الدراسة”.

إن تحريف الرواية عن زمنها بفاعليتي الاسترجاع والاستشراف، أو من خلال تقطيع أوصاله عبر المشاهد، تتطلب قارئًا فطنًا يلملم نسيج الحكاية ويعقد ما تباعد من حلقاتها وينظِّمه في مكانه الصحيح، “لعطرها تأثير أكبر من كل الخمر الذي احتساه ليلة أمس، أشعل ثورة في حواسه، مطلقًا لمخيلته العنان للتحليق في فضاء جسدها نصف المغطى وهي تلف على نفسها منشفة الحمام”
كل ذلك استدعى الغلاف ليصبح نصِّا موازيًا متعالقًا مع خاتمة الرواية ونافذة يطل منها القارئ، ” – ربما عرفتُ أحد نصفيها
– أيّ نصفٍ منها؟
– اطمئنّ، ذاك الذي عرفته أنت.. ربما”

إن رواية “معبد الغريب” للكاتب رائد الشافعي تتطلَّب وعيًا خاصًّا بحدود هذا الجنس، يتباين من قارئ لآخر ويختلف بالتأكيد، فيما إذا كان جنس الكتاب قصة قصيرة أو نثرًا على سبيل المثال، فلكل جنس عدّة قراءة خاصة يتم استحضارها بشكلٍ واعٍ أو غير واعٍ قبل الولوج إلى عالم النص، والشافعي ترك للقارئ حرية القراءة والتصنيف..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى