كل الثقافة

الروائيات العربيات و ادب الرحلات

شارك

الروائيات العربيات وأدب الرحلات.

أ. هناء عبيد

يعتبر أدب الرحلات من أنواع الأدب المحببة إلى النفس، ذلك أنها تنقلنا إلى عالم آخر وأماكن مختلفة وتجارب متعددة دون أن نبرح مكاننا، وذلك من خلال كلمات المبدع الذي ينتقل إلى أماكن متعددة وينقل لنا من خلال ذلك تجاربه مع المكان والشعوب والعادات والتقاليد، بل أيضا التاريخ والحياة الاجتماعية والسياسيّة.

وترجع جذور هذا الأدب إلى زمن قديم، وقد جاد هذا الأدب علينا بالعديد من التجارب، ولمعت من خلاله أسماء عديدة منها على سبيل المثال ابن بطوطة الذي يعتبر من أشهر الرحالة العرب فقد جاب معظم البلاد الإسلامية والصين وسومطرة، وكذلك الرحالة المقدسي الذي زار معظم البلدان الإسلامية وجنوب أفغانستان وصقلية، وهناك أيضًا الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي قام برحلات إلى المشرق العربي ومدينة سبتة ومكة المكرمة وبغداد والموصل ودمشق وحلب وغرناطة والقاهرة وبيت المقدس.. وهناك الكثير غيرهم من الرحالة الذين اعتبرت توثيقاتهم من أهم المراجع التاريخية والجغرافية قديمًا وحتى في عصرنا الحالي.
وكما هو ملاحظ فإن هذه التغطيات شملت الرحالة الرجال فقط، ولا نعلم تماما إن كان هناك رحالة من السيدات كان لهن رحلات، أم أن التاريخ دوما ينسى فضل السيدات، فلم تدون ولم تؤرخ سيرة هذه السيدات في هذا المجال، ولأننا لا نريد أن يعيد التاريخ نفسه في هذا الإهمال والتهميش وعدم تسليط الإضاءة، كان لا بد لنا أن نسلط الضوء على الأديبات العربيات اللاتي كان لهن التجربة في هذا المجال، ولا شك بأن الهجرة المتدفقة لأبناء الوطن العربي في الآونة الأخيرة إلى الدول الغربية أدى إلى إثراء التجربة وزاد من إصدار الأعمال الأدبية التي سلطت الضوء على البلاد التي تم الهجرة إليها خاصة البلدان الأوروبية وأمريكا وكندا واستراليا.

ورغم أن السفر أصبح متاحًا، والبعض يقول أن أدب الرحلات لم يعد له أهميته كما كان في السابق، إلا أني اختلف تماما مع هذا الرأي، إذ لا يمكن أن ينقل عن عادات شعب وتاريخه وأحداثه السياسية وطباعه الاجتماعية إلا من عاش فيه، فالرحلات المعدة المؤقتة التي يمارسها بعض الأغنياء لا يمكن أن تنتج أدب رحلات يستحق التوثيق نظرًا لضيق أفق هذه التجربة، أولا لأنها محدودة بالزمن، وثانيا لأنها معدة مسبقًا من قبل الشركات السياحية.
لهذا لن نجعل لهذا الرأي أن يتصدر المشهد بفكرته المغلوطة. ومن باب أضعف الأيمان سأتناول في هذه المقالة روايتين كان لأدب الرحلات لمسته الملحوظة فيهما.
الرواية الأولى هي رواية “بغداد وقد انتصف الليل فيها” للروائية والشاعرة والمسرحية التونسية حياة الرايس
والرواية الثانية هي روايتي “هناك في شيكاغو”

رواية الأديبة حياة الرايس “بغداد وقد انتصف الليل فيها” صدرت عام ٢٠١٨ ومن خلالها تحدثنا الروائية عن تونس وطنها الأم، نتعرف من تجربتها على هذا البلد الجميل بمعالمه السياحية وأماكنه العابقة بالتاريخ، الزاخرة بالتراث والأصالة، ولن تمر الأحداث دون الاستمتاع ومعرفة الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد فيها، وعلاقات الأسرة الواحدة مع بعضها البعض ومدى قوة الارتباط التي تجمع الأسرة بالأقارب كالجدة والعمة والخالة.
ثم تحدثنا الروائية حياة عن دفء العراق الذي رحلت إليه للدراسة، فنتعرف على طيبة أهله ومدى سهولة انصهارها في بوتقته لتصبح فردًا من نسيجه الفسيفسائي المتفرد. وتصف لنا بغداد، المدينة العاشقة التي جمعت كل الجنسيات العربية في حضنها لتكون منبر الثقافة، إذ التقت فيها حياة بالطالبة الفلسطينية واللبنانية والمصرية والعراقية والسورية.
وبهذا نعيش مع حياة في عالم بغداد الجميل المصغر الذي يجمع بين أبناء الأمة العربية بصورة وجدانية دافئة.
كما تنقلنا حياة معها في شوارع بغداد كشارع أبو نواس على ضفاف نهر دجلة، وتصف لنا أيام الشباب والمرح تحت سماء بغداد وضوء القمر بصحبة الصديقات والأصدقاء، وأهل بغداد الذين يتسامرون في المطاعم الممتدة على نهر دجلة. ثم ننتقل معها من الفرح إلى الوجع، حيث الحرب التي اندلعت بين العراق وإيران، وحيث الحياة الحالكة التي توزعت بين الملاجئ، وحيث صفارات الإنذار وقنابل الموت.

الرواية الثانية، هناك في شيكاغو لهناء عبيد، صدرت الرواية عام 2019 ومن خلال العنوان نستطيع أن نتعرف على أن الأحداث دارت في مدينة شيكاغو، فنسرين بطلة الرواية فلسطينية الأصل تنتقل قسرا مع عائلتها إلى الأردن ثم تهاجر إلى مدينة شيكاغو في أمريكا، وهناك تحدثنا الكاتبة عن مدينة شيكاغو كمكان سياحي جاذب وتستعرض بعض الأماكن السياحية وتصفها بدقة مثل بعض المسارح والحدائق كحديقة البتانك جاردنن، وبعض المتاحف كبيت المهندس المعماري فرانك لويد رايت الذي وسمت مدينة شيكاغو بفنه المعماري المميز، كما نتعرف من خلالها على مدينة ديربورن في ولاية ميتشغان والتي أطلقت عليها مدينة العرب، وأقتطع هنا فقرة من مقالة للكاتبة رفيقة عثمان أبو غوش بهذا الموضوع تقول فيه”من الممكن تصنيف الرّواية أيضًا تحت مسمّى “أدب الرّحلات” نظرًا لوصف الكاتبة للأماكن السياحيّة بدقّة ووصف جميل، خصوصًا للأماكن التي زارتها في أمريكا؛ مثل: ديربورن التي شبّهتها الكاتبة بمدينة عربيّة بكل مواصفاتها، وغيرها من الأماكن التي زارتها البطلة نسرين خلال مكوثها في شيكاغو. هذا الوصف أضاف معلومات سياحيّة عن الأماكن الجذّابة للسائحين.
كما تتعرض بطلة الرواية إلى الجنسيات المختلفة في شيكاغو وطبيعة الحياة فيها وكيفية التعايش مع الآخر حيث تقول:
“في مطار أوهير خرجنا من الطائرة، وكأننا انعتقنا من علبة ضيقة مغلقة، دخلنا عبر نفق طويل ينتهي بصالة واسعة، تضم أعدادا كبيرة من مختلف الجنسيات. وجوه لا تتشابه، ملامح مختلفة، ألوان متعددة، ربما من الصين أو كوريا أو الهند أو بريطانيا. كنت أشعر بدوار غريب، أنا الآن على الجانب الآخر من الكرة الأرضية”.
وتقول: “أينعت مدينة شيكاغو لتصبح زهرة يانعة متميزة عن باقي مدن العالم، إذ في شيكاغو تستطيع أن تزور كل مدن العالم حيث تجد في إحدى مناطقها الصين بمحلاتها التجارية ومطاعمها المتنوعة وتراثها المختلف، وفي منطقة أخرى تجد الهند بمنتجاتها ومطاعمها، وبضائعها المتنوعة، وفي ركن آخر تجد نفسك في البلاد العربية، حيث كل منتجاتهم، ومطاعمهم التي تجتذب كل الأذواق، وهكذا تصبح شيكاغو بسبب التعايش السلمي بين أفرادها المختلفين من أفضل النماذج التي يضرب بها المثل”.

ويتعدى الأمر هذا لنجد البطلة تحدثنا وكشاهد على العصر عن الأحداث السياسية والتي يمكن أن تكون توثيقية أيضا عن حال العرب والشعب الأمريكي حين الأزمات السياسية، منها على سبيل المثال حادثة الحادي عشر من سبتمبر والتي سيطر الخوف بسببها على المواطنين العرب والمسلمين.
ولا شك أن النماذج كثيرة من قلم الأديبات العربيات اللواتي شملن أدب الرحلات في أعمالهن ويستحقن تسليط الضوء على إنجازاتهن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى