مقالات كل العرب

الصّندوق الأسود

أ.عربيّة القضاقضي

شارك

 

 

الصّندوق الأسود

 

أ.عربيّة القضقاضي

 

تمرّ الطّفولة سريعا هي فترة الأحلام والنّقاء الّتي تتراقص فيها أمانينا على وتيرة لامتناهية لا نستطيع خلالها التّمييز بعقولنا إلّا أنّنا نستشعر كلّ جميل بأفئدتنا الخالية من الشّوائب لا تنغّص الهمجيّة البشريّة عيشنا البسيط ولا تشوّه سلمنا الدّاخليّ فتنساب منّا الحياة سلسة لا نفكّر في مطبّاتها، لا تشغلنا انحناءاتها ولا يؤرقنا اعوجاجها اللّامتناهي كنّا نمرح في عبث بريء نُحتت آثاره من قطع البسكويت والشيكولا لم ندرك بعد أنّنا نحياها على سليقة قوامها البداهة ثمّ كبرنا وفرّقتنا الدّروب وبدأت تكتسينا النّدوب فتحفر عميقا في مسامّ أرواحنا المرتعشة بردا المنتظرة دفء عرفان فقدناه ولم نعد نقدر على استعادته أو العود على بدء.

تتوّلّد فينا أحاسيس الضّياع جرّاء انتهاء علاقات خلناها سرمديّة فأدركنا متأخّرين أنّها سلسلة جهنميّة من اللّقاءات البينيّة الزّائفة والهشّة. تبدأ صداقات ونسدل السّتار عن أخرى وتنتفي حواجز وتبنى أسوار كلّ ذلك يحفر عميقا فينا فيأخذ بعضا من شغفنا بالوجود كلّما انهار جزء من هذه الأكوان الّتي آمنّا بها يوما.

نلامس حدث الهزيمة فتلسعنا جمراته المتأجّجة وبمرور الأوغاد يتوالى النّكران وتتساقط ثقتنا بمن حولنا ويعترينا النّدم ولكن ماذا حصل؟ إنّنا نعود إلى أخطائنا القديمة كالسّفّاح الّذي يزور مسرح جرائمه مرّة أخرى فنجترّها ونكرّرها ولكن بسذاجة وحرفيّة لم نعهدها من قبل ثمّ إنّنا لم نتجرّأ يوما على نقد سلبيّتنا ومواجهة خنوعنا وتحميل أنفسنا مسؤوليّة ما يحصل لنا من آلام تمزّقنا ولم نتساءل عن تقصيرنا نحو أنفسنا كلّ ما يشغلنا هو موقف الآخر منّا إذ مازلنا نوليه عظيم الشّأن ونحاول إيجاد تبرير لما فعله في صدورنا من أوجاع وتنطلق رحلتنا في التّنكيل بأرواحنا الجريحة فنلوم ونقرّع ونندب حظّا يحتضر دون بحث جدّي ونقد ذاتيّ موضوعيّ فإمّا بكاء على أطلال الماضي أو الخروج في لبوس الضّحيّة البائس.

لو عدنا بذاكرتنا قليلا ووقفنا على هِناتنا سندرك وقتها أنّنا كنّا نعاني من انعدام الفواصل والحدود ذلك القرب المريع الّذي ينتهي لامحالة بزلزال مدمّر نعم إنّه هو دون غيره كلّ مانبنيه دون اعتبار المسافات يكون وقع سقوطه أقوى وجرحه أدمى وأشدّ إيلاما وربّما لن تقدر السّنون على رتقه كلّ ما فينا يجب أن يتدرّب على حدث التّخلّي فنجعله مرافقا لنا.

وكأنّنا إزاء حدود يجب علينا رسمها وتقديرها وقيسها بمهارة الهندسيّ حتّى لا تقتلنا الطّعنات القريبة إذ هي أشدّ وقعا وجرحها أعمق.

ربّما احتجنا أن نرفع مستوى توقّعاتنا ونضيّق دوائر صداقاتنا لسلامة أرواحنا من أذى يتربّص بنا، فمن يرصد ضعفنا مقتنصا الفرص للقضاء علينا لن يستطيع النّيل منّا إذا تركنا بعض النّقاط دون توضيح إنّ للغموض أحيانا سحر خاصّ نحافظ به على هيبتنا ونحصّن به خيلاءنا فنتواصل وقد اكتسبنا مناعة ذاتيّة تقينا خطر السّقوط في مزالق الهزيمة الّتي قد تستحيل هزائم متتالية متى لم ندرك أنّنا ضحايا استهتارنا عندما قرّبنا منّا كلّ عابر فاجتاز دواخلنا وبعثر مافينا ثمّ استهزأ من سقوطنا.

قد يرانا البعض من خلال كتاباتنا قساة غير موضوعيّين لكنّه متى أمعن النّظر وجد نفسه مبثوثا في ثنايا هذه الكلمات من منّا لم يقف يوما أمام المرآة مكفهرّ الوجه متسائلا في تيه عن المتسبّب في خيبته منتهيا باختلاق الأعذار إمّا لنفسه أو للغير متناسيا أنّه يدفع ثمن تفريطه في خصوصيّاته بعد أن جعلها معروضة على الغرباء وتناسى أنّها من الخطوط الحمراء الغليظة أو لعلّها بالتّأكيد صندوقه الأسود..

كاتبة من تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى