مقالات كل العرب

الكذب بصدق: قراءة في ديوان “أنا أكذب” للشاعر عبد الفتاح صبري

أ.لطيفة لبصير

شارك

الكذب بصدق

قراءة في ديوان “أنا أكذب”

للشاعر عبد الفتاح صبري

 

أ.لطيفة لبصير

 

ديوان “أنا أكذب” من بين الأعمال الإبداعية والنقدية التي صدرت مؤخرا للكاتب عبد الفتاح صبري أثناء فترة الحجر التي أتاحت للكثير من المبدعين إتمام نصوصهم التي كانت عالقة.

يحيل عنوان الديوان “أنا أكذب” على محور الكذب الذي شكل رؤية مختلفة في الفكر والابداع. فالكذب يمكن اعتباره مفهوما ارتبط بالتخييل، إذ نجده ماثلا بقوة في الشعر العربي من خلال مقولة النابغة الذبياني: “أعذب الشعر أكذبه”، كما أنه شكل لبنة للعديد من الدراسات والابداعات، على نحو ما نجده عند لويز أراكون ومقولته الشهيرة “الكذب بصدق” التي ترى بأن المبدع حين يتخيل فهو يكذب ويختلق، لكن هذا الاختلاق في نفس الآن ليس إلا طريقا إلى الحقيقة.

ضمير المتكلم للنفي وليس للاثبات:

بناء على قولة أراكون يمكننا القول إن ضمير المتكلم في عنوان الديوان “أنا أكذب” يفيد النفي لا الإثبات. فأنا أكذب، لها العديد من المعاني، منها أنني صادق في كذبي، أو أنني صادق في تخييلي، أو أنني أشبه الحياة في تأويل هذه الثنائية: الكذب والصدق؛ لذا فالعنوان يوجه المتلقي نحو معنى آخر، وكأنه يراوغ الحقيقة التي تبدو للمتلقي مثل حقيقة كاذبة. فالذات المتكلمة تحاول أن تقبض على شيء ما، على الساعات التي تمضي وعلى الأثر وعلى الناس الذين عبروا، لكنها لا تلوي على شيء سوى الحقيقة الوحيدة ألا وهي القصيدة، يقول الشاعر: “لا شيء يستحقني/ سواي/ فغبت في قصيدتي/ وذبولي/ وتاهت فيّ ذاتي”.

فضمير المتكلم الذي يتكرر في القصيدة هو ضمير للنفي وليس للاثبات، كما قلنا أعلاه، فأنا أكذب حين أريد أن ألمس الحقيقة والحب والطفولة والبيت القديم والروائح التي انصرمت، لكنني في نفس الآن أكذب بصدق لكوني لا أستطيع أن أستعيد كل الزمن الذي يعبر بكل ذكرياته، الشيء الذي يجعل القصيدة وكأنها زئبقية لا تلوي على شيء إلا على ذات تسعى لتكذب دون أن تسقط في الصدق.

الحياة تكذب:

تبدو الحياة بالنسبة إلى الشاعر عبد الفتاح صبري مجرد أوراق ترحل سريعا، فهو يحاول تجميعها كمسودات صغيرة ليعيد رتقها، لكنها سرعان ما تتفتق، لأن الأصل فيها أنها تؤول إلى الاندثار، ولذا نجد الرغبة في لم شتات الذات هي أيضا كذبة، فتبدو الجذاذات التي يتخيلها المبدع ليعود إلى لم شتات الزمن والطفولة والعودة إلى الحضن الأول، مجرد مآل ميت، يقول:

” أريد أن أعود / إلى بيتي الذي مات/ والى الناس الذين/ لم يتبدلوا.”

فالذات تكذب وهي تحاول أن تعود إلى كل الأشياء التي عبرت، لأن الحياة هي نفسها تكذب، ولذا نجد هذا التكرار للرغبة في العودة، وهي عودة تعيد اختلاق الماضي كي تؤول إلى حقيقة الكذب التي تصطدم بها الذات. يقول الشاعر: ” قبل سبعين قرنا/ ترجلت من نومي/ نهضت متثاقلا/ ومتفائلا”.

فالشاعر يرى العودة إلى الطفولة تشبه سبعين قرنا، وهي صيغة تمضي إلى المبالغة في السنين التي مضت بحيث تشبه السنة فيها القرن، ويموت فيها البيت.

إن الكذب بصدق كمقولة تتجلى عبر العديد من الأساليب التي تلطف حدة ما يحدث، فالبيت يموت بفقد الأشخاص وبالزمن ويؤول إلى خراب، ولذا يبدو التخييل هنا وكأنه يحاول أن يبني وشوشات الجارات والبلدة القديمة والأغاني الحزينة.

الصدفة تكذب:

تبدو الصدفة للقاء حبيبة ما صدفة قاسية، فهي في رؤية الشاعر: “الصدفة/ليست دائما/ صادقة”، بل هي “صدفة قاتلة”، ولذا يتوسل الشعر بأقوى الصور والاستعارات لأن الذات تشعر بأن كل المعاجم التي تعمل على تهوين الكلام هي غير دالة، لذا تبدو تعابير مثل القتل والمخاتلة هي الأقرب لنسف الذات، يقول الشاعر: “لم أدر إلا بكفيك /  لرعودك الماطرة/ وتسقيني رملا/ في برق لحظتك الخاسفة/ وتتركني”.

فالصدفة في الشعر هي النظرة واللقاء والانتظار، لكنها تتحول في ديوان “أنا أكذب” إلى معجم يؤول إلى الخذلان، فهي صدفة غير مرغوب فيها، ولذا يتسلح الشاعر بكل قواميس الطبيعة وتحولاتها كي يجسد هذه الصدفة التي تكذب على الشاعر ومشاعره. ولذا يقول الشاعر:

“أيّ سيدة /تلك التي عبرت/فجرحت أيامي/ وتمتمت / على شجو/ ناي/ فصلبتني/ على شمع/ضوئها.”

لغة الشعر تكذب باستعارة:

تبدو اللغة الشعرية في ديوان “أنا أكذب” لغة تركب الاستعارة والمجاز والتشبيه، وتخلق بذلك العديد من جماليات الاعتراف بواسطة لغة تمتلك حقيقتها في كذب من نوع مختلف يتجلى بوسائط عديدة، بحيث تستحضر الذات التي تعاني كل أشكال التحليق في الاستعارات كي تعبر عن ألمها العميق، ولذا تبتعد الذات عن التعبير المباشر قولا ولغة كي تمنحنا معجما من أفعال الأحاسيس وأسمائها، فنجد العالم الشعري وقد استحضر كل البعيد لكي يعبر عن شجنه، يقول الشاعر عبد الفتاح صبري:

“تعالي / نصير حبة رمل/ في محارة اللحظة/ كي نفيق لؤلؤا/ من حنان/ تعالي قبل أن نذوبا / من دخان/ ونختفي في ضباب/ النسيان”.

فالذات لا يمكن أن تصير حبة رمل في الحقيقة، لكنها تصير كذلك عبر لغة الشعر التي تكذب وتذهب إلى حد الذوبان، كما أنها يمكن أن تطير إلى القمر وتركب ضوء الشمس، وهذا ما لا يحدث إلا في لغة الشعر التي تكذب بصدق كي تعبر عن الذات الشاعرة بوسائط متعددة، بحيث يمكن للشاعر أن يرسله القاتل إلى حتفه منذ قرون وهو ما ينافي الحقيقة تماما، لكنه يصبح حقيقة مؤكدة حين يصادق المتلقي على هذه الحقيقة الكاذبة التي يصبح فيها القتل حياة والمحب مكان الشمس.

يمنح ديوان “أنا أكذب” للشاعر عبد الفتاح صبري أفقا لتأويلات عدة، من بينها هذا التجاور الأليف والمتنازع بين الصدق والكذب، وهو بذلك يعيد بناء استعارات عدة في الديوان الشعري العربي الذي يبالغ في الكذب لكنه متعاقد بشكل ضمني مع قارئه الذي يصدقه ويدرك بأنه يكذب بصدق.

 

كاتبة من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى