مقالات كل العرب

مقامة الحضارة

شارك

مقامة الحضارة

أ. صباح الزهيري


كان الدكتور هشام الشاوي رحمه الله يسهب كثيرا في محاضراته عن الحضارة , وقد أبتدا درسها الأول قائلا : إن الحضارة هي كلُّ ما يميز أمّةً عن أمّة من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشة والملابس والتمسك بالقيم الأخلاقية, وهي قدرة الإنسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم.
وفي محاولة منه لتبسيط المعنى اختار مدخلا مشوقا حين قال دعوني أرسم لكم ثلاث لوحاتٍ للحضارة مقترنة بالجمال والأخلاق, من خلال ثلاث قصص من السويد, اليابان, وجنوب أفريقيا , ففي إحدى القبائل البدائية في جنوب أفريقيا , أجرى أحد علماء الأنثروبولوجي تجربة نفسية على مجموعة من الأطفال, أحضر سلّةً من الفواكه ووضعها جوار جذع شجرة, ثم أخبرهم بأن أولَ طفل يصل إلى الشجرة سوف يفوزُ بالسلّة كاملة, وحين أعطى إشارة البدء, فوجئ بأن الأطفال لا يتسابقون, بل أمسكوا بعضهم البعض وساروا معًا نحو الشجرة صفًّا واحدًا, ثم أخذوا السلّة وتقاسموا الفاكهة فيما بينهم, وحين سألهم لماذا فعلوا هذا في حين كان بوسع أحدهم أن يحصل وحده على سلّة الفاكهة كاملة؟ أجابوا في صوت واحد: Ubuntu إيبنتو, وهي كلمة أفريقية تعني: مجموعة القيم والفضائل الإنسانية التي تؤمّن التراحم والمؤازرة, ومن بين معانيها كذلك: أنا أكون, لأننا نكون.
في السويد هناك تجربة القطار المجاني في محطات القطار والمترو, فمن بين ممرات الدخول الكثيرة التي لا تُفتح إلا بكود تذكرة المترو, يوجد ممرٌّ مجاني لا رسوم عليه ولا حراسة, ودائمًا ما تكون جميع الممرات مزدحمة بالمسافرين, بينما الممر المجاني شاغرٌ لا أحد فيه, وعندما عبر الدكتور عن اندهاشه من المشهد, ذهب إلى موظفة شباك التذاكر يسألها عن قصة الممر الشاغر, فأخبرته أن هذا الممر لمن ليس لديهم نقود لدفع ثمن تذاكرهم, فسألها الدكتور سؤالا منطقيًّا: ماذا لو أن شخصًا يملك المال, واستغل هذا الممرَّ للتهرب من دفع الرسوم؟ فاندهشت الموظفة من السؤال المنطقي وأجابت بسؤال منطقي آخر: ولماذا يفعل أيُّ شخص هذا؟ كيف يكون معه مال ويدّعي أن لا مال له, ويأخذ حقَّ شخص آخر محتاج؟
ومن اليابان حكى لنا الدكتور عن لعبة الكراسي الموسيقية التي كنّا نلعبها ونحن صغار, وللتذكرة: فقد كانوا يضعون لنا تسعة كراسي ونكون عشرة أطفال, تنطلق المقطوعة الموسيقية وندور حول الكراسي, وبمجرد انتهاء المقطوعة نسارع بالجلوس على المقاعد, وبالطبع سوف يتبقى طفلٌ دون مقعد, هذا الطفل يخرج من اللعبة, ويخرج معه كرسيٌّ, حتى يظل دائمًا عددُ المقاعد أقلَّ من عدد المتسابقين بواحد, وتٌعاد اللعبة حتى يتبقى طفلان وكرسيّ, والفائزُ منهما هو الجالس, أما في اليابان فيلعبونها بطريقة أخرى, تسعة مقاعد وعشرة أطفال أيضًا, لكنهم يقولهم لهم: عددكم أكبر من عدد المقاعد, فإن تبقى أحدُكم واقفًا, يخسرُ الجميع, ويحاول الأطفالُ احتضان بعضهم البعض حتى يجلسوا جميعًا على الكراسي المتراصّة, ثم يقللون عدد الكراسي تباعًا حتى الحد الأدنى الذي يسمح لهم بالجلوس دون مسافات, هنا يفوز الجميع, ويتعلّم الأطفالُ أن النجاحَ عمليةٌ مشتركة والأنانية تعني الفشل.
وشرح لنا الدكتور انه من تلك القصص نستنتج لماذا تنهضُ الحضارات على ضفاف الأنهار, وليس في الصحارى, مثلما نشأت حضاراتنا العظمى على ضفاف الرافدين, لأن وجود الماء يشجّع على الاستقرار والزراعة, والزراعة تتطلب التعاون من أجل بذر البذور وري الأراضي وحصد المحاصيل, وتلك فلسفة: أنا وأنت, بينما الصحراء شحيحة الماء تجعل الإنسان رحالا غير مستقر, يبحث عن آبار الماء, وكلما جفّت بئر بحث عن غيرها وقد يتصارع أو يقتل, من أجل الماء إن شحَّ: الفلسفة هنا: أنا أو أنت.
إن الحضارة حالةٌ متقدمةٌ لمجتمع إنساني تجاوزَ فيها حالة الفوضى ووضع أسسًا تنظيميةً لحياة الناس, وفتح أمامهم مجالات تفكير وعمل لإنشاء العلوم والفنون واستحداث أسلوب أكثر راحةً وإبداعًا.
وقد قال مؤسسُ علم الأنثروبولوجي الثقافي إدوارد بيرنِت تيلور: إن حضارة أي مجتمع هي كلٌّ معقّدٌ مكونٌ من المعرفة والعقيدة والأخلاق والفنون والتقاليد, وفي كتابه قصة الحضارة ذكر الفيلسوفُ والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت: أن الحضارة نظامٌ اجتماعي يعين الإنسان علي زيادة انتاجه الثقافي, وأنا اميل للتعريف القائل : ان الحضارة هي رقّة التعامل مع الآخر, أي أن الحضارة هي الأخلاق.
لنخرج من جو محاضرة الدكتور , لنقرا ما يقول نزار قباني : بأنّ هذه الدنيا بغير امرأة، كوم من الحجارة , وأن من لا يعرف العشق, فلا يمكن أن يعرف ما الحضارة , ويقول فرويد : الجموع خاملة وعديمة الذكاء, ولا بد من سيطرة الأقلية لبناء الحضارة, وتقول سعاد الصباح : فرق كبير بيننا يا سيدي, فأنا الحضارة, والطغاة ذكور, وقد أعجبني قول فرانكلين روزفلت : الكتاب هو النور الذي يرشد إلى الحضارة.

ولنختم مع نزار قباني :
يغسلني حبك من بداوتي..
يشيل عني الرمل والحجاره
يدخلني في قصره المائي كل ليلة
يدخلني في زرقة العباره..
وعندما أسأله:
من أنت يا حبيبتي؟
يرفع لي عند وجهك الستاره
ثم يقول: ها هي الحضاره..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى