مقالات كل العرب

اليمن: بين خيار المصالحة الوطنية واطماع القوى الخارجية

شارك

اليمن: بين خيار المصالحة الوطنية واطماع القوى الخارجية

د. دانييلا القرعان

إن واجبنا الديني والإنساني والوطني كعرب أشقاء لدولة اليمن الشقيق لا سيما في هذه الظروف التي يمر بها اليمن الجريح منذ أكثر من ست سنوات تجرع فيها الشعب اليمني ويلات الحرب والصراع والحصار، وفيها تعرض اليمن للدمار والخراب، وما زال يعاني ويلات الحروب والأكثر فداحة هي تلك الأرواح التي أزهقت، والدماء التي سفكت، وما زالت مستمرة بإستمرار اللامبالاة وعدم صحوة الضمير، واستشعار خطورة ما جرى وما يجري حتى اللحظة من أطراف الصراع. إن مرور عام بعد عام دون العودة الى جادة الصواب وتغليب مصلحة الشعب والوطن على غيرها من المصالح الضيقة الحزبية والمذهبية وغيرها يجعل المعاناة مستمرة وتزداد الأوضاع مأساوية.

بداية أي طريق للمصالحة لا بد أن يمر من بوابة تحديد ملامحها عبر إدارة الخلافات وترتيب البيت الداخلي اليمني، وهذا لن يتحقق إلا بعد ترجمة الملامح المتفق عليها الى مشروع قومي يقبل به الجميع دون استثناء، وهذا ما نسميه ببناء فكر أيديولوجي متكامل ومتبلور، ومخرجات سياسية، وقرارات نافذة عبر معالجة الفجوة الثقافية والسياسية بين مختلف الأطياف اليمنية، أي أن مسودة مشروع المصالحة الوطنية لابد لها أن تخدم جميع فئات الشعب اليمني القبلي والعسكري والديني والصفوة والجماهير والكبار والشباب، ثم الريفيين والحضريين.

في ظل الصراع الدائم في اليمن تبرز أهمية المصالحة الوطنية الشاملة المرتبطة بتفاهم استراتيجي مع عدد من الدول العربية، حيث أن بعض الدول العربية حاضرة في كل الصراعات التي حدثت بين الأطراف اليمنية عبر التاريخ لأسباب وخلفيات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية. إن أي مصالحة وطنية شاملة لا بد أن ترتكز على حل سياسي شامل ينهي الحرب ويوقف سفك دماء الأبرياء، ويضع حدا للمعاناة الإنسانية للشعب اليمني. إن وقف الحرب هو مفتاح أي حل سياسي، وبما أن بعض الدول العربية هي طرفا أساسيا في هذا الصراع المستعر منذ سنوات ولها وجود عسكري مباشر في اليمن من خلال التحالف العربي، إذن يمكن أن يكون لها الدور الأساسي في إيقاف الحرب العسكرية، إضافة الى ذلك يمكن أن تساهم هذه الدول في إعادة الاعمار وتسعى الى مصالحة البيت الداخلي اليمني، وتنفيذ مشاريع من شأنها التخفيف من وطأة المأساة التي خلفتها الحرب.

المهم الآن في هذه الفترة الحرجة والصعبة من تاريخ اليمن هو معالجة نتائج الصراعات السياسية والحرب المستمرة والعنف والانقسام السياسي والمجتمعي والفرز الطائفي والمناطقي والحزبي والعوامل الأخرى التي ظهرت بشكل أكبر مع استمرار الحرب وغياب سلطة الدولة الشاملة على كل التراب اليمني.

كثيرا ما تردد القوى السياسية اليمنية شعار المصالحة الوطنية التاريخية، ولكنها للأسف لم تكن صادقة لا مع نفسها ولا مع وطنها ولا مع شعبها اليمني، وإلا لما كان اليمن يعيش هذه الأوضاع الكارثية. اليوم وفي ظل هذه الأوضاع المشحونة بالتوتر تحاول المصالحة الوطنية طرح بعض الأطراف السياسية وذلك على أثر ما تم إعلانه التحالف الدولي وقف إطلاق النار من طرف واحد، وهذا الأمر كان يجب على أطراف الصراع توقعه في أي مرحلة من مراحل الحرب.

الحرب مرتبطة في المقام الأول بأهداف ومصالح دولية وإقليمية ولا علاقة لها بالمصالح اليمنية أو برغبات الشعب اليمني، إلا بمقدار ما تحقق أهدافهم ومطامعهم في اليمن، فلا القوى الدولية الراعية لهذه الحرب، ولا التحالف سيستمرون الى أجل غير مسمى.  لذلك في ظل المخاطر الخارجية الكبيرة التي باتت تهدد الكيان الوطني بالتمزق والانهيار الكامل، فإن المسؤولية الوطنية تحتم على كل أطراف الصراع التقاط الفرصة التي هيأتها الظروف الدولية قبل أن تتغير هذه الظروف، والمبادرة الى إجراء مصالحة وطنية حقيقية تجمع كل الأطراف ولا تستثني أحدا، يعمل الجميع على توفير متطلبات وشروط نجاحها بصدق وإخلاص.

تحتاج المصالحة الى تغيير عدد من المفاهيم والسلوكيات، وهي تعني في جوهرها التفاهم والتواصل بين الأطراف المختلفة والتوفيق فيما بينها، والهدف منها عودة العلاقة السياسية بين جميع الأطراف وتشجيعها على التفاهم والتسامح والعفو، مع التشديد على أهمية العيش المشترك من خلال معالجة جروح الماضي آثاره وتحقيق العدالة المطلوبة للجميع، وتجريم الطائفية والتمييز العرقي والمذهبي والمناطقي، بما يضمن التحول السليم نحو بناء الدولة المدنية المرتكزة على الثوابت الوطنية المتفق عليها من الجميع. وينبغي على كل الأطراف السياسية معالجة المظالم والانتهاكات والاخطاء الاتي ارتكبت في حق الشعب اليمني ومعالجة رواسب الماضي من استغلال السلطة ونهب المال العام والفساد في الوظيفة العامة.

هناك الكثير من المبادرات التي تُطرح من قبل العديد من الشخصيات اليمنية السياسية والفكرية والثقافية وقادة الرأي والإعلام والمجتمع المدني وغيرهم، وتلقى قبولاً ومعارضة؛ بسبب اختلاف المواقف السياسية منها، فبعض هذه المبادرات تقوم على استبعاد بعض الأطراف من المصالحة، بل من المشهد السياسي المقبل لليمن برمّته، وبعضها الآخر يطرح أفكاراً مغايرة لا تتوافق مع أهداف المصالحة الوطنية الشاملة، وإنما تؤسّس لإستمرار الصراع وهيمنة طرف معيّن على باقي المكونات السياسة والاجتماعية، بينما اليمن أحوج ما يكون اليوم إلى تحقيق مصالحة تتناسب مع واقعه وواقع شعبه، لذلك فإنّ تحقيق العدالة يكون من خلال تشكيل لجنة وطنية متوافق عليها تعمل على تحقيق العدالة الانتقالية المرتكزة على المساواة والمتجاوزة للثأر والانتقام والداعمة للعفو، والداعية إلى التسامح وجبر الضرر والتعويض العادل، وعدم ضياع حقوق من تضرّروا في السابق ومحاسبة كلّ المجرمين، من كلّ الأطراف، الذي ارتكبوا أعمالاً خلّفت أضراراً جسيمة بالوطن وبأبنائه وعقابهم وفقاً للقانون ومبدأ العدالة.

إنّ تحقيق المصالحة الوطنية يحتاج إلى إرادة صادقة من الجميع والاعتراف بحق اليمنيين جميعاً في العيش في هذا الوطن متساوين تحت سقف القانون، وإشراك جميع اليمنيين بمختلف تكويناتهم في صياغة رؤية للمستقبل، ويمكن تحقيق ذلك من خلال اعتماد تجربة الحوار الوطني ومخرجاته التي أوجدت صيغاً مقبولة في كثير من القضايا الخلافية اليمنية ـ اليمنية.

من المهم العمل لتحقيق المصالحة الوطنية والتأكيد على أهميتها اليوم وغداً وكلّ يوم، لأنّ الحرب مهما استمرت سيأتي يوم تضع فيه أوزراها ويجلس الجميع إلى طاولة واحدة، ورغم التشاؤم السائد حول نتائج الصراعات في اليمن، إلا أنه يمكن القول إنّ اليمنيين من أكثر الشعوب تسامحاً وقدرة على العفو والتعايش إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك. إنها مسؤولية وطنية كبرى تتحمّلها جميع الأحزاب السياسة والمكونات المختلفة وقادة الرأي والإعلام والمجتمع المدني، وعلى هؤلاء الترفُّع عن مصالحهم الشخصية الضيقة والتفكير في المصلحة الوطنية لجميع اليمنيين.

الأزمة اليمنية في صورتها الحالية الخشنة وهي الحرب تكمن أسبابها في أن الدولة صارت محل نزاع من كافة القوى السياسية والاجتماعية بل كانت الدولة أداة من أدوات الصراع أي انها ليست محايدة أو أداة فصل واحتكام للصراعات السياسية والاجتماعية. لا يمكن تجاهل التدخل الخارجي في اليمن وأثره في كل ما يحدث الآن ولا نستطيع إنكاره وإنكار دوره السلبي في جعل الأطراف اليمنية وكلاء لمصالح خارجية أو أدوات ارتهان لأطراف إقليمية أو دولية.

من الضروري أن نربط الأسباب بمسبباتها فما يجري الآن هو ناتج من انقلاب المليشيات الحوثية على المرحلة الانتقالية بعيد انتخاب هادي رئيسا خلفا للراحل صالح بموجب المبادرة الخليجية. سيطرت هذه المليشيات على مؤسسات الدولة بقوة السلاح ومزقت النسيج الاجتماعي وهيأت المناخ لصراع طائفي مذهبي عبر تبنيها النسخة الإيرانية الخمينية، مما فتح الباب للتدخل العربي ممثلا بالتحالف العربي الأمر الذي جعل اليمن مسرحا للاعبين إقليميين ودوليين وحرف بوصلة النزاع، من نزاع داخلي يمني محض، لنزاع خارجي أصبح فيه اليمن واليمنيون مجرد أحجار في رقعة شطرنج. بإنقلاب المليشيات الحوثية وتدميرها لمؤسسات الدولة وجعل اليمن ومستقبل اليمنيين مرهون بتحقيق مطامع إيران ومصالحها في المنطقة، مع استمرار صراعها مع دول الخليج مقدار ما أحدثته هذه المليشيات من تدمير لليمن وجلب التدخلات الخارجية لا يمكن ترميمه على المدى القريب والمتوسط. ترفض هذه المليشيات أي دعوة للسلام وتصر على فرض رؤيتها للحرب وتنافح من أجل تطويع اليمنيين لمشروعها المتماهي مع المشروع الإيراني في المنطقة أسوة بما تعمله إيران في سوريا والعراق.

شنت انقلابها بحجة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني وهي التي انقلبت عليه وعلى كل التوافقات اليمنية نقضت أكثر من سبعين اتفاق وفي كل محطة حوار معها تستريح قليلا لتعاود الالتفاف على كل حوار أو تفاوض، لتدخل اليمن في أزمات متكررة ومتلاحقة ليستمر بقائها معطلة أي محاولة للخروج من عنق الزجاجة. أي حديث عن حل سياسي أو مصالحة وطنية دون أن نضع النقاط على الحروف بإسقاط الانقلاب ونزع سلاح المليشيات الانقلابية الحوثية فهو محض هراء لا أقل ولا أكثر.

أطماع القوى الخارجية وانظارها الى اليمن “إنَّ عبقرية الجغرافيا” عادةً ما تكون ذا نفع وفائدة لسُكانها ومواطنيها، لكن في بعض الأمكنة، وربما الأزمنة، قد تكون مصدر قلق لسكانها ومرتاديها، ومصدر أطماع وشهوة للطامعين في التوسع والتوغل، وحتى الاحتلال. واليمن كان، ولا يزال، واحداً من تلك الأوطان في العالم، والتي اشرأبّت نحوها العديد من عيون القادة الطامعين في العالم على مدار حركة التاريخ المكتوب، وألهبت مشاعرهم وطموحاتهم ونرجسيّتهم، لكي يتمدّدوا على تلك الشواطئ الدافئة، ويستمتعوا بتوابلها وعِطرها ولبانها ومساحيق أدويتها في غابر الزمان.

أمَّا هندسة تضاريسها الجغرافية وموقعها الجيوستراتيجي، فهي الأُخرى خاصية ثابتة في إغراء الأعداء لغزو اليمن، وسردية التاريخ عامرة بمغامرات هؤلاء الغُزاة، بدءاً بطلائع جنود الإسكندر الأكبر، ومروراً بالعديد من المحتلين الأوروبيين والآسيويين والأفارقة، وليس انتهاءً بالغدر والعدوان الأَعْرَابي الذي سام اليمن عذاباً وقتلاً وحصاراً من أقصاه إلى أقصاه، بأسلحته الفتاكة المستوردة حديثاً من واشنطن وباريس ولندن ومدريد وبرلين وأوتاوا، وحتى روما. هؤلاء وبقيَّة الغرب الرأسمالي المتوحش هُم من يُغذون الماكينة العسكرية العدوانية تجاه اليمن.

إنَّ جغرافية اليمن الجاذبة، وجزره المتناثرة المهمة، وعُمقه التراثي، وخيراته الوفيرة، هي أسباب منطقية لجلب الأعداء إليه، لكن وعلى مدار التاريخ، كان العامل الداخلي وتفكّك القوى الداخلية في اليمن من بين الأسباب التي سهَّلت دخول المُحتل، والشواهد عديدة في تلك السردية المُحزنة على اليمنيين جميعاً.

كلّ هذه العوامل والعناصر والمميّزات سهَّلت العديد من المشاريع للقوى الخارجية الدولية والإقليمية التي تتنازع النفوذ في المنطقة، وخصوصاً في اليمن السعيد.

 

أكاديمية وباحثة أردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى