مقالات كل العرب

أسطورة الصمغ العربي في السودان

شارك

أسطورة الصمغ العربي في السودان

أ. المعز محمد الحسن

الأشياء ليست كما تبدو عليه…
بصورة عامة يتم تضخيم موضوع الصمغ العربي في السودان ودوره الاحتمالي في الاقتصاد بصورة أكبر من اللازم. صحيح أن الصمغ العربي سلعة مهمة جداً لكثير من الصناعات الغذائية والدوائية وايضاً التجميلية. وصحيح أن السودان هو أكبر منتج للصمغ العربي في العالم، بالإضافة إلى أن الصمغ العربي المنتج في السودان هو الأعلى جودة، لأسباب متعلقة بالظروف المناخية في السودان. لكن ذلك يبقى نصف الحقيقة. فهناك جوانب أخرى لابد من أخذها في الاعتبار، حتى نضع الصمغ العربي في مكانته الحقيقية وأيضاً من أجل الاستفادة من هذه السلعة بصورة مثلى.
داخلياً يعتبر الصمغ العربي من السلع بالغة الأهمية في الاقتصاد السوداني. ويقدر عدد الأفراد الذين يعتمدون عليه كمورد اقتصادي بحوالي خمسة ملايين شخص. ويشمل ذلك، علاوة على الصمغ، الفحم المنتج من أشجار الهشاب والطلح. ويتميز الصمغ العربي بالارتباط الشديد بين سوق الصادر والسوق المحلي لأن صادر الصمغ هو العامل الرئيسي المؤثر في معادلة العرض والطلب في السوق الداخلي، وبالتالي في تحديد الأسعار. والسبب في ذلك يعود إلى أن استخدامات الصمغ العربي محلياً محدودة للغاية وأكثر من 95% من الانتاج المتداول في السوق يخصص للتصدير. توقف الصادر، لأي سبب من الأسباب، سيؤدي حتماً لانهيار الأسعار في السوق المحلي، خلافاً لسلع الصادر الأخرى كالفول السوداني مثلاً. في العام 2022 قدر إنتاج السودان من الفول ب 2,6 مليون طن، صدر منها حوالي 419 ألف طن، تعادل 16 % من انتاج السودان، بينما تم استهلاك 84 % من الإنتاج محلياً.
وكمصدر للعملات الصعبة، يحتل الصمغ العربي المرتبة الأخيرة من بين السلع الست الأهم في قائمة صادرات السودان، التي تمثل 71% من دخل الصادرات. حسب بيانات التجارة الخارجية لبنك السودان المركزي خلال فترة عشر سنوات، من 2013 إلى 2022، بلغ إجمالي قيمة صادرات السودان ما يزيد قليلاً عن 40 مليار دولار. كان إسهام السلع الست كالآتي: في المرتبة الأولى الذهب بقيمة 12,5 مليار دولار (31%)؛ في المرتبة الثانية الحيوانات الحية بقيمة 6,4 مليار دولار (16%)؛ في المرتبة الثالثة السمسم بقيمة 5,3 مليار (13%)؛ في المرتبة الرابعة الفول السوداني بقيمة 1،6 مليار دولار (4%)؛ في المرتبة الخامسة القطن بقيمة 1,4 مليار دولار (3%)؛ وفي المرتبة السادسة الصمغ بقيمة 1,1 مليار (2%).
ولكن ماذا عن السوق الاحتمالي للصمغ العربي عالمياً؟ بمعنى آخر ما هي فرص زيادة الإنتاج والمبيعات استناداً على حجم الطلب الحالي وتوقعات نموه مستقبلاً؟ على الرغم من أهمية الصمغ العربي الكبيرة كمدخل من مدخلات الإنتاج للعديد من الصناعات، إلا أن الطلب عليه ينمو ببطء وذلك لأنه سلعة متخصصة والطلب عليها مرتبط بالتوسع في الصناعات التي يستخدم فيها كمضاف. وهذا النوع من السوق يسمى بالسوق المستقر أي أن حجم المعروض فيه يماثل أو يقترب من حجم الطلب. ومن واقع الكميات المصدرة خلال فترة العشر سنوات المذكورة، سنجد أن صادرات السودان من الصمغ العربي بلغت في المتوسط 79 ألف طن سنوياً، بمتوسط قيمة تبلغ 113 مليون دولار سنوياً. في ذات الوقت لا يزيد حجم الصادرات العالمية من الصمغ عن 300 مليون دولار. بمعنى آخر حتى لو توسع السودان في الإنتاج وسيطر على السوق العالمي فإن دخله الكلي من الصمغ العربي لن يتجاوز 300 مليون دولار. وحتى ذلك صعب تحقيقه عملياً لوجود منافسين آخرين. بينما هناك سلع آخري يمكن أن توفر للسودان فرصاً أكبر بكثير من الصمغ العربي. السمسم مثلاً، وهو ثالث أهم سلعة من سلع الصادر، يبلغ متوسط عائده ما يزيد عن 500 مليون دولار سنوياً، أي أكثر من أربعة أضعاف ما يجنيه السودان من الصمغ العربي. ففي عام 2023 بلغت قيمة الصادرات العالمية من السمسم 3 مليار دولار، بزيادة أكثر من 400 مليون دولار عن حجم الصادرات في 2022. عليه، يعتبر السمسم (سلعة ذهبية) بالنسبة للسودان تتوفر فيها ثلاث ميزات مهمة: سوق عالمي كبير من حيث الحجم، وطلب متزايد بمعدل سريع، بالإضافة لامتلاك السودان ميزة تفضيلية في إنتاجها من حيث توفر الظروف المناخية الملائمة، التي تسمح بإنتاج أفضل الأنواع من حيث الجودة. والمعروف أن السمسم الأبيض المنتج في القضارف يعتبر من أجود أنواع السمسم عالمياً. والسودان يمكن أن يضاعف إنتاجه من السمسم بسهولة، رغم أنه يعتبر حالياً من ضمن أكبر ثلاث دول منتجة للسمسم في العالم. بل كان السودان في عام 2022 الأعلى إنتاجاً في العالم بفارق كبير من الهند التي جاءت في المرتبة الثانية، حيث بلغ انتاج السودان حوالي 1,2 مليون طن (17% من مجمل الإنتاج العالمي)، وبلغ إنتاج الهند 800 ألف طن. نفس الأمر ينطبق على الفول السوداني الذي يعد السودان من ضمن أكبر خمسة منتجين له في العالم، حيث بلغ متوسط صادراته السنوية من هذه السلعة 165 مليون دولار. ووصل مجمل الصادرات العالمية 4 بليون دولار في 2023 بزيادة أكثر من 500 مليون دولار عن 2022. الخلاصة أنه يمكن للسودان أن يضاعف انتاج هاذين المحصولين بأقل التكاليف، في ظل طلب عالمي كبير وسريع النمو، يمكن أن يستوعب أية زيادة في العرض بسهولة.
ومع ذلك يظل الصمغ العربي سلعة ذات مكانة خاصة لدى السودانيين، فهو بطاقة تحمل اسم السودان ورمز ارتبط بهذا البلد الذي يستأثر بأكثر من 60% من إنتاجه العالمي. كما يعتبر صمغ الهشاب السوداني الصنف الذهبي للصمغ عالمياً.
يعتقد الكثير من السودانيين أن فاقد مكسب السودان من الصمغ العربي كبير بسبب تصديره كسلعة خام بأسعار منخفضة، مقارنة بالصمغ المصنع. وهذه حقيقة، فسعر طن صادر الصمغ الخام يتراوح بين 2 و3 ألف دولار، بينما قد يصل سعر طن الصمغ المصنع إلى 10 ألف دولار. لكن الانتقال من مرحلة انتاج الخام إلى مرحلة التصنيع، طريق طويل، في الواقع، بالنسبة للسودان. ويتطلب قدرة تنافسية عالية تستلزم امتلاك تكنلوجيا معقدة، وليست متاحة بشكل كبير. كما ان عدم الاستقرار السياسي يشكل عقبة إضافية للسودان في هذا الخصوص. فالشركات العالمية الكبيرة المستخدمة لمشتقات الصمغ العربي، مثل شركات المشروبات الغازية وشركات الأدوية، تحرص على ضمان إمداد مستقر من هذه السلعة المهمة جداً بالنسبة لها. لذلك تفضل التزود من شركات مصنعة في أوروبا أو أمريكا بأسعار عالية على أن تعرض نفسها لمخاطر تذبذب الإمداد، في حالة التزود من شركات تقع في مناطق تعاني من الاضطرابات السياسية والأمنية. وحالياً تشعر الشركات العالمية المصنعة للصمغ العربي وعملاؤها من شركات المنتجات الغذائية والطبية بالقلق المتزايد من تأثير استمرار حرب السودان على إمدادات الصمغ العربي.
وقد تسبب إعلان المجلس الأعلى لنظارات البجة إغلاق ميناء بورتسودان والطريق البري المؤدي للميناء، في عام 2021، في أضرار كبيرة في قطاع الموانئ والنقل البحري في السودان امتد أثرها للسنوات التالية. منها أن كبرى شركات النقل البحري توقفت عن تسيير رحلاتها لميناء بورتسودان بسبب فترات الانتظار الطويلة للسفن في الميناء، التي قد تصل لأكثر من شهر مع ما يترتب عليها من تكلفة إضافية كبيرة. وحتى الشركات التي لم تتوقف ضاعفت أسعار النقل للسودان، حيث ارتفع سعر نقل الحاوية من الصين للسودان من حوالى 3 ألف دولار لأكثر من 13 ألف دولار. وأدى ذلك الوضع لحدوث اختناق في حركة الصادر بسبب عدم توفر الحاويات. فالصادر يشحن في نفس الحاويات التي تجلب بضائع الوارد. وتراكمت بسبب ذلك كميات كبيرة من الصمغ العربي المعد للتصدير في مخازن المصدرين السودانيين وفي ميناء بورتسودان مما دفع إحدى الشركات الأوروبية لحل مكلف حيث قامت باستئجار سفينة خاصة من نوع (Bulk carrier) تحتوي على عنابر تشحن فيها البضائعK دون الحاجة لحاويات، لتضمن استمرارية الإنتاج بمصانعها وتنفيذ التزاماتها تجاه الشركات المتعاقدة معها.
العقبة الأخرى هي تكنولوجيا التصنيع. معروف أن مصانع معالجة الصمغ العربي في السودان تقوم فقط بطحن الصمغ العربي وتصديره كبودرة. هذا النوع من البودرة يسمى بـ(البودرة الميكانيكية) وانتاجها لا يحتاج لتكنلوجيا معقدة، فقط مطاحن بموصفات خاصة. الشركات التي تعتمد على الصمغ العربي كمضاف لمنتجاتها تستخدم نوعاً آخر من البودرة يسمى بـ(البودرة الرذاذية)، وهي تنتج بنفس التقنية المستخدمة في تصنيع بوردة الحليب. تعتمد هذه التقنية على طحن الصمغ ثم إذابته في الماء وتصفيته من الشوائب، ثم تعقيمه عبر البسترة بتسخينه لدرجة حرارة عالية لكن لفترة قصيرة حتى لا يفقد خصائصه الكيميائية. ثم رش السائل في شكل قطرات رذاذية عبر هواء ساخن في أبراج التجفيف ليتحول لبودرة مشابهة لبودرة الحليب. لكن الفارق التكنلوجي لا يكمن في هذه العملية، بل في التحكم في مراحلها المختلفة. بالإضافة إلى عمليات كيميائية أخرى من أجل إنتاج أنواع مختلفة في خصائصها الكيميائية والفيزيائية لتناسب الاستخدامات المتعددة للمنتج. فالصمغ المستخدم كمادة رابطة لتصنيع الأقراص الدوائية يختلف في خصائصه عن الصمغ المستخدم كمحسن في المشروبات الغازية وعن النوع المستخدم في الصناعات التجميلية. إن التحكم الدقيق في هذه الخصائص يحتاج لتكنولوجيا متخصصة تمتلكها شركات قليلة قامت بتطويرها عبر خبرة طويلة من العمل في تصنيع الصمغ، يصل بعضها لأكثر من قرن وعبر البحث العلمي المستمر حتى يومنا هذا. بعض هذه الشركات لديها شراكات مع جامعات وتقوم بتمويل أبحاث مشتركة متعلقة بتطوير تصنيع الصمغ العربي. بالإضافة لأنها تحرص على الاحتفاظ ببعض دقائق التكنولوجيا المستخدمة كأسرار تصنيعية لدرجة أنها لا تسمح بزيارة معاملها إلا بترتيبات معينة. وفي السودان أنشأت شركة دال في 2017 مصنعاً لإنتاج البودرة الرذاذية، بطاقة إنتاجية تبلغ حوالي خمسة ألف طن في العام، يمكن أن يكون بداية لتطوير هذه التكنلوجيا في السودان. وقبل سنوات شرعت إحدى كبرى الشركات الفرنسية في إقامة وحدة لتصنيع البدرة الرذاذية في السودان، لكنها تخلت عن المشروع بعد أن استطلعت عملاءها في الولايات المتحدة الذين رفضوا أن يتم تزويدهم من مصنع في السودان. ولم يكن الرفض بسبب موقف سياسي، وإنما لأسباب متعلقة باستقرار الإمداد.

لماذا لا يستطيع السودان وقف تصدير الصمغ العربي للولايات المتحدة؟
على الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكبر مستهلك للصمغ العربي في العالم، وقد تكون أكبر مستهلك للصمغ العربي السوداني ايضاً، إلا أن وارداتها من هذه السلعة لا تأتي من السودان مباشرة. فصادرات السودان من الصمغ العربي للولايات المتحدة بلغت في المتوسط 11% من الكميات المصدرة خلال الفترة من 2013 إلى 2022، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد فرنسا التي استوردت 49% من هذه الكميات، واحتلت الهند المرتبة الثالثة بنسبة 9%. وإذا اضفنا لفرنسا بقية صادراتنا للدول الأوروبية الأخرى، وأهمها بعد فرنسا ألمانيا، تليها بريطانيا، يصبح مجموع ما تستورده أوروبا حوالي 69% من الصمغ السوداني.
في عام 1997 فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على السودان تشمل منع استيراد السلع السودانية وتصدير السلع الأمريكية للسودان. على الفور قامت الشركات المستخدمة للصمغ العربي بتشكيل لوبي للضغط على الحكومة الأمريكية من أجل استثناء الصمغ العربي. وبالفعل أصدر الرئيس الأمريكي في العام التالي أمراً يقضي باستثناء الصمغ العربي من الحظر. وفي 2007 حاولت مجموعة من النواب المتشددين سن قانون يبطل هذا الاستثناء إلا أنه لم يمر وظل هذا الاستثناء سارياً حتى يومنا هذا، مما يجعل واردات الصمغ العربي مستثناة تلقائياً من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة ضد السودان في مايو الماضي.
مؤخراً، أطلق بعض السودانيين دعوة على مواقع التواصل الاجتماعي تطالب الحكومة بمنع تصدير الصمغ العربي للولايات المتحدة وللغرب عموماً رداً على العقوبات الأمريكية. كما أوردت عدة مواقع سودانية دعوة مماثلة من مسؤول سابق كبير في الوكالة الوطنية لتمويل وتأمين الصادرات الوطنية التابعة لبنك السودان. و بالرغم من أن الدعوة منطقية ومبررة من باب المعاملة بالمثل، لكن عملياً من الصعب وقف تدفق الصمغ العربي لخارج السودان. وأي قرار من هذا القبيل يمكن أن يتسبب في أضرار بالغة لمنتجي الصمغ العربي من المزارعين، بسبب خروج الشركات المصدرة من السوق واضطرار هؤلاء المنتجين لبيع إنتاجهم بأسعار قليلة للمهربين والمضاربين في السوق. وفي النهاية لن يحقق القرار الهدف منه، وسيستمر تصدير الصمغ العربي وتهريبه عبر الحدود. وقد شهدنا ذلك عندما منعت مليشيا الدعم السريع نقل المنتجات الزراعية، ومنها الصمغ العربي، إلى مناطق سيطرة الجيش، مما أدى إلى زيادة حركة تهريب الصمغ عبر تشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وحتى عبر ليبيا في بعض الأحيان.
وللسودان تجربة مماثلة في هذا الصدد عندما أصدر مجلس الصمغ العربي في 2020 قراراً بوقف تصدير الصمغ الخام، لتشجيع تصدير منتج بقيمة مضافة، وبالتالي زيادة الدخل من الصادر. وللحقيقة، فإن اقصى قيمة تصنيعية يمكن إضافتها للصمغ في السودان هي طحنه وتصديره كبودرة. ونسبة لقلة عدد الشركات التي كانت تمتلك مطاحن للصمغ، التي تعد بأصابع اليد، أدى هذا القرار لخروج عدد كبير من مصدري الخام واقتصار تصدير الصمغ على أصحاب المطاحن. ونتج عن ذلك انخفاض كبير في أسعار الصمغ في السوق المحلي لمحدودية المشترين. كما تضرر منتجو الصمغ بشكل كبير لدرجة أجبرت الحكومة على إلغاء القرار. وأذكر أنني حضرت اجتماعاً نظمه بنك التنمية الأفريقي عن تطوير إنتاج الصمغ العربي شارك فيه خبير هولندي في مجال الغابات من منظمة الفاو. قال ذلك الخبير معلقاً على ما حدث لمنتجي الصمغ العربي نتيجة للقرار الحكومي: “إذا كنت لا تعرف ما سيحدث، فلا تعبث بالسوق:
“If you don’t know what is going to happen, don’t mess with the market”.
وتلك، لعمري، حكمة مهمة للغاية، حيث من المفترض أن تتم دراسة هذا النوع من فالقرارات بشكل عميق، لأنها تؤدي إلى سلسلة من النتائج المركبة والمتتابعة. وفي نفس العام أصدرت وزارة الصناعة قراراً بمنع تصدير خام الفول لمدة ثمانية شهور. وتسبب القرار في حدوث اضطرابات كبيرة في السوق المحلي وظهور مضاربين حاولوا الاستفادة من انخفاض الأسعار لشراء وتخزين الفول، واستفاد من القرار ايضاً بعض منافسي السودان في الأسوق العالمية. بعد ثمانية أشهر أعلنت وزارة الصناعة إلغاء القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى