ظلّ الجسر
(قصة قصيرة)
أ. سيد كاظم القريشي
كانت الشمس تميل نحو المغيب حين توقّفت ليلى عند نافذة غرفتها، تطلّ على جسر فولاذ الممتدّ فوق نهر كارون. الزوارق الصغيرة تتهادى في الماء، ورائحة الطين تذكرها بطفولتها على ضفاف النهر، حين كانت أمها تغسل ثياب إخوتها وهي تردّد تراتيل مندائية عن النقاء. شدّت طرف شالها الأسود حول كتفيها، كأنها تتشبّث بشيء لم يبق منه سوى الظلّ.
أمسكت الهاتف، قلبها يخفق. منذ أسبوع جاءها خبر أن أمها بلغت أرذل العمر وأن الموت يلوّح لها. “لو لم أذهب الآن، فلن أراها أبدًا.” قالتها في سرّها، ثم انهمرت الدموع كأنها تُغسل من الداخل.
دخل زوجها حيدر، شعره اكتسى بخيوط بيضاء مثلها، وسأل بصوت متهدّج:
– تفكّرين بها، أليس كذلك؟
أومأت، ولم تجب.
اقترب منها، وضع يده على كتفها، وقال:
– مرّت أربعون سنة يا ليلى، وهم لم يفتحوا لكِ بابًا. هل تظنّين أن اللقاء الآن سيعيد ما انكسر؟
نظرت إليه بعينين غارقتين في الحيرة:
– لا أريد أن يعيد شيئًا، أريد فقط أن أسمع صوتها قبل أن تصمت في الأرض.
أدار وجهه عنها، كأنه يخشى انكسارها أمامه. كان يعرف أنّ تلك الفتاة التي تزوجها قبل عقود دفعت أثقل الأثمان: تركت أهلها وعقيدتها، عانقت الإسلام عن حبّ، وهربت معه من بيتها قرب سوق العرب، يوم كانت في العشرين ووجهها يفيض بالنور.
كانت ليلة شتاء حين التقاها أوّل مرة في مكتبة بين الملل بالأهواز، تبحث عن كتاب عن الأديان. كان شابًا وسيما، يدرس الهندسة، يحلم بعالمٍ أكثر رحابة. تبادلا نظرات قصيرة، ثم حوارًا عابرًا صار نهرًا من الكلمات. كانت تلمس في صوته دفء الأمان، وكان يرى في عينيها بحيرة من حزن خفيّ.
– هل تخافين من الحبّ؟
ضحكت يومها:
– أخاف من النار أكثر… نحن لا نؤمن بالنار، بل بالنقاء والماء.
قال:
– وأنا أؤمن أن الحب ماء أيضًا، فلماذا لا نغتسل به معًا؟
ومن تلك الليلة بدأ كل شيء. عرفت أن الطريق الذي تسير فيه لن يعيدها إلى البيت أبدًا. وحين وضعت الشهادة على شفتيها، كانت تسمع صرخة أمّها في أعماقها: “ستُطفئين نورنا يا ليلى!” لكنها مضت، بقلبٍ يرتجف بين اللهفتين: حبّها للرجل، وخوفها من قطيعة الأبد.
انتقلت معه إلى بيت صغير في حيّ گلستان. تزوّجا في حفل بسيط بلا أهلها، بلا أغاني مندائية، بلا تمائم الفضة التي كانت تحبها. عاشت سنواتها الأولى بشغف، ثم أنجبت سارة، التي ملأت البيت بضحكتها. كانت تظنّ أن الأمومة ستداوي جرح الفقد، لكن الأمومة نفسها حملت إليها أشدّ الخسارات:
في عامها الثاني عشر، أصيبت سارة بمرض عضال. عشر سنوات من العلاج، من الرجاء والخوف، ثم رحلت تاركة وراءها غرفة فارغة وصورتين على الجدار.
يوم الدفن، تذكّرت ليلى وجه أمها. تمنت لو كانت هناك، لتضع يدها على كتفها، لتقول لها: “ألم أقل لك؟ العالم قاسٍ يا ابنتي.”
جلست ليلى قرب النافذة، قلبها معلّق بين الأم التي تحتضر على الضفة الأخرى، والزوج الذي بقي سندها رغم العواصف. نظرت إليه، وقالت بحزمٍ حزين:
– سأذهب غدًا.
رفع رأسه ببطء:
– وإن رفضوا؟
– سأحاول… سوف التمسهم… سأقبل بكل التصرفات.. يكفيني أن ألمح عينيها قبل أن تغمضهما.
لم ينم أحد تلك الليلة. عند الصباح، ارتدت عباءتها، وضعت صورة سارة في حقيبتها، كأنها تحمل موتًا على موت. في الطريق إلى بيت الطفولة، كان قلبها يركض أسرع من السيارة. كل نخلة على جانبي الطريق بدت لها شاهدة على حياتين: حياة مضت في مياه التعميد، وأخرى في ظلال المآذن.
وقفت أمام الباب الأزرق القديم. لا زال هو هو كما طائفتها عبر التاريخ. لم يتغير شيء. رفعت يدها لتطرق، لكن الأصوات من الداخل جعلتها تتجمّد: صلوات مندائية تُتلى، وبكاء خافت. عرفت أن أمها هناك، ربما على فراشها الأخير. دفعت الباب برفق، دخلت، فتوقفت الأنفاس. وجوه الأقارب تحدّق فيها كأنها عائدة من قبر. اصبحت الدهشة سيدة الموقف ثم تعالت الهمهمات وباتت هرجاّ
صرخ أخوها الأكبر:
– ماذا تريدين بعد كل هذه السنين؟
لم تجب. تقدّمت بخطوات مرتجفة حتى وصلت إلى السرير. كانت أمها كظلّ هشّ، عيناها نصف مغمضتين. جلست قربها، أمسكت يدها الباردة، وهمست:
– أمّي… أنا ليلى. جئت قبل أن ترحلي.
لم تتحرّك الشفاه، لكن دمعة وحيدة انحدرت على خدّ الأم، كأنها غسلت كل القطيعة.
في الخارج، علت أصوات الغضب، لكن ليلى لم تسمع سوى أنفاس أمها التي تنطفئ ببطء. وضعت رأسها على صدرها، وشعرت أنّ العمر كلّه يعود في لحظة. قالت لها بصوت متهدّج:
– سامحيني… أنا التي ذهبت، لكن قلبي بقي هنا دائمًا.
وحين أسلمت الأم روحها، بقيت ليلى جالسة، ساكنة، كمن فقد العالم للمرة الثانية. أدركت أنّ كل الدروب التي مشت فيها، مهما ابتعدت، كانت تؤدي إلى هذا السرير، إلى هذه اللحظة التي تأخّرت أربعين عامًا.
خرجت تحت سماء الأهواز الرمادية، وكارون يجري بلا اكتراث، يحمل مياهًا مرّت من جسور كثيرة، تمامًا كما حملت حياتها حبًّا وفقدًا، ذنبًا وغفرانًا. رفعت عينيها نحو النهر، وقالت في سرّها:
“كلنا نعود يومًا إلى الماء… حتى وإن شربنا من أنهار مختلفة.”