أمريكا و العرب..

أميركا والعرب..
د. عبدالناصر سكرية
حينما تم إغتصاب فلسطين وتأسيس دولة الكيان الصهيوني فيها لم تكن امريكا تحتل صدارة العالم.تسلمتها بعد إنهيار الأمبراطورية البريطانية وأخذت عنها الرعاية التامة للكيان الغاصب..
لم يتم إغتصاب فلسطين دفعة واحدة بل ظلت التحضيرات له مستمرة طيلة نصف قرن على الأقل حتى نكبة 1948 وبعدها إستمر التبني الغربي – الأستعماري لدولة الصهاينة والتواطؤ الدولي معها فكانت نكسة 1967 وما نتج عنها من توسيع رقعة الكيان فكان أن ظهرت ثورات عربية في عدة أقطار كرد على إغتصاب فلسطين..
كانت صدمة القطاعات الشعبية العربية بالنكبة كبيرة جدا..وبعد أن شاركت قوات شعبية عربية متفرقة في حرب 48 ، كانت المفاجأة أن قيادة الجيوش الرسمية كانت بيد الإنجليز أنفسهم رعاة إغتصاب فلسطين..كانت ثورات مصر والجزائر واليمن والعراق ولبنان مقدمة لتنامي فعالية التيار القومي العربي بما يتضمنه من كلام عن تحرير فلسطين وكل أرض عربية محتلة..كان هذا إلتزاما عقائديا بحكم البعد الوحدوي للفكر القومي..
وكان من أبرز نتاجات تلك الفعالية ؛ بروز الحركة الشعبية العربية كقوة فاعلة مؤثرة مقررة متجاوزة حدود سايكس بيكو الإقليمية ومنتصرة على النفوذ الأجنبي ذاته وعلى أدواته المتعددة في المنطقة.سواء تلك الحاكمة أو النخبوية والحزبية والفئوية..
لم تستطع كل تلك القوى وقف تنامي الفعالية الشعبية وفقا لمنطلقاتها القومية المصيرية الواحدة..
فما كان من قوى النفوذ الغربي إلا أن غيرت أساليبها وبرامج عملها الإستراتيجية محتفظة بأهدافها المعروفة بالسيطرة على الوطن العربي وتوسيع دولة الصهاينة جغرافيا وسياسيا وسياديا..
كان العدو الأخطر في تلك المرحلة هو تلك الحركة الشعبية الهادرة من محيط العرب إلى خليجهم حتى بات القضاء عليها هو الهدف الإستراتيجي الذي يتفوق أهمية على كل ما عداه ؛ توافقت في هذا كل قوى النفوذ الأجنبي الأقليمية والدولية..فكانت إستراتيجياتهم الجديدة للقضاء على الحركة الشعبية تعتمد عدة محاور ; أبرزها تمثل فيما يلي :
1 – تفكيك تلك الرابطة التي تشكل لحمة الحركة الشعبية ومحركها وباعثها على التمرد والثورة..أي رابطة الإنتماء القومي والهوية العربية الجامعة..
إعتمدت في هذا على تشويه وتسفيه كل الأسس الفكرية والتاريخية والإجتماعية التي تقوم عليها الرابطة القومية..فكانت الحرب الإستعمارية العالمية الشاملة ضد ركيزتي الهوية القومية أي :
# العروبة والإسلام ..
بدءا من إصطناع تناقض مزعوم بين العروبة والإسلام مرورا بتصنيع أدوات محلية تتحدث لغة العرب وتعطي مضمونا مغايرا لكل منهما يساعد في بلورة المفهوم الإستعماري وما يحمله من أهداف تفكيكية ودعوات إنفصالية وتقسيمية ؛ وصولا حتى تأسيس ميليشيات مسلحة لكل دعوة تفكيكية حتى تتمكن من إمتلاك فعالية الإستقطاب والتأثير وخطر التهديد والوعيد..
كانت هذه الخطوة – أي تأسيس ميليشيات مسلحة للدعوات التقسيمية – هي المرحلة العملانية قبل الأخيرة في الحرب على الوجود القومي للأمة العربية..سبقها تشجيع قيام دعوات دينية ، طائفية ومذهبية ؛ عرقية وشعوبية ودعمها وتوفير ما يساعدها على التبلور وإمتلاك الأدوات التنظيمية والمؤسسات الفاعلة..( المرحلة الأخيرة يفترض أن تكون حروبا أهلية بين العرب أنفسهم ..).
2 – كان المحور الثاني يتمثل في محاربة أدوات الحركة الشعبية القومية ومحاصرتها وتشويه سمعتها ومساراتها ورموزها وقياداتها..وقد إستخدمت قوى النفوذ الأجنبي في هذه الحرب كل وسائل الحصار والضغط والإغراء والإبتزاز والتشويه..فكانت الضغوط العالمية التي شاركت فيها حتى بعض قوى اليسار العالمي – فضلا عن القوى الإستعمارية الغربية وكل قوة النفوذ الصهيوني من أجل تفكيك الأحزاب والتنظيمات التي تعبر عن رؤية قومية منطلقة من إلتزام عقائدي بالهوية العربية..( على سبيل المثال مارست دول الإتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية العالمية ضغوطا متواصلة على تنظيم ” حركة القوميين العرب ” حتى تتخلى عن فكرها القومي وتبني الفكر الماركسي وهذا ما تم وأدى إلى تشرذم تلك الحركة وظهور حركات سياسية رافضة للرابطة القومية )..كذلك ما حصل من تآمر على البعث في سورية أدى إلى تفريغه من مضمونه القومي ؛ وما حل بالحركات الناصرية المختلفة..
3 – المحور الثالث وهو الذي تستمر مفاعيله الخطيرة حتى اليوم تمثل في تأسيس أحزاب وتنظيمات دينية ترفع شعارات الإسلام فيما تتبنى موقفا عقائديا معاديا للرابطة القومية..
وسواء كانت قوى النفوذ الأجنبي هي الراعي الأساسي لتأسيس هذه التشكيلات الدينية أو أنها فقط سهلت قيامها وأفسحت المجال لبروزها وإمتلاكها الكثير من الإمكانيات ووسائل التأثير ؛ فقد كانت تحتاجها لفك عرى الرابطة القومية ؛ على الرغم مما ترفعه تلك التكوينات من شعارات وأحيانا مواقف وممارسات معادية للغرب الإستعماري..كان الهدف الأهم بالنسبة لهذا الغرب هو تفكيك الرابطة القومية وبعدها يتم التعامل مع التكوينات الدينية حسب كل حالة..المهم أنه – أي الغرب – نجح في إستخدام تلك الدعوات وتوظيفها لمواجهة صعود الحركة الشعبية العربية أولا ثم لتفكيك الرابطة القومية ثانيا ثم لخوض حروب تكفيرية – تقسيمية ثالثا..
4 – تمثل المحور الرابع في تأسيس ميليشيات مسلحة تتبنى تلك الدعوات الدينية المعادية للهوية القومية وتستطيع تحويلها إلى حركة فعل ميداني يهدد ويبدد ؛ يمنح ويمنع ويثير الذعر والقلق ويبعد الناس عن المفاهيم والدعوات والمؤسسات الوطنية – القومية المتمسكة برابطة الهوية العربية فوق أية إنتماءات طائفية وعرقية ومذهبية..
5 – إستقطاب أعداد كبيرة من النخب الثقافية والأكاديمية لتتولى الهجوم على الفكر القومي وتسفيهه وتحميله مسؤولية ما يصيب الأمة من ضعف وتشرذم وتبعية..وإشغال الفكر العربي بتبرير الماضي حتى لا ينشغل بمعالجة مشكلات الواقع ومتطلبات بناء المستقبل..ومن جهة ثانية تفريغ الإسلام من مضمونه الثوري الأيجابي وتحويله ألى مظاهر وشكليات وسلوكيات سلفية متزمتة منفرة ؛ وذلك على أيدي ” رجال دين ” من صنعهم أو في رعايتهم أو رعاية انظمة الإقليمية المرتهنة..
ولقد إستطاعت قوى النفوذ الأجنبي توظيف محطات وأحداث برعت في تفسيرها وتوجيهها بما يخدم أهدافها :
1 – نكسة 1967 : فشنت ولا تزال أعنف هجوم على الهوية القومية بسببها ..ورغم كل ما تلاها من حرب إستنزاف وإنتصارات وتصحيح شامل وإرتقاء علمي وعسكري ونمو إقتصادي إلا أنها لا تزال تتخذ -من قبل أعداء الرابطة القومية – عنوانا لإعلان إنتهاء مرحلة التحرر القومي العربي..
2 – وفاة جمال عبدالناصر والردة الساداتية التي حولت مصر من قلعة لحركة التحرر العربي إلى قاعدة لتلك الحرب على الرابطة القومية ..
3 – الإحتلال السوفييتي لأفغانستان وما صاحبه من حملة غربية عالمية لتجنيد شباب عربي ومسلم بحجة الجهاد ضد الشيوعية وهو ما كان منطلقا لتأسيس تنظيمات تكفيرية أسميت – جهادية والجهاد منها براء – بتنظيم مباشر من مخابرات أميركا المركزية ..وهي الادوات التي لا تزال تستخدمها إلى اليوم لتنفيذ أهداف المشروع الإستعماري – الصهيوني..
4 – إحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني – القومي والسيطرة الأميركية – الإيرانية المشتركة عليه وتحويله إلى قاعدة للدعوات والحركات الطائفية والمذهبية الشعوبية المعادية للعروبة وروابطها ومقوماتها..
5 – صعود التيار الديني المذهبي والسلفي في كل من إيران وتركيا وإقحامهما المباشر في الحياة العربية وتبنيهما دعوات مذهبية تتصف برفض الرابطة القومية العربية وإعطاء المضمون المذهبي الإنقسامي للإسلام كدين ..مما شكل دافعا قويا لتنشيط الدعوات الشعوبية ومضمونها المعزز للإنتماءات غير العربية والولاءات غير الوطنية بديلا عن الهوية القومية..
6 – إستغلال أحداث ” الربيع العربي ” ونقمة الشارع العربي على القهر والإستبداد والحرمان وتوظيفها لتدعيم وإبراز التيارات الشعوبية المذهبية والعرقية وميليشياتها المسلحة وفرضها بديلا عن المؤسسات والتنظيمات الشعبية الوطنية المطالبة بالتغيير.. ومن ثم استخدامها لتفكيك المجتمع والحركات الشعبية ومنعها من التأثير والفعل..
لا يحتاج الأمر إلى مزيد من الأدلة على ما تقدمه الوقائع منذ سنوات ؛ أن كل تلك الميليشيات المذهبية – وخاصة السنية منها – تقف وراء تأسيسها وبروزها دوائر أجهزة الإستخبارات الإقليمية والعالمية وتحديدا الأميركية والتي تستخدمها لنسف مقومات الرابطة القومية وتفجير البنيات الإجتماعية وتعزيز الدعوات التقسيمية تمهيدا لحروب أهلية تدمر الجميع وتقضي على كل أمل في النهوض العربي لعقود طويلة..
إن براغماتية أميركا الصهيونية وما تملك من إمكانيات هائلة وأدوات متشعبة ؛ مكنتها من استغلال الأحداث لمصلحة لها فيها حتى بعض تلك التي ناهضتها أو عارضتها ..فوظفتها لتحقيق هدفها الإستراتيجي المركزي أي القضاء على الحركة الشعبية العربية ومحركاتها القومية..
إن ما تشهده بلاد المشرق العربي حاليا ما هو إلا حلقة متقدمة في سياق مخطط برنار لويس المستشرق الصهيوني الذي تعمل وفقه السلطات ألأميركية والإستعمارية والصهيونية بعد أن نجحت في إضعاف الهوية القومية وعززت دعوات الشعوبيات الدينية والعرقية بديلا عنها وهو ما سوف يؤدي إلى حروب أهلية وتقسيم البلاد والعباد وتقاسمها بين قوى النفوذ الأجنبي ؛ إذا لم تتبلور سريعا حركات شعبية عربية مواجهة تنتظم في مؤسسات ثقافية وإجتماعية وعمل عربي وطني مشترك إنطلاقا من بلاد المشرق العربي..وطالما بقي النظام الإقليمي على ما هو عليه من تبعية وإرتهان وتخاذل وضعف..