مقالات كل العرب

العسكر و نجوم المجتمع و إدمان الفشل

شارك

العسكر ونجوم المجتمع وإدمان الفشل

د. علي عبدالقادر

كنت وما زلت غير مقتنع بعنوان كتاب وزير الخارجية السوداني الأسبق، الراحل الدكتور منصور خالد “النخب السودانية وإدمان الفشل” ، فقد رأيت في هذا العنوان تعميمًا غير دقيق، وتهمة مُرسلة تطال كل النخب دون استثناء، بل وتُشيطنها بصورة مباشرة. فحين يرتبط مفهوم “النخبة” في الوعي الجمعي السوداني بخريجي الجامعات، وأصحاب الشهادات العليا، وحاملي الألقاب الأكاديمية، يصبح العنوان بمثابة حكم قاطع بأن هؤلاء ليسوا فقط مساهمين في الفشل، بل “مدمنون” عليه، وهو توصيف لا يخلو من القسوة ويقود إلى الإحباط واليأس لدى شرائح واسعة من الشباب والمثقفين.
ولو أراد الكاتب إيصال نقده للنخب بموضوعية، لكان من الأجدر أن يصوغ عنوانًا أكثر إنصافًا ودقة، كأن يقول”فشل النخب السودانية في إدارة الدولة ” أو “النخب السودانية والمساهمة في الفشل” ، مثل هذه العناوين تفتح الباب للنقاش دون مصادرة الحق في الاختلاف، وتُفرق بين النخبة المدنية النزيهة، وتلك التي ارتمت في أحضان السلطة أو استسلمت للفساد.
لكن مع مرور الوقت، واتضاح معالم المشهد السوداني بعد عقود من الاستقلال، تبيّن أن الغالبية العظمى من هؤلاء خريجي الجامعات اي “المدنيين” لم تتح لهم الفرصة أصلاً لتولي القيادة، إذ إن الدولة السودانية ظلت، منذ فجر الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، رهينة لقبضة العسكر، فالعسكر هم من تمسكوا بالسلطة، وهم من فرضوا القرار، واستحوذوا على مقدرات الدولة ومواردها المالية، مستندين إلى ما يمتلكونه من سلاح، لا إلى شرعية مدنية أو مشروع وطني.
ولأن السلطة تستهوي أصحاب النفوس الضعيفة، فقد لجأ العسكريون إلى تطويع النخب، لا من خلال الحوار أو الشراكة، بل عبر اختيار من يناسبهم من الانتهازيين، والمنافقين، وحارقي البخور. وحين لم يجدوا في النخب الأكاديمية ما يخدم مصالحهم، استبدلوها بمن أطلق عليهم “نجوم المجتمع”، من فنانين، وصحفيين، ولاعبي كرة قدم، وإعلاميين، ممن لا يملكون الخبرة السياسية أو الدراية بتعقيدات إدارة الدولة، لكنهم يحظون بجماهيرية تمكنهم من تغبيش الوعي الجماهيري وتجميل صورة الاستبداد، والمفارقة المحزنة، أن هؤلاء النجوم، بعد أن يتم استخدامهم سياسيًا، يسعون بدورهم إلى اكتساب ألقاب أكاديمية وجامعية، في مفارقة صارخة بين الشكل والمضمون.
لقد بلغ الاستخفاف بالشعب أن أحد قادة الانقلابات العسكرية صرح جهارًا نهارًا: “جبناها بالقوة، والدايرها يجي يشيلها بالقوة” ، وصرح أيضا قائلا “لن نفاوض إلا من حمل السلاح”، بهذا المنطق المُشين، فُتح الباب واسعًا أمام عسكرة المجتمع، وتكاثر الحركات المسلحة التي تطالب بقطعة من كعكة السلطة، وحده فإقليم دارفور وحده، مثلًا، شهد نشوء حوالي خمسين حركة مسلحة، فضلًا عن ميليشيات جديدة ومتشظية، من تلك المليشيات على سبيل المثال لا الحصر، قوات الدعم السريع، حركة تحرير السودان جناح مني أركو مناوي، حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو وأخرى بقيادة مالك عقار، جبهة الشرق، مؤتمر البجا -شيبة ضرار، قوات الصحوة الثورية -موسى هلال، كتائب الظل، وقوات درع السودان… والقائمة تطول ، بل حتى امس ظهرت حركة مسلحة جديدة، واذا استمر هذا الحال فسيتوزع كل السودانيين الى الالاف الحركات المسلحة وتحكم كل حركة قرية او مدينة او جبل!!! وكأن السودان خلى من رجل رشيد!
لم يكن مستغربًا أن يقود هذا النهج العسكري البلاد إلى نفق مسدود، فالحرب، لا الإدارة، هي اللغة الوحيدة التي يتقنها العسكر، والنتيجة: حرب الجنوب، ثم انفصاله، وحروب دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق. والآن، ها نحن نعيش كارثة وطنية بكل المقاييس: آلاف القتلى من المدنيين، ملايين المشردين واللاجئين، ودمار شامل للبنية التحتية، والمشاريع، والمؤسسات.
ورغم هذا الخراب الواسع، لا يزال هناك من يصرّ على صبّ الزيت على النار. فبعض “نجوم المجتمع” باتوا يدعون علنًا إلى “مواصلة الحرب حتى مقتل آخر جندي من قوات الدعم السريع”، وآخرون ينادون بانفصال دارفور وتأسيس “دولة البحر والنهر”، هذه الدعوات، حتى وإن جاءت كرد فعل على مظالم حقيقية، لا تقود إلا إلى مزيد من أنهار الدم، ولا تبني وطنًا، بل تُمزق ما تبقى منه.
وها نحن الآن نشهد بدايات مناوشات كلامية، وتصريحات استفزازية، بين حركات دارفور وحركات الشرق، وكأننا ندخل مرحلة جديدة من الحروب المناطقية، والاقتتال الأهلي، والتفكك الشامل، وكأن السودان لا يكفيه ما فيه من جراح.
إن إدمان الفشل الحقيقي، لم يكن من نصيب النخب المدنية بقدر ما كان من نصيب من استحلوا السلطة بقوة السلاح، ونصّبوا أنفسهم أوصياء على الوطن، وسلّطوا على الشعب السوداني مجموعات من الارزقية والانتهازيين والمُصفقين مما يسمى “نجوم المجتمع”. أما النخب الحقيقية الوطنية الصادقة من الخريجين الجامعيين وغير الجامعيين، فقد تم تهميشهم عمدًا، ووضعت أمامهم كل العقبات، وتمت محاربتهم وضعهم في السجون، حتى تم تشريدهم، وأحيانا تتم ملاحقتهم في المنافي البعيدة كي لا يكون لهم أي دور في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
و يبقى الأمل في أن يفيق هذا الشعب المكلوم من التغييب والتغبيش الذي فرض عليه، و “أن يدرك أن مستقبل السودان لا يُبنى بالبندقية، بل بالعقل، والعلم، والحوار، والدولة المدنية العادلة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى