مقالات كل العرب

العيالة.. و الاستثمار الاقتصادي و السياسي: قراءة في زيارة الرئيس الأمريكي الى الخليج العربي

شارك

العيالة… والاستثمار الاقتصادي و السياسي : قراءة في زيارة الرئيس الأمريكي إلى الخليج العربي

د. محمد بن أحمد المرواني

في أول جولة خارجية له بعد انتخابه، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن تكون بوصلته متجهة نحو الخليج العربي، مستهلاً زيارته التاريخية من المملكة العربية السعودية، مرورًا بدولة قطر، وختامًا في دولة الإمارات العربية المتحدة. ولئن كانت هذه الزيارة محمّلة برسائل سياسية واقتصادية واضحة، فإن ما رافقها من مظاهر استقبال تقليدية — كالعرضة العربية و مواكب الخيول و الجمال الخليجية والعيالة الإماراتية — أثار نقاشًا عابرًا للحدود، كاشفًا عن عمق الجهل بثقافة الخليج لدى بعض أبناء العالم العربي، كما بين المشاعر المتضلربة لدى البعض.

زيارة بثقل التاريخ والسياسة

كان الاستقبال في المملكة العربية السعودية فخمًا بكل المقاييس، مستلهمًا من الإرث الثقافي للمملكة ومكانتها التاريخية في العالمين العربي والإسلامي، حيث رافق الخيالة موكب الضيف، وتعالت أهازيج العرضة النجدية، في مشهد لا يليق إلا بالأمم العظيمة حين تستقبل زائرًا بحجم رئيس الدولة الأقوى في العالم.

لقد وقّع ترامب والفريق الاقتصادي المرافق له جملة من الاتفاقيات الاقتصادية مع المملكة، بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارات، موزعة على مشاريع استراتيجية طويلة الأمد. ولم تقتصر الزيارة على الجانب الاقتصادي، بل شملت أيضًا ملفات سياسية .
إلا أن أحد أهم نتائج هذه الزيارة كانت القمة الثلاثية بحضور الرئيس السوري احمد الشرع و ما أُعلن عنه لاحقًا برفع كافة القيود المفروضة على الجمهورية العربية السورية، وهو إنجاز يحسب لولي العهد السعودي، كما أثنى عليه الرئيس ترامب بنفسه، مشيرًا أيضًا إلى أدوار فاعلة لعبتها تركيا، ودولة قطر، وأطراف إقليمية أخرى.

قطر… التوازن بين الأصالة والشراكة

في محطته الثانية، توجّه ترامب إلى الدوحة حيث حظي باستقبال يعكس توازن قطر الدقيق بين الإرث الثقافي والحداثة . ،حيث استقبل بالعرضة القطرية و مواكبة مهيبة من الخيالة و مسيرات مرافقة من الجمال أو الهجانة، فرغم صغر حجمها الجغرافي، تُعتبر قطر لاعبًا سياسيًا واقتصاديًا مؤثرًا في معادلة الإقليم والعالم. وقد أبرمت قطر خلال الزيارة عدة اتفاقيات اقتصادية تتسم بالاستدامة والشراكة الحقيقية، موزعة على مدى عشر سنوات. كما تميزت زيارة قطر و تفردت بالتركيز على ملفات سياسية كبيرة و معقدة في المنطقة و العالم مثل الملف النووي الإيراني و الهجوم الدموي الإسرائيلي على شعب غزة و محاولة إيقاف رحى الحرب و كذلك الحرب بين روسيا و أوكرانيا و ملفات أخرى كما صرح الرئيس الأمريكي بذلك، و تكون تفردت قطر بهذا العمل السياسي المركز عن غيرها

المحطة الثالثة كانت دولة الإمارات العربية المتحدة
استقبلت أبوظبي الرئيس الأمريكي استقبالا كبيرا بالفنون التراثية مثل العيالة و غيرها ،
و وقعت اتفاقيات بمئات المليارات مع الجانب الأمريكي في الاستثمارات المستدامة و استثمارات الطاقة و الذكاء الاصطناعي تستمر لمدة طويلة من الزمن و ذات مستقبل اقتصادي واعد.

ولمن يتهمون دول الخليج بأنها منحت الولايات المتحدة “ثلاثة تريليون”، يجدر التوضيح أن ما تم التوقيع عليه هي اتفاقات استثمارية، تُدار بعقلية الربح المتبادل، ولا تندرج تحت مسمى المِنح أو المساعدات كما يروج البعض. فدول الخليج تدرك أن فائض الثروات الطبيعية يجب أن يُوظّف في مشاريع ذات مردود طويل الأمد، وإلا فإن التضخم سينهش قيمتها.

العيالة… رقصة تُسْقِط الجهل

كما اسلفنا فانه في الإمارات، استُقبل ترامب برقصات العيالة وهي رقصة تراثية تنفرد بها دولة الامارات، ضمن مشهد تراثي أصيل يعكس روح الاتحاد الإماراتي، ويجسد جزءا من موروثًا خليجيًا متنوعا و تتشارك فيه معظم دول المنطقة رغم الاختلافات في جنس الاشخاص المؤدين لها.
وكما هي العادة، سارع بعض المنتقدين، ممن لا يعرفون شيئًا عن ثقافة الخليج، إلى تفسير العيالة تفسيرات خاطئة ومُجتزأة، واعتبارها نقيصة أو خروجًا عن القيم.

وللمنصفين نقول: إن العيالة رقصة شعبية تراثية اماراتية، يشارك فيها الرجال والشيوخ والفتيات الصغيرات، وترمز إلى الفرح الجماعي والانتماء الوطني، ولا تختلف كثيرًا عن رقصات شعبية موجودة في سائر الدول العربية، من الدبكة الفلسطينية إلى الرقصات الجبلية في بلاد الشام والمغرب العربي و الرقصات الجماعية المشتركة في مصر و السودان. لكن الجهل بالموروث والثقافة غالبًا ما يُفضي إلى إطلاق الأحكام الجائرة.

لماذا أمريكا؟ ولماذا ليست الدول العربية؟

أحد الأسئلة التي يطرحها المنتقدون: لماذا تستثمر دول الخليج في الولايات المتحدة بدلًا من توجيه استثماراتها نحو العالم العربي؟ والإجابة، رغم مرارتها، بسيطة: لا يمكن الاستثمار في بيئة لا تمتلك بنية تحتية اقتصادية، ولا مراكز أبحاث، ولا استقرار سياسي. بل إن أفضل الجامعات، وأرقى المستشفيات، وأكثر العقول الواعدة – وإن كانت مستوردة – توجد في الخليج، لا في البلدان التي تعاني من هشاشة إدارية واقتصادية مزمنة.

إن الاستثمار الحقيقي يتطلب بيئة مشجعة للربح والابتكار، لا بيئة تُثقلها البيروقراطية وتغيب عنها الرؤية. ومن هذا المنطلق، فإن شراكة دول الخليج مع الشركات الأمريكية ليست عيبًا، بل خطوة مدروسة نحو المستقبل.

رسائل ما بين السطور

تحمل هذه الجولة الخليجية عدة دلالات سياسية لا تخطئها العين، أبرزها:

1. موقع الخليج العربي في توازنات القوى العالمية: من أول زيارة خارجية لرئيس أمريكا، يتضح جليًا أن واشنطن ترى في الخليج شريكًا حقيقيًا لا غنى عنه.

2. إعادة تموضع السياسات الإقليمية: من رفع العقوبات عن سوريا، إلى تهدئة الملف الإيراني، وتحريك ملف غزة، كلها تطورات حدثت ضمن هوامش هذه الزيارة.

3. التكامل بين التراث والحداثة: من العرضة إلى العيالة، قدم الخليج صورة متوازنة تعكس اعتزازه بثقافته وتقدمه في الوقت ذاته.

وفي الختام، فإن من يرددون أن ترامب عاد من الخليج محمّلًا بالهبات، يجهلون أبسط قواعد الاقتصاد الحديث، ويتغافلون عن واقع سياسي عالمي تتصدره أمريكا رغم كل التناقضات. الخليج لم يمنح، بل استثمر. ولم يتنازل، بل فاوض. ولم يرقص طربًا للرئيس الأمريكي، بل رقص فخرًا بموروثه الذي أدهش الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى