كابوس قلم

كابوس قلم
أ. نعيمة هادي قربع
سرت في الشّارع مرتاح البال، طيّب الخاطر، مستمتعا ببشر الوجوه وفيض البسمات وانشراح القسمات، أتفرّج على المحلّات وجديد المعروضات، حتّى وجدتني أمام محلّ عصريّ راق ذي واجهة بلّوريّة برّاقة فوقها لافتة ضوئيّة عملاقة كتب عليها بحروف مضيئة “كتبيّة عباقرة المستقبل”. وقفت أتفرّج على الذّوق البديع الذي نظّمت به البضاعة الرّفيعة ذات الماركات العالميّة المشهورة والأسعار الخياليّة. فقلت أستمتع بجمال الأشكال والألوان وأمضي في حال سبيلي. فمن محافظ مدرسيّة كأنّها العربات تنتظر مركب الأمراء والأميرات، زهريّة اللّون عليها صورة باربي أو هيلو كيتي أو زرقاء عليها صورة سبايدرمان أو باتمان، إلى كرات أرضيّة مختلفة الأحجام تنبعث منها أضواء تخطف الأبصار، إلى مبراة على شكل فيل، وأخرى على شكل زرافة، إلى ممحاة كأنّها قطعة حلوى تفوح منها رائحة زكيّة. أمّا الأقلام فحدّث ولا حرج عن ألوانها وأشكالها وأحجامها، وقد انتظمت في مجموعات، ورصفت داخل علب أنيقة فكأنّها تحف فنّيّة أو هدايا لأسعد المناسبات.
تاقت نفسي إلى دخول المحلّ، وذكّرتني بقلم لي قد جفّ يراعه وباتت جعبته بيضاء فارغة. أسرعت بالدّخول، وطلبت من البائعة الجميلة قلما أزرق جافّا عاديّا من نوع “بيك” أو “راينولد”. أشارت البائعة إليّ بيدها أن اتبعني. وسارت بي في رواق جانبيّ طويل، في نهايته باب بنّيّ مبطّن، وأمامه بهو صغير تحتلّه أريكة أنيقة وطاولة عليها مجلّات، وقالت لي: ينبغي أن تقابل أمين الكتبيّة، فهو وحده الذي يملك إجابة طلبك. وانصرفت مخلّفة وراءها ذهولا في عينيّ وحيرة في ذهني. أيعقل أن يكون قد فاتني أمر مهمّ؟ أو لعلّي نطقت بما لا ينبغي لي النّطق به. وبعد برهة، انفتح الباب، وخرج من كان بالدّاخل. فأذن لي أمين الكتبيّة بالدّخول. دعاني إلى الجلوس. فجلست وأنا أشعر بالخجل من ضآلة طلبي أمام عظمة مكتبه، ومن تواضع هيئتي أمام ما رأيته عليه من فخامة الملبس وجمال الطّلعة ووقار الصّوت. مدّ لي يده مصافحا فيما كنت مستغرقا في تأمّل ساعته الذّهبيّة وبزّته السّوداء وربطة عنقه وقميصه النّاصع البياض، حقّا لقد بدا لي كأنّه عريس في ليلة عرسه أو مدير كبير أو وزير.
جذب الأمين ملفّا، ونظر فيه ثمّ قال دون أن يرفع نحوي رأسه:
-بلغنا أنّك تريد قلما. أقصد قلما حقيقيّا.
أجبت:
-نعم. سيّدي، مجرّد قلم عاديّ، جافّ، أعني قلما للكتابة فحسب.
-لعلّك لا تعلم يا سيّد أنّ الأمر ليس بالسّهولة التي تتوقّعها، وأنّه لا مجال اليوم للفوضى التي كان عليها الأمر سابقا. لقد تغيّر كلّ شيء، وأصبح كلّ شيء منظّما وخاضعا للقانون والمراقبة.
-كيف؟ ألم يعد بوسعي شراء قلم؟ منذ متى منعت الكتابة وحبست الأقلام؟
-لا لا. معاذ اللّه من المنع والقمع، فنحن في عصر الدّيمقراطيّة وحريّة التّعبير. هي بضع إجراءات نتحقّق بها فيم تريد القلم الأزرق الجافّ؟ فلو كنت تطلب أحد الأنواع التي يحتاجها أطفال المدارس، أو ذلك القلم الذي يوضع للزّينة في جيب القميص ويستعمل لإمضاء الشّيكات لكان الأمر أيسر وأسهل.
-ألا يحقّ لي أن أكتب؟
-بلى بلى يحقّ لك. من حقّ أيّ شخص أن يكتب. فنحن نعرف أنّ القلم يحتاجه التّاجر والنّجّار والموظّف والمعلّم وغيرهم. لك أن تكتب أرقام الهواتف وأن تجري حسابات أموالك، تسجّل ديونك، أو تصوغ لوائح حاجاتك وحاجات عائلتك… كلّ ما في الأمر أنّي مضطرّ إلى تسجيل أنّك لا تريد القلم في غير مصلحة من المصالح. وقبل أن تتسلّم قلمك ستمضي على التزام بذلك. عليك أن تكون واعيا بما أنت مقدم عليه من مسؤوليّة، هذا كلّ شيء.
ولمّا رأى دهشتي وفمي الفاغر، طفق يوضّح:
إليك أهمّ المحاذير قبل أن نسلّمك القلم: إيّاك أن تكتب به شعرا، فللشّعر شيطانه الذي اصطفى منذ زمن أعوانه. وإيّاك أن تكتب نثرا، فقد أغلقت بوّابات ممالكه، وانتصب على عروشه ملوك عظماء ذوو بأس وبطش وأذرع طولى، وتحت إمرتهم رؤساء ومديرون وخبراء ومحقّقون، ولقد انتشر في كلّ شبر الحرس والعسس، وبثّت العيون للحماية والحراسة خشية أن يقتحم المكان دخيل أو يفسد النّظام مجنون.
انتفضت واقفا، وصحت به في ذعر:
-حرام عليكم. واليوميّات والمذكّرات؟ عهدي بها يكتبها أطفال المدارس، وحتّى المجرمون يكتبونها.
-تلك للمشهورين والمؤثّرين والسّياسيّين، لا شأن لنا بها. ونصيحتي لك إذا كنت مغرما بالكتابة، وكنت تفهم في الأنترنيت ولك الآلاف من الأصدقاء والصّديقات فاذهب وابن لك هناك جدارا تكتب عليه ما تشاء وتمحو دون قلم ولا ورقة ولا وجع رأس.
خرجت من الكتبيّة لا ألوي على شيء. فقد تملّكتني حرارة في صدري وجفاف في ريقي وزغللة في عيني. فتحت أزرار قميصي، ورحت أعبّ الهواء عبّا. ثمّ قلت في نفسي: لا يطفئ هذه النّار غير “قازوزة وكسكروت” حارّ، فدلفت إلى حانوت للمأكولات السّريعة وطلبت “مقلوبا”.