فتحي الهداوي: فنان بحجم وطن و إرث فني خالد

فتحي الهداوي: فنان بحجم وطن و إرث فني خالد
أ. رجاء السنوسي
بقلوب يملؤها الحزن والأسى، نودّع اليوم قامة فنية شامخة، الممثل التونسي الكبير والقدير فتحي الهداوي، الذي كان بحق فنانًا بحجم وطن. لقد مثّل الهداوي جزءًا أصيلًا من ذاكرة الفن التونسي وكان وجهًا مألوفًا لكل بيت وصوتًا يعبر عن أحلام وأوجاع الشعب التونسي. بأدائه المميز وموهبته الفذة جعلنا نعيش معه كل شخصية تقمصها، نصدقها، ونؤمن بها. كان فنانًا متكاملاً يتحدث من القلب إلى القلب، وينقل قضايا الناس بأمانة وإبداع.
برحيله، تفقد تونس منارة من مناراتها الفنية، وواحدًا من الذين جعلوا للفن قيمة ومعنى رحل الجسد لكن ستبقى روحه تنبض في أعماله، وستظل أدواره شاهدًا حيًا على عبقريته التي تجاوزت حدود الزمان والمكان.
بداية المسيرة الفنية
بدأ فتحي الهداوي مشواره الفني في مسرح المعهد الثانوي ابن شرف حيث قدم العديد من العروض الكلاسيكية تحت إشراف أستاذه حمادي المزي ثم انضم إلى مسرح الهواة والتحق بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس، حيث تخرج في عام 1986 وبدعم من معلمه وأستاذه، تطور الهداوي بشكل سريع في عالم المسرح ليحقق مكانة مرموقة في المشهد الفني التونسي والعربي.
المسيرة الفنية من المسرح إلى الشاشة الكبيرة
انطلقت رحلة الهداوي في الفن من خلال المسرح حيث أبدع في عدة مسرحيات كان لها دور كبير في تأسيسه الفني من أبرز هذه الأعمال مجنون ليلى وخرافات تونسية وكان لهذه الأعمال المسرحية الفضل في تعريف الجمهور بموهبة الهداوي المتفردة. بعد ذلك انتقل الهداوي إلى عالم التلفزيون والسينما حيث أبدع في العديد من المسلسلات والأفلام التي حققت نجاحًا جماهيريًا واسعًا، من بينها ناعورة الهواء، الريسك، الأكابر، غادة، قمرة سيدي محروس، صيد الريم، قلب الذيب، يوميات امرأة، النوبة، و الأيام كيف الريح.
منذ بداية التسعينيات، بدأ الهداوي في خوض عالم السينما وشارك في أفلام مميزة مثل حلفاوين وصفائح من ذهب للمخرج فريد بوغدير والنوري بوزيد، مما عزز مكانته الفنية في السينما التونسية والعربية.
الدراما التاريخية إبداع في تجسيد الشخصيات الكبرى
من أبرز أدوار فتحي الهداوي هو تجسيده للشخصيات التاريخية الكبرى التي تركت بصمة في التاريخ العربي والعالمي فقد قدّم الهداوي أدوارًا متميزة في العديد من المسلسلات التاريخية التي استلهمت من أحداث تاريخية هامة، ومنها
خالد بن الوليد
عمر ابن الخطاب
الحجاج بن يوسف الثقفي في الحجاج
هولاكو في هولاكو
في هذه الأعمال، أظهر الهداوي قدرته الفائقة على تجسيد الشخصيات التي كانت محورًا أساسيًا في التاريخ الإسلامي، حيث تميز بدقة الأداء وعمق الشخصية، مما جعل الجمهور يتفاعل مع هذه الشخصيات في سياقاتها التاريخية.
التألق الدولي: السينما الفرنسية والتعاونات العالمية
إضافة إلى نجاحاته في الدراما العربية، تمكن فتحي الهداوي من إثبات نفسه على الساحة الدولية. شارك في العديد من الأفلام الفرنسية مثل La Fille de Keltoum، وغيرها من الأعمال التي لاقت إعجاب النقاد والجمهور على حد سواء كما تعامل مع مخرجين أوروبيين بارزين مثل الفرنسي سارج مواتي والإيطالي فرانكو روسي هذه التجارب أثبتت قدرته على التنقل بين ثقافات متعددة وتقديم أدوار معقدة ومؤثرة.
إتقانه للغات: جسر بين الثقافات
يُعد إتقان فتحي الهداوي للعديد من اللغات، مثل العربية الفصحى اللهجة التونسية، الفرنسية، والإنجليزية، من العوامل الرئيسية التي ساعدت على نجاحه الدولي. هذه المهارة اللغوية ساعدته في الانخراط في أعمال فنية متنوعة، مما فتح أمامه أبوابًا جديدة للتعاون مع منتجين ومخرجين من مختلف أنحاء العالم.
جسّد الأدوار المركبة: إبداع فني لا محدود
قدّر النقاد موهبة فتحي الهداوي في تجسيد الأدوار المركبة، حيث وصفوه بـ “المتقمص البارع”. استطاع الهداوي أن يتنقل بين الشخصيات المعقدة بشكل استثنائي، مما جعله يبرز بشكل كبير في عالم الفن. ومن أبرز الأعمال التي قدمها في هذا الإطار كانت مسرحية العوادة، التي اقتبست فيما بعد في عمل سينمائي حمل العنوان ذاته، حيث حاز الهداوي على دور البطولة كما قدم أيضًا مسرحية عرب التي كان لها صدى كبير، مما ساعد في تعزيز مكانته الفنية.
ختامًا: إرث فني خالد
يظل فتحي الهداوي واحدًا من أعظم الفنانين الذين قدموا للشاشة العربية تجسيدًا متميزًا للشخصيات التاريخية والمعاصرة. من خلال أدواره في خالد بن الوليد، الحجاج، هولاكو، وعمر، وغيرها من الأعمال، ترك الهداوي إرثًا فنيًا سيظل حيًا في ذاكرة الجمهور العربي. ستظل شخصياته التي قدمها في الدراما، تاريخية كانت أو اجتماعية، شاهدة على عبقريته في فن التمثيل وإحساسه العالي بالأدوار التي يجسدها. برحيله، يفقد الفن العربي أحد أعمدته، ولكن ستظل أعماله خالدة، تروي قصصًا عن العظمة والتضحية والشجاعة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون