كل الثقافة

ملامح و تقنيات السينما في قصص اليمني الراحل محمد احمد عبدالولي

شارك

ملامح وتقنيات السينما في قصص اليمني الراحل محمد احمد عبدالولي

أ. حميد عقبي

الانتصار للمرأة والأرض من المواضيع المهمة في أعمال الكاتب اليمني الراحل محمد أحمد عبدالولي ولكنه أيضا يتفنن في تصويره للرغبة والخوف بعيدا من الوصف وقريبا جدا من التصوير وأغلب ققصصه القصيرة تقتر كثير من فن السيناريو السينمائي روحا وشكلا في بعض الأحيان، تتداخل بشكل مدهش تقنيته ليصف الخارجي بكل عناصره المكانية والجغرافية، الصوت والموسيقى والمؤاثرات وتدفقات الضوء وكذلك المخفي والغير مرئي والذي يمثل تهديدا مفزعا ومرعبا أو يثير رغبات شهوانية مستعرة كما في قصته امرأة وهنا أيضا ننتبه أنه لا يمكنه أن يشوه صورة المرأة حتى في هذه القصة والتي يتحدث فيها عن مومس أو بنت ليل لكنه خلق منها حلما بهيجا وكائنا يمنح السعادة ولعل نهاية القصة يوحي أن تلك الفتاة ربما تكون حلما ناعما مستمر ففي الليلة الثانية لم يجدها فيزائيا لكنها التصقت بخياله ميتافيزيقيا لتصبح خالدة
وفي الليالي المظلمة كنت أرى خلال الظلمة عينيها خلال الظلام وهما تشعان حبا وحنانا..ودفئا.
في قصة الأرض يا سلمى يتطرق محمد عبدالولي لموضوع شائك ومن التابوهات التي يتحشاها الكثير من الكتاب اليميين والمسالة هنا أكبر من غربة الزواج وغيابه الذي قد يطول لسنوات، هنا رغبة امرأة، تكون البداية والنهاية بالمطر، فالبداية تثير الأسئلة ولماذا لا النهاية هي الأجابة؟
جسد الأرض التواق للارتواء وجسد المرأة أيضا يتوق ويرغب ويحلم ولكن من الصعب أن يفصح عن هذه الرغبة وكأننا نشعر مجرد التفكير يصبح عيبا واثما وذنبا ومجازفة خطرة قد تكون عواقبها وخيمة، العبارة الأخير تحمل معنين
تهمهم سلمى في دواخلها وهي تحتضن ابنها
تهتف بداخلها ـ سأعلمه كيف يحب الأرض..بينما كانت المياة تغوص في الأرض.
كأنها قررت أن تجزف بحب حسان عوضا عن زوجها المهاجر درهم، أو تعلم ابنها حب المرأة، فنحن أمام صورة ميتافور صارخ متعدد الفهم والدلالات.
يبتعد القاص ليصبح متفرجا تاركا هذه التدفقات المشهدية صوتا وصورة يتشابك الداخلي النفسي بالخارجي المكاني، تكاد تكون سلمى غير مرئية لمن يحيط بها أو مرئية بشكل جزئي مجرد زوجة تنتظر زوجها وأم تربي طفلها لكن أحد لن يقبل ولو بشكوى صغيرة ولو الهمس برغبة بسيطة، هنا كذلك الأرض ميتافور متعدد الدلالات، سلمى يمكنها أن تتحمل هجران الزوج وغياب اللذة لكن الأرض والعلاقة معها تحولت لعلاقة وجدانية روحية وفيزيائية وامتزجت سلمى مع الأرض في معادلة كيمائية معقدة اتقن الكاتب التعبير عنها بعيدا عن النحيب والتباكي والموندراما والوقوع في المباشرة والمانلوجات ليقدم مشهدية متصاعدة ومتذبذبة بين الخوف والحلم.
رسم الشخصية
يبدع القاص محمد عبدالولي في رسم شخصياته وخاصة الرئيسية وهو يقدمها بشكل تصويري يشحذ خيال المتلقي ليعيد رسمها وتخيلها ويسمع خطواتها وحتى أنفاسها ويتمتع بموهبة وأسلوب سهل فمثلا في قصته “عمنا صالح” فهذا السجين القديم صاحب اللحية البيضاء الكثة وهو لا يقدم وصف الشخصية دفعة واحدة، بالبداية قدم لنا مشيته ثم شيئا من مظهره المتسخ ورغم ذلك فهو لا يدعونا للنفور والهرب أو التقزز بالعكس تماما يريدنا أن نقترب أكثر وأكثر، ففي سجن القلعة المخصص للمجانين والمعتقلين السياسيين المرعب، حيث كل شيء ممنوع ما عدى الهواء والأكل والسجائر والقات فلا كتب ولا أقلام ولا راديو ولا زيارت ولا أخبار من الخارج.
صالح العمراني هو مجنون ليلى عند البعض وهو العريف وصاحب الأسبقية ثم يعيد تصوير هئيته الجسدية فهو قصير القامة وقوي البنية ويكاد يكون رمزا مهما من هذا المكان الموحش وهو أول من قاد سيارة في اليمن..يتابع القاص العديد من التقنيات ليقنعنا بواقعية وحقيقة الشخصية وهو الرجل صاحب كاريكاتير كوميدي فمشيته تصبح كمشية السيارة، كان صالح يقود سيارة في صنعاء وتحول إلى نجم وهو صاحب الوسامة التي ظلت من سماته رغم زحف البياض لشعره ولحيته ووجوده هنا ليس لٱنه سياسي ولكنه عشق وعشق يهودية جميلة وشابة صغيرة تمسكت بدينها ورفضت أن تْسلم وتركت صنعاء وهو أصيب بالجنون.
شخصية عجيبة تثير اعجاب الكاتب ويدفع لها ضريبة يومية ريالا كاملا رغم أن كلمات صالح التي يتفوه بها ويرددها بالمساء وأغلب أوقاته لا تتعدى مئة كلمة، فليس هو المجنون الثرثار ولا الحكيم، نحن مع شخصية غير عادية نستكشف هذه الغرائبية في الوصف التصويري للقاص لها (تجمع العلب وربما تحاورها وترتبها بشكل اهرامات وتدعو المجانين إلى حفلة شاي صباحية ومسائية و..و…، لكن ختام ونهاية القصة يضفي طابعا ميتافيزيقيا ففي المساء جميع المساجين وحتى المجانين ينتظرون أن يسمعوا آذانه فاذا قال هلا ومرحبا يكون الحزن والنكد لآن مسجونا آخر سيدخل هذا الجحيم وإن قال “في وداعة الله..مع السلامه” يدغدغ الأمل كل سجين بالإفراج أي أن مساجين سيطلقون في الغد.
الموثرات الصوتية
ينسج محمد عبدالولي الكثير من المؤثرات الصوتية والتي تأتي سلسة طبيعية يكاد يسمعها المتلقي ويشعر بها، تتعدد مهمامها الدرامية وقد تنتج دلالات رمزية غير مصطنعة، فالكاتب يعشق توظيف عناصر الطبيعة من ريح ومطر وبرد وغيرها، كذلك صوت تغلغل الماء في الأرض أو وقع أقدام في الوحل أو ضربة نافذة أو باب ووقوع بعض الأشياء .
الكثير من كُتاب القصة والرواية قد لا يهتمون بسحر وتأثيراتها فهي في بعض اللحظات تولد اشعاعات شعرية اضافة إلى التأثير النفسي ، فالشيء والأدوات لا تكون حية إلا اذا تحركت واصبحت داخل المشهد حية وليس مجرد زخرفة شكلية جافة .
كما يمكننا أن نلمس اهتمامه الكبير بالصمت وفي لحظات كثيرة يكون الصمت جميلا وبليغا وشاعريا ، ملهما ومحفزا كي نشعر بالشخصية من الداخل أو تجعلنا نتعايش مع المكان من الداخل وليس مجرد رؤية خارجية وفي الكثير من المواقف يكون صمت اثناء الحوارات أو صمت والشخصية تتحدث مع نفسها أو تتحدث الينا وجهًا لوجه وبشكل عفوي بعيدا عن التكلف المبالغ فيه.
تتقلب الشخصيات في الأمكنة تشعر بها وتتاثر بها ، فهي في الداخل تراقب ما يحدث في الخارج وهي في الخارج تترقب ما يحدث في الداخل وقد نشعر بحدث ما من خلال مؤثرات صوتية أو ضحكات أو صراخ أو حتى همسات، يخفي الكاتب بمهارة ويتلاعب بمستوى تلقينا ، يحذف ظهور شخصية ما او يقلل من وصفها وصفا تشريحيا كاملا وكذلك يتعامل بهذا الأسلوب مع بعض الأمكنة والأشياء ، تجاذبات عديدة وتقنيات مونتاج بديعة متنوعة حتى في أبسط وأقصر قصصه.
خلق لحظات الفرح والألم والغضب من اللحظات العسيرة والحساسة في جميع الابداعات الفنية والأدبية والكثير منا ككتاب قد نقع في مأزق المباشرة والتباكي ونحتاج دوما لنماذج أكثر صدقًا ولعل هذه اللحظات من المستحيل انتاجها صناعيا وبالبلاغة والمحسنات البديعية والجمالية لعلها تاتي من داخل المبدع وتجربته الحياتية وألمه وأحلامه وخوفة وهذا ما يمكن الأحساس به ونحن نقرأ محمد عبدالولي فالكاتب الذي يعاني من تشظي الهوية وتجارب حياتية صعبة وأحلاما هي أقرب إلى الفنتازيا ، كل هذا انعكس في أسلوب فني وقد يبدو عفويا، من خلال نصوص عبدالولي لا نرأه صانعا للكل هذه الدلالات والحساسية والاناقة وحتى الاثارة الجنسية فهو لا يتورع أن يكتب ما يثيره ويثيرنا وقد يستخدم كلمات نابية وتتسم بالوقاحة ، فهي شخصياته ليست مثالية ولا رفيعة المستوى أخلاقيا هي من الحياة ، الحياة بما فيها من صخب ووقاحة ولذة وحزن وظلم وفرح.
في قصته طفي بصي والتي تعرض اليها الناقد حكمت الحاج واسهب في تحليل مفرداتها الدلألية وسماتها السينمائية خلال الندوة التي أقامها المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح حول ابداعات محمد عبدالولي بحضور العديد من النقاد والناقدات ، هذا يدل أن كتابات محمد عبدالولي كانت وماتزال حية ومثيرة ومايزال هنالك الكثير من الاشتغالات النقدية التي ممكن أن تنقذ حول ابداعاته السردية كوننا مع مبدع أمتلك الكثير من تقنيات الإبهار السردي وكان شابا في الثلاثينات ولم تكن حياته سهلة لكي يتفرغ للابداع ومع ذلك فما كتبه مايزال كثيرا طريا ولم يحضى بالكثير من الاهتمام النقدي على المستوى اليمني ولا العربي ولا أظن أن شيئا قد تم ترجمته من ابداعاته الى لغات غير العربية ، مما يجعلنا نلفت الانتباه إلى هذا المبدع
الميت الحي فما كتبه فيه العبق الإنساني وشهادة على عصره وعلى تلك المرحلة الحساسة من تاريخ اليمن .
لمشاهدة الندوة النقدية كاملة مرفق رابط الندوة

كما أننا سوف نواصل تناول ابداعاته السردية في ندوة أفتراضية ثانية سنعقدها في 18 مارس القادم.

كاتب و مخرج سينمائي و مسرحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى