كل الثقافة

رسائل الى قمر – شظايا سيرة

سيرة اسيرة عالقة في ذاكرة القضبان

شارك

رسائل إلى قمر- شظايا سيرة
للأسير حسام زهدي شاهين
(سيرة أسير عالقة في ذاكرة القضبان)

أ. سليم النجار

توطئة: حسام زهدي شاهين/ مواليد القدس، عام ١٩٧٢، حاصل على درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية/ الإسرائيلية من جامعة القدس،
حاصل على درجة البكالوريوس في مجال العلوم السياسية من جامعة القدس. اعتقل عِدِّة مرَّات وهو على مقاعد الدراسة، وأطول اعتقال له كان منذ ٢٨/ ١/ ٢٠٠٤، وصدر بِحقِّه حكماً جائراً مُدَّتُه ٢٧ عاماً.
السِيَريَّة “أقفاص فارغة” تُصَوِّر الكاتب الأسير خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي في رحلة عدمية، تختلط فيها هموم الذات بهموم المجتمع الفلسطيني الرَّازِح تحت الاحتلال، تبدأ منذ الطفولة وحتى وجوده في المعتقلات الإسرائيلية. وعَدميَّة الرحلة لا تعني فراغ المعنى أو عبثيَّة الحياة القاسية التي تُعبِّر عنها السيرة، ولكنها- وللمفارقة- تعني أنَّ الكاتب يعيش حيلة مليئة بالتناقضات وبالألغاز، فالمُقدِّمَات تمضي في اتجاهٍ والنتائج في اتجاهٍ آخر، وغالباً يكون معاكس ومعارض:(حبيبتي قمر… وأنا اكتب إليك رسائلي هذه كنت أتساءل دائماً: كيف يتلقَّى الأحبَّةُ خارجَ جدرانِ السجنِ رسائلنا؟ وما هو وَقعُها وتأثيرها على نفوسهم؟ هل يقرأونها بشغفٍ مثلما نفعل نحن الذين نحيا داخل الجدران؟ هل يتركون كل شيء في أيديهم لحظة تلقِّي هذه الرسائل ويتفرغون لالتهام كلماتها بلهفةٍ وشوقٍ مثلما نفعل نحن؟. ص٢١).
رُبَّما لهذا السبب جاء العنوان مُعبِّراً عن الفراغ “شظايا سيرة”، وجاء اسم المؤلِّف منفيَّاً، لم يذكر أنَّه يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فعنصر المُراوغة موجود على مستوى اللغة كما هو موجود على مستوى الواقع الذي تُعبِّر عنه هذه اللغة: (لم تكد أصابعي تلامس أصابعها حتى سَرَت في جسدي حرارة الشوق والحياة، فها هي قوة الصداقة تسلَّقت جدران السجن وطوت من عمري إثنى عشر عاماً قذفتها ورائي في لحظة وفاءٍ بعد أن زرعت آينكن في قلبي وردة الأمل والإخلاص، وأزاحت من داخلي حشداً من أوجاع الوطن التي خلقتها سنوات الصمتِ والخذلان، وكتبت على صفحات روحي حكايةَ الوطنِ الذي تبدأ حدوده في فلسطين الجميلة ولا تنتهي فيها. ص١٧٨- ١٧٩).
ولا يخفى دلالة هذه المراوغة؛ فما لم يكتبه حسام زهدي شاهين هو في الحقيقة إثبات وتأكيد أنَّ الكاتب هو حسام زهدي شاهين، والعدم في حياته تأكيد الموجود رافضاً لأن يكتب بضمير الحاضر، كما أملت عليه ظروف المعتقل: (إنَّ محاولة استغلال الدين من قبل طرفي الصراع يهدفُ إلى إضفاء الشرعيَّة على ممارساتهم، أو تشريع وتثبيت أنفسهم في الحكم فيعتمد على استغلال الثقافة الإسلاميَّة الكامِنَة في حياة عامة الناس، وهذه الانتهازيَّة هي التي تُوحي للمراقب الخارجي بأنَّ الثقافة الإسلامية معادية للديمقراطيَّة، وهي كذلك في حال الإصرار على اعتبار الدين مرجعيَّة السلطة السياسية. ص١٢٧).
والحياة السريَّة للكاتب ليست الوقائع المُخجِلة التي يبحث عنها القارئ عادةً عندما يُقدِم على قراءة سيرة لكاتب، ولكنَّها الحياة الداخليَّة للكاتب الإنسان، ورُبَّما كان هذا هو السبب في أنَّ حسام اكتفى بسردِ حياته النضاليَّة دون التركيز على حياته الإبداعيَّة ككاتب والعلميَّة كأكاديمي. وبهذا المعنى نجدُ الكاتبَ يسعى للنبشِ في حياةِ المجتمعِ الفلسطيني، راصداً ما يعتقد أنَّه من الضروري الكتابة عنه: (إنَّ الكتابة حول هذه النماذج القليلة تسعى إلى تسليط الضوء- ولو قليلاً- على هذا الجانب الإنسانيِّ المُعتِمِ من حياةِ الأسير الذي قَلَّما يتم التطرُّق إليه عبر وسائل الإعلام المزدحمة بالبطولات بعيداً عن الأنسنة، ومع ذلك تبقى بوصلة الأسرى واضحة الاتجاه والوجهة، ومُدرِكَةً أنَّ شهوة الاحتلال ستبقى مفتوحة على التهام سعادتنا مادام حياً. ص٩٤).
رُبَّما أراد الكاتب أن يُطلِعَنا على حسام الإنسان- وهو جانب مهم- لكن يظلُّ القارئُ متعطشًاً لأنْ يقرأ عن حسام المُبدِع، وهو جانبٌ لا يَقِلِ أهمية، فدائماً هنالك جدليَّة داخل المُبدعِ بين كونه إنساناً أم فناناً، وقد فَطِنَ كُتَّابُ السيرة الذاتيَّة إلى ذلك، فآثر البعض أنْ يجمعَ بين الجانبين في سيرةٍ واحدة، كما فعل طه حسين في “الأيام”، وآثر البعض الآخر أنْ يَفرِدَ سيرة مستقلِّة لكل جانب، كما فعل زكي نجيب محمود في كتبه الثلاثة “قصة عقل” و”قصة نفس” و”حصاد السنين”. وفيما يبدو فإنَّ الكاتب اختار الطريق الأخيرة، لخصوصيَّته كونه معتقل في سجن إسرائيلي؛ لا لشيءٍ إلا لأنَّه مؤمنٌ بحريَّة وطنه وحريَّته الشخصية: (هنا يتكتك الزمن ببطءٍ شديد، ويزحف في أعمارنا بصمت، هنا يتواطأ الزمن مع السجَّان بحكم انحسار المكان وضِيقه، ومع ذلك نعمل على ترويضه حتى يطبع على شفاهنا قبلة الصبر والعمود ص١٢٩).
وإذا كان للكاتب وجهان، أحدهما إنسانيٌّ والآخر إبداعيّ، فإنَّ للسيرة المتشظيَّة معنيان، أحدهما حقيقيٌّ والآخر مجازيّ، وهنا تَحَدَّثَ الكاتب عن السيرة المتشظيَّة الحقيقيَّة دون المجازيَّة، وفي هذا المعنى يقول:(اليوم سأحدِّثُكَ عن صديقةٍ ترفضُ النزولَ عن جبل أُحُد، كما تحب توصيف نفسها، صديقةٌ تتلّمَذت على أيدي مناضلين كبار، أكثرهم في دار الخلود، والبعض منهم ما زالت منارته تُشِّعُ قيماً، ومبادئَ وطنيَّةً وأخلاقيَّة، وبيديه المُخوشِنَتَين يقبض على الفكرة الأولى، بكل استلهاماتها وأهدافها ورسالتها، فإيمانه بعدالة قضيَّته لم يَتَخَثَّرَ بعد، وإنْ تَخَثَّرَ الدمَ في عُروقِه، فأشجارُ الزيتون تبقى خضراء وإنْ هرمت ص١٤٩).
وبهذا المعنى يمكن أن نفهم رسائل إلى قمر- شظايا سيرة خاليَّةً إلَّا من الخيبات؛ بوصفها زنازين خَلَت من نزلائها، بعد أن حرر حسام زهدي شاهين الذاكرة من عبء الذاكرة، وباتَ الماضي سجناً مهجوراً، أو كأنَّهُ والعدمُ سواء: (هذه مشاهد بسيطة من علاقتي بأمِّي أحببت أن أشاركك إيَّاها، لأنَّكِ في يومٍ من الأيَّامِ ستُصبحين أمًّاً، ولعلِّي بذلك أسلِّطُ قليلاً من الضوءِ على أوجاع أمَّهاتنا وأحلامهن البسيطة، لأنَّ قلبُ الأمِّ كالفضاءِ لا يعرفُ حُدودَهُ ومكنوناتَهُ إلَّا الله. ص٢٢٠).
وحسام الذي كَتَبَ شظايا سيرة من خلالِ حوارٍ مع الطفلة قمر، التي هي ابنة صديقيه عماد وشيرين اللَّذَين اُعتقل حسام من بَيتِهما في رام الله قبل سبعة عشر عاماً، إذ ذَكَرَ مراحلَ الألمِ التي تعرَّضَ لها ومازال في المعتقلات الإسرائيلية، هذا الألم وآثاره على ملامحنا.
تأتينا السعادةُ نادرةً، والنشوة عابرة، ولكن الألم ممتدٌّ يجثِمُ على أجسادنا فيُثقِلُ نفوسنا. ونذكر ما قاله الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي بوصفه الألم: تفرَّدتُ بالألمِ العبقريِّ وأنبغُ ما في الحياة الألم).
قمر رواية كتبتُها بلسانِ حسام زهدي شاهين أوجاعاً عظيمة تُكَوِّنُ شخصيَّاتهم، وتبلورُ وجودهم على هذه الأرضِ الفلسطينيَّة، وقد امتلأت حكايا قمر بالآلم وأوجاع من هذا النوع، شظايا سيرة حسام وقمر رواية كتبتَها معتقلات إسرائيل لتكون ملحمةً فلسطينيَّة، تم سردها على عتبة النصر الذي سيتحقَّقُ طال الزمن أم قصر.
حكت قمر عن الذين غادروا الدنيا والذين غادروا القلب، كَتَبَت عن كثيرين ممن تملَّصوا من روابطهم المُقدَّسة وتركوا في نفوس ذويهم نُدوباً لم يُداوِها الزمن، كتبت لتتحرَّر من آلامها فكان الألم بطل “شظايا سيرة” في رحلة ممتدَّة عبر الزمن تمزَّقت فيها روابطٌ وتوطَّدت أخرى.
كتب حسام زهدي شاهين هذا الكتاب تحت نيران القضبان الإسرائيلي بدافع الخلاص من الألم والتحرُّر من كل ما يربطه بمَوَاطنِ المعاناة، كتب لأنَّه مؤمنٌ بأنَّ الكتابةَ طريقةٌ جديدةٌ للحياة الفلسطينيَّة، إنَّها طريقٌ للخروجِ من رحمِ المعتقل الإسرائيلي إلى الحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى