مقالات كل العرب

السرد المشهدي في (أولاد حياة) جسر العبور من الرواية الى السينما

شارك

السرد المشهدي في ( أولاد حياة ) جسر العبور من الرواية إلى السينما .

د.  رحمة عوينة
قراءة نقدية

يباغت مبنى السرد في ( أولاد حياة ) ذائقة القارئ التي تعودت على الشكل الروائي المألوف فيجد في البداية صعوبة في التنقل بين ما يظنه المتن والهامش – وهو ليس كذلك – لكنه ملزم باتباع إملاءات الشكل لأجل الحصول على لذة القراءة والتمكن من مرافقة القصة، فالمشهدية هنا تجسد صوت السارد ووجهة الكاميرا في ما يتعلق بالفن السينمائي الذي يتكئ على الصورة البصرية بالدرجة الأولى ، وهي مسألة تتوقف لا على كتابة السيناريو وحسب بل على الرؤية الإخراجية للعمل ، وهذا ما سيسمح لكتاب ( أولاد حياة ) بمراجعة بعض المشاهد بغية تكثيف العوامل البصرية والسمعية فيها على نحو يجعل الصورة هي المتحدث الأبرز في النص، وهذه المسؤولية لا تقع على عاتق الكاتب وحده الذي بذل جهدا في ترشيح العناصر المرئية والمتحركة والمسموعة عند كل فصل من فصول العمل التي قسمها ضمن هذا التصور السردي الجديد .
إن هذا النمط من الكتابة ربما سيكون هو المتداول فوق رفوف المكتبات يوما ما، لذا نقدر على القول بريادة نص ( أولاد حياة  ) في هذا المضمار، إذ لطالما ضنّ كتاب السيناريو على المكتبة العربية بمثل هذا النمط واعتبروه جهدا استعلائيا لا يحق للعامة  .

كذلك يمكن التماس العذر لبعض المشاهد في سرعة التكون والاسترسال ، لكن هذا الإيقاع السريع سيكون محط استجواب لدى القارئ وهو يحاكم ماضي الشخصيات وما آلت إليه من قفز سريع فوق السيرورة الطبيعية للتحولات في الفكرة والطباع ، وأحسب أن النص في صورة ( رواية ) مختلف تماما عن صورة السيناريو في ما يتعلق بالمحذوفات التي مست تشكل الحدث ومهدت لتبدلات الشخصيات أو تلك التي استغرقت في سبر ماضيها . هنا مع هذا الشكل السردي سيسأل القارئ ربما عن الانهماك المفرط الذي بلغته شخصية آدم في المجتمع المصري الجديد عليه، وبسرعة تفوق التوقع، فهذا الشاب أوروبي المنشأ ، الغني المرفه ، يندمج في تفاصيل الطبقة الدنيا في مصر فور رجوعه إليها دون أي ارتباك بيّن ، ودون أيةِ ارتدادات عاطفية أو نفسية تسحبه إلى حيث أتى ، كما أن معرفته باللهجات المحلية والعادات والتقاليد والأمثال الشعبية والغناء وغيرها من عناصر الثقافة غير المستهلكة لديه يزيد من إحساسنا بسرعة الزمن في متن النص ، لا سيما وأنه لم تعرض علينا صورة واحدة على الأقل من صور امتعاض آدم من واقعه الأوروبي أو أي صراع نفسي معه ، بل على العكس تماما فقد بدا متصالحا مع مجتمعه المخملي تماما ، لكن القارئ سيفطن مجددا إلى دواعي المونتاج السينمائي للقصة فيسوغ هذا التماهي القفزي مع بيئة مختلفة جدا لأن على النص أن يقول رسالته ضمن ضوابط زمنية محددة . الشيء نفسه يلتمسه القارئ في علاقات الشخصيات الرئيسة والثانوية كذلك ، فلا يقف عند مفردات المنطق والواقعية بشكل صارم، بل يتجاوز هذا الريتم السريع في إقصاء الحواجز لصالح المشهد ، فجميع الشخصيات تندمج في علاقاتها بصورة مسترسلة وتتنامى بينها المشاعر  أو تنكمش بوتيرة مختزلة جدا .. ولعل هذا من مقتضيات العمل السينمائي التي حققها الكاتب بسلاسة .

يمكن كذلك قراءة  ( أولاد حياة ) قراءة رمزية تعود بالدلالة إلى مبتدى الخليقة ورحلة النكوص من الجنة بفرط ما تحمله من معاني النعيم والراحة ، اتجاها إلى الأرض وما تجشمه الإنسان عليها من فكرة الإعمار وحمل الأمانة  ، يدعم هذا الرأي قصدية الكاتب الشديدة في اختيار الأسماء وإحالاتها الثقافية التي تمتح من التراث الديني أو الإنساني بشكل عام بغض النظر عن مرجعيته التصورية حول الكون والخالق  ، فَآدم ونونا على سبيل المثال يستدعيان بدء الخلق من عدة أوجه ، فهما مبتورا العائلة ، يعني أنهما سيكونان حجر الأساس لشجرة جديدة تماما ، وهذا التجريد من النسب له دلالة إنسانية حيث يتضمن تكثيف القيمة في الإنسان نفسه بعيدا عن جذوره ومنبته ، أي أنه ذو قيمة ذاتية تحددها علاقته بالحياة وأثره فيها . كما يدعم هذا الرأي الدور التوعوي القيادي النهضوي الذي بدأ فيه آدم في منطقة من مناطق الريف المصري التي تحتاج إلى ثورة فكرية ومادية تقلب الأشياء رأسا على عقب في ما يشبه الثورة ، تشاركه في هذا الجهد ( نونا ) التي تحيل إلى حواء ، بل تحيل إلى الحضارة التي قامت على اختراع اللغة والقيم ، فالأمية لديها لم تمنعها من اكتساب الحكمة ولم تحل بينها وبين التدوين ، في استعارة تعزز اختيار الكاتب لمصرية النص . أما حياة فهي ( الحياة ) التي تسلم الإنسان بعد النضج العمري الكافي إلى مجابهة أقداره والتحكم في مصيره مع ما تُحمله إياه من أمانة القيادة والإحياء والتقدم ، وهنا بالذات يمكن الالتفات إلى التورية الكبيرة في عنوان النص ( أولاد حياة ) ليعني أولاد الإنسانية ، الذين يطلبون الحياة وعليهم أن يعيشوها كما ينبغي للإنسان أن يكون .

إن نص ( أولاد حياة ) نص كثيف في المعاني ، وهو يكتسب قيمته العالية من خلال الأفكار والنقاشات العميقة التي تشبه الصفع على خد المسلمات الواهية مثل تلك التي ترى في العربي هشاشة واضمحلالا أمام عظمة الغرب وسيادته ، لا سيما وأن مكتشفي القيمة العظمى للفعل العربي الأصيل في تاريخ الحضارة الإنسانية سيكونون من الجيل الجديد الذي يسهل جره إلى بريق الغرب وحضارته المادية . فكأن الثورة التي قصدها الكاتب هي نوع من الوعي بقيمة الإنسان العربي في الماضي والحاضر معا ، لا من زاوية شوفينية فارغة أو متطرفة ، وإنما من زاوية موضوعية تمتح من تاريخ الحضارة نفسها ما يدل على أصالتها وعراقتها ، وتلتمس التغيير في جيل الشباب الذي يصل إلى مرحلة مهمة جدا من الوعي وهي مرحلة النقد ، فنقد القيم البائسة وكسر تابوهات العادات والتقاليد المؤسسة على التمييز والجهل هو الخطوة الأولى في ثورة التغيير . وكأن رسالة النص تتمثل في القول بأن عطب الإنسان الحقيقي يكمن في الفهم والإرادة وتقدير الذات ، متى ما تمكن من إصلاح هذا العطب فقد قفز قفزته المثلى .

وفي النص حشد كبير من القضايا التي تلوث المجتمع وتشده إلى مستنقعات التأخر والظلام ، فالمشكلة ليست جينية ولا تفوقا عرقيا ، بل هي مسألة تواطؤ وصمت على ما يحدث من جرائم أخلاقية ، لذلك اختار الكاتب أن لا يجعل في نصه شخصية شريرة واحدة ، في إشارة إلى أن الخير هو الجوهر الأصلي للإنسان وأن الشر هو محض تفاعل مع البيئة المحيطة ، ولا يخفى ما لهذه الرؤية من دلالة على إمكانية التغيير إلى الافضل .

هذا النص يصلح أن يسمى بنص المرأة كذلك ، وكأن كاتبه أخذ على عاتقه أن يقف في صفها بشكل مطلق، فيعري كثيرا من أوجاعها ويكشف الستار عن خصوصياتها في لغة سهلة مباشرة تضع الأصبع فوق الجرح تماما دون مواربة وبتعبيرات مجتمعية بحتة ، لذلك يخلق الكاتب بيئة ( الصالون ) مثلا ، ليجعل البطولة للمكان هنا ، فهو ملتقى النساء من شتى الأوجاع والحكايات ، ثم يجعل من بطلات نصه إما لقيطة أو يتيمة أو مغتصبة أو مخدوعة بزوجها ، ويسلط الضوء على ميراث النساء وختانهن والزواج القسري والأمية والاستغلال الجنسي للمرأة ، وغيرها من القضايا الهامة . وهو في توجهه هذا يقوم ضمنيا بنقد الفكر الذكوري المتناقض أحيانا والقائم على الانتقائية والتمركز حول المنفعة والاستثمار الجنسي ، ففي عالم الحيوانات مثلا ، يفضل الفلاح أن يكون المولود أنثى البقرة أو أنثى الحصان ، لأنها ولادة حلابة ، أما في عالم الإنسان فيفضل أن يكون مولوده ذكرا ، مع أن من تلد له ابنه هي أنثى أيضا ومن بداهة الأمر أن لا توضع المرأة في مستوى تقارن فيه مع البقرة ، وعليه فإن نظرة الفلاح المتشظية الحانقة ضد المرأة هي نظرة احتيالية وغاشمة تحط من قدر صانعة الحياة ( المرأة ) .

ليس هذا وحسب ، فالنص مليء بالنقد المجتمعي عموما من تزوير إلى استغلال إلى اتجار بالمخدرات ، وأبرز ما فيه هو البحث عن الجنس ، فهاجس المجتمع الأكبر كما يبدو هو الغياب عن الوعي أولا ثم الغرق في بحر المنشطات وآثارها الفظيعة في التضخم السكاني مع استمرار الفقر والجهل ، وهذا التوصيف لحالة المجتمع كان مثار انطلاق الشرارة الأولى في الحكاية التي قامت على رغبة آدم في التخلص من ملايين الفقراء في مصر وإراحة البشرية منهم ، وهنا بالضبط نشير إلى أن المشهد التمثيلي  المتخيل بناء على المعطيات المكتوبة لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية ، فقد عانى من رد فعل غير ممهد من طرف الأب على جملة عابرة قالها آدم في حفل صاخب وسط مجموعة باذخة من الأصحاب أنصاف الأوروبيين إذا جاز التعبير ، فالنقطة في التحول من آدم المستعلي الراغب في زوال عدد كبير من الفقراء عن وجه الأرض إلى آدم الباحث عن الحقيقة جاءت هشة نوعا ما .

أما اللغة في النص فتشبه الناس ، لا لأنها مكتوبة باللهجات المصرية المحكية التي تسهل نقل النص إلى عالم السينما وتمنحه قسطا وافرا من واقعيته وحسب ، بل لأنها منقولة من واقع الحياة المصرية ، فتجد فيها خفة الدم مع المفارقات مع الأغنية الشعبية مع حوارات ( الحواري ) والحشاشين والمخدرين والمسطولين ، وتجد فيها حكمة من وخزتهم الحياة فأنببت في عقولهم معاني رصينة ، دون تقعر أو ( شعرنة ) أو التفات إلى مجازات مقحمة . ثمة عبارات خارقة للجمال في معانيها ، جاءت أكثر ما تكون على لسان ( نونا ) وهي تحاور آدم ، لتبدو في لحظة معينة حكيمة تلقن تلميذها . وتجدر الإشارة إلى أن الكاتب لم ينشغل بالوصف المادي للشخصيات رغم وجود بعض الأوصاف العابرة ، وهذا يصب في صالح الفكرة العامة للنص والأفكار الفرعية الداعمة .

والنص كذلك يمكن وصفه بأنه حالم محلق في ملكوت الحب ، يستخرج من متناقضات الأزمنة والأمكنة والمرجعيات الفكرية والدينية حالة مشتركة من السلام المناسب للجميع ، وهذا السلام مكونه الأساسي هو الخروج من حالة الجهل واستثمار العقول والتكنولوجيا ومحاولة تأمين الإنسان في حاجاته المادية ، لذلك كان اختيار ما سأسميه ( مدينة النص الفاضلة ) هو الريف ، الذي يشبه في إعادة تشكيله وبنائه تكون الجنين ، فهو الأرض البكر والموارد المتاحة واليد العاملة بحب واستغراق ، في إشارة ضدية للأنسجة المدنية المعلبة التي باتت تخنق الجمال لصالح الزحام والضجيج . ليس هذا وحسب بل إن في النص دعوة صريحة للغناء والفرح وإعادة تعريف الإيمان والعلاقة بالسماء وطرد التصور البائس حول الله تعالى ، دون أن يعني هذا إصباغه بالتدين أو وسمه بالأدلجة ، فالدين الوحيد للنص هو الحب والسلام والشفقة حتى على أولئك الذين يبدون في منتهيات انحدارهم وفوضاهم .

إن نص ( أولاد حياة ) مليء بما يمكن الحديث عنه والوقوف عليه بالنقد والتشريح ، لا سيما في المستوى الدلالي والرمزي للنص ، ويصح القول إنه جرعة مكثفة من الزحام الفكري الذي يتضمن رسالة جادة ودعوة حقيقية لإعادة إنتاج الوعي العربي المعاصر ، وما هذه المقالة إلا قراءة نقدية سريعة في نص ثقافي كثيف .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى