باكستان اداة امريكا في وجه الصين: قراءة في الدور الوظيفي
باكستان أداة أمريكا في وجه الصين
قراءة في الدور الوظيفي
نسيم قبها
ما زال الصراع محتدم بين حكومة عمران خان وبين أحزاب المعارضة بقيادة شهباز شريف (حزب الرابطة الإسلامية) ، ونجل بناظير بوتو بيلاوال بوتو-زردري (حزب الشعب الباكستاني). فمن جهته يتهم عمران خان المعارضة بالتآمر مع الخارج على “سيادة” باكستان، فيما تستغل المعارضة تردي الوضع الاقتصادي والتضخم وارتفاع الدين الخارجي، وعدم قدرة حكومة عمران خان على تنفيذ الإصلاحات، وكذلك سوء إدارته لقضية تعيين مدير الاستخبارات العسكرية خلفًا للجنرال فايز حميد، والتي أبرزت موضوعًا عادة ما يدار خلف الكواليس للعلن، وأسهمت في انسحاب حزب الحركة القومية المتحدة (mqm-p) و٢٠ عضوًا من حزب عمران خان (تحريك إنصاف) لصفوف المعارضة مما مكن الأخيرة من تجاوز عتبة 172 صوتًا لحجب الثقة عن الحكومة، وهو الأمر الذي يضع حكومة خان على حافة السقوط.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسؤولين من إدارة بايدن ووزارة الخارجية الأميركية كانوا قد “أبلغوا سفير جمهورية الباكستان في الولايات المتحدة عدة مرات شفهيًا، ومرة واحدة على الأقل في شكل كتابي، بأنهم قلقون جدًا بشأن تدهور العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والباكستان، وبخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الرئيسية التي تحركها إدارة خان”، وحذر المسؤولون الأميركيون كذلك من “العواقب التي قد تواجهها الباكستان إذا لم تلتزم بالخط الأميركي في هذه القضايا وتنسجم مع الموقف”. في حين “كثف الدبلوماسيون الأميركيون لقاءاتهم بقادة المعارضة الباكستانية”.
وفي هذا الصدد لا بد أن أشير بأن الولايات المتحدة هي التي تتلاعب بالقوى السياسية الباكستانية والجيش، وتحركهم مثل الدمى تمامًا كباقي المتعاونين ، وبخاصة قادة مصر ودول الخليج، وهذا يُفهم من السياسات الباكستانية في الواقع، ومن قول مباشر لعبد الغفور حيدري نائب رئيس مجلس الشيوخ الباكستاني: “إن جميع الأطراف في الباكستان يجب أن تحصل على موافقة الحكومة الأميركية”. ولا بد أن نعلم أيضًا أن أميركا تترك رجالاتها يتنافسون على خدمة مصالحها دون تدخل أحيانًا، بينما تدعم فريقًا على آخر بمقتضى المصلحة أحيانًا أخرى، وبخاصة إذا وجد بديلٌ عنه يحظى بتأييد شعبي، أو تعرض النظام لخطر السقوط، أو شذ الحاكم عن الطوق، أو لإضعاف الدولة وتمزيقها مناطقيًا ومذهبيًّا.
وفي الحالة الباكستانية تحاول الولايات المتحدة اختبار صلابة حكومة خان أمام العواصف التي وقفت وراءها منذ عهد ترمب، والذي لم يقدم حوافز اقتصادية تسعف عمران خان في تنفيذ وعوده الانتخابية. فأميركا تسعى لإفراز حكومة قادرة على تأمين مصالحها بصرف النظر عن الحزب الحاكم، لا سيما في القضايا الخارجية التي تمثل ركيزة الدور الوظيفي للباكستان منذ اتخاذها قاعدة للتآمر الأميركي على الاتحاد السوفييتي، واتخاذها منصة انطلاق لاختطاف الهند من يد الإنجليز. إذ إن الولايات المتحدة قد أولت بعد الحرب العالمية الثانية أهمية خاصة لجنوب آسيا (الباكستان والهند) انطلاقًا من مبدأ ترومان الذي أعلنه للكونجرس الأميركي في ١٢/٣/١٩٤٧ والقائل “يجب أن تكون سياسة الولايات المتحدة دعم الشعوب الحرة التي تقاوم محاولات القهر”، وهو ما شرحه تقرير سياسة الأمن القومي الأميركي “إذا سقطت الهند والباكستان في يد الشيوعية، قد تجد الولايات المتحدة وأصدقاؤها أنفسهم محرومين من أي موطئ قدم في البر الرئيسي الآسيوي”، وهو ما أكده تصريح دالاس في عام ١٩٥٣ أن الباكستان “حصن يمكن الاعتماد عليه ضد الشيوعية” مسخرًا الدين والموارد البشرية المسلمة في تنافسه مع الاتحاد السوفييتي، حيث قال: إن هذه “الخاصيات” تجعلنا “نحتاجهم في التحالف”. وقد نتج عن ذلك توقيع الولايات المتحدة والباكستان على اتفاقية دفاع مشترك ومنح الباكستان عضوية منظومة سياتو، وأصبحت تابعة كليًا للولايات المتحدة التي سخرتها في أجنداتها السياسية ومنها ، منح طائرات التجسس الأميركية قواعد للتحليق فوق الأراضي الصينية والاتحاد السوفيتي، ومنح المجموعة الاستشارية الأميركية للمساعدة العسكرية مكتبًا في القيادة العامة للجيش الباكستاني عام ١٩٥٥ وتقديم الدعم اللوجستي للمتمردين في التبت، والتي احتلتها الصين وفجرت الحرب مع الهند عام ١٩٦٢، ونتج عنها أيضًا دفع الهند الى أحضان أميركا وهي “الفرصة التي كانت الولايات المتحدة تتوق إليها منذ وقت التقسيم”؛ لأن الهند كانت الهدف الأهم للولايات المتحدة لأهميتها في الصراع الدولي والسيطرة على آسيا، حيث صرَّح الرئيس كينيدي عام ١٩٥٩ أن الأزمة “صراع على القيادة في آسيا”.
وعلى امتداد ٧٥ عامًا منذ نشوء الدولة الباكستانية سيطرت على علاقة الباكستان بالعالم الغربي وبالتبعية بمنطقة الشرق الوسط والأدنى قضيتان تغذيان دورها في تنفيذ السياسة الأميركية، وهما: التمدد الشيوعي وما لحقه من احتلال لأفغانستان (١٩٤٧-١٩٨٥)، ثم الحرب على “الإرهاب” منذ سنة (٢٠٠١- حتى يومنا هذا). فقد اختارت الباكستان مُمثلة في حكوماتها المتتالية تسويق نفسها للغرب من أجل القيام بالدور الذي لعبته تركيا واليونان ضد التمدد الشيوعي، حيث قال مؤسسها محمد علي جناح “نأمل أن تصب الولايات المتحدة المال والأسلحة في الباكستان” . كما اصطفت الباكستان خلف الولايات المتحدة لتنفيذ مبدأ ترومان ثم أيزنهاور، وهو ما أكده السفير الباكستاني للولايات المتحدة في عام ١٩٥٢ على بوقرا بقوله إن على الولايات المتحدة أن “لا تحسب الباكستان كدولة محايدة في آسيا فتعاطفنا الأساسي مع الغرب”
وهذا النهج اتبعته حكومة أيوب خان في مواجهة تأثير الحزب الشيوعي في أفغانستان في عام ١٩٧٣، وحكومة ضياء الحق بعد تدخل الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٧٩، تبعه ربط برويز مشرف الباكستان بالحرب على “الإرهاب” وتدفق عليها ١٨ مليار دولار في الفترة ما بين ٢٠٠٢-٢٠١١. وقد غلب على الموقف السياسي الداخلي للباكستان مركزية المؤسسة العسكرية في إدارة الحياة السياسية وتغليب المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية الأميركية على المصالح “الوطنية”، حيث بدا ذلك جليًا منذ انقلاب غلام محمد على حكومة خواجة نظام الدين في عام ١٩٥٣ ثم انقلاب أيوب خان (صاحب العلاقة المباشرة بآلان دالاس مدير المخابرات الأميركية)، على حكومة فيروز خان في عام ١٩٥٨، وانقلاب ضياء الحق على حكومة ذي الفقار علي بوتو عام ١٩٧٧، وانقلاب برويز مشرف على حكومة نواز شريف عام ١٩٩٩، إذ تبين علم وموافقة واشنطن بالانقلابات العسكرية الباكستانية من واقع علاقة السلطات العسكرية بالاستخبارات المركزية للولايات المتحدة والسفارة الأميركية، وبخاصة اتصالهم المباشر بالضابط السياسي بالسفارة، واتصال أيوب خان بالمخابرات والخارجية الأميركية وإقناعهم بـ”الاعتماد على الباكستان للحفاظ على العالم الحر”، وذلك قبل قيامه بالانقلاب العسكري على حكومة فيروز خان سنة ١٩٥٨.
وأما اليوم وبعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان والذي مهد له عمران خان بعد انتخابه مباشرة بإطلاق سراح الملا برادار (المفاوض الرئيسي في الدوحة)، فتواجه الباكستان عددًا من التحديات المتمثلة في التحالفات الإقليمية والتيارات السياسية، والوضع الاقتصادي المتردي. وتستغل الولايات المتحدة هذا التردي الاقتصادي الباكستاني لتمهيد الطريق للحكومة الباكستانية لتنفيذ الإصلاحات القانونية والمالية والضريبية؛ لاستقطاب الاستثمارات الأميركية، ودفع الباكستان للعمل مع مؤسسة النقد الدولي، وتنفيذ توصياتها والاقتراض من الأسواق العالمية، والتي تطالب بتنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية والقانونية، وبخاصة مع تقلص الدعم الأميركي والسعودي، والمورد المالي من إيران بسبب العقوبات الأميركية. وكل ذلك لتعميق تبعية الباكستان للولايات المتحدة، وإعادة تأهيلها للدور المرسوم لها إزاء الصين، وهو الأمر الذي جرى التمهيد له من خلال دفع عمران خان؛ للتحالف مع تركيا وماليزيا، ومن خلال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وزرع بؤرة توتر وعدم استقرار من أجل تهديد أمن الدول المجاورة وخاصرة روسيا الجنوبية، وإدارة علاقات دول المنطقة والسيطرة على أجندة الحوار مع الطالبان عبر الترويكا المكونة من روسيا والصين والباكستان وأميركا.
وعليه فإن الولايات المتحدة تسعى إلى إعادة توجيه الدور الباكستاني والأفغاني في ظل التحديات الدولية المتمثلة بالصين وروسيا، سيما وأن الباكستان قد لعبت دورًا مركزيًّا في إدارة الصراع الأفغاني السوفييتي، بالإضافة إلى موقعها الجيوستراتيجي في مشروع الحزام والطريق الصيني، وطرق الطاقة من وسط آسيا إلى المحيط الهندي. صحيح أن عمران خان قد سُخّر من قبل الولايات المتحدة في تغليف مركزية الجيش بوجه سياسي مقبول؛ لتفريغ احتقان الشعب وضبط الحياة السياسية الباكستانية وفق الأجندات الأميركية. كما خدم أميركا في إفزاع ابن سلمان بانسحابه من التحالف ضد اليمن، وسخرته أيضًا في مساعي نقل القيادة من السعودية إلى ماليزيا وتركيا وقطر وأندونيسيا لتشكيل ثقل إسلامي خارج إطار منظمة التعاون الإسلامي، لتمكين ابن سلمان من سلخ بلاد الحرمين من جذورها الدينية ومواصلة الانفتاح على الحياة الغربية، واستعملته أيضًا في إضعاف مركزية العرب في العالم الإسلامي (السني) وتوسيع الفجوة بينهم وبين “الأعاجم”، إلا أنه لا يُستبعد أن تتخلى عنه كما تخلت عن أسلافه، وهو ما يمكن أن يُقرأ في تصريحه الأخير: “ضحينا بمصالحنا من أجل من هم في الخارج لكنهم لم يقدروها أبدًا”.
ومهما يكن من أمر فإن الخطورة فيما يتم تحضيره أميركيًّا للباكستان وأفغانستان، وهو إعادة إنتاج المواجهة “الإسلامية” ضد الصين التي يجري شيطنتها وإبراز جرائمها في حق المسلمين الإيغور. وهو الأمر الذي يُخشى أن يؤول إلى استخدام المسلمين في الباكستان وأفغانستان وقودًا في حرب استنزاف ضروس كما حصل مع الاتحاد السوفييتي.
مدير مركز ذرا للدراسات والأبحاث / فلسطين