مقالات كل العرب

ابن بطّوطة الحكواتي

شارك

النص الكامل لمقال الزميلة غادة حلايقة و الذي نشر قسما منه بالعدد الحالي من المجلة.

 

ابن بطّوطة الحكواتي

 

أ.غادة حلايقة

 

يطلّ علينا التاريخ بقوّةٍ في كلّ وقتٍ وفي كلّ حدث، حتّى أنّنا تعلّمنا من التّاريخ، وورثنا عن أسلافنا تقديس الأشخاص، وفي بعض الأحيان تأليههم؛ وتحريم المساس بهم أو النّبش في سيرهم، وكأنّ ذكرهم ورد في الكتب المقدّسة، وفي الحقيقة لم يأتِ هذا الذِّكر إلاّ في كتبٍ لا نعلم مدى صحّتها، ولكن لأنها أعلامٌ – وفق رأي المتوارث – كان لها بصمة في أمرٍ ما، دون البحث هل هذا الذي بين أيدينا حقيقةً أم مجرَّد خزعبلات.

في يومنا هذا، ومع كلّ هذا التقدّم والانفتاح، وتغلّب الأدلّة العلميّة والشّواهد على أيّ دراسة، كان حريٌ بأن نعود إلى تلك الأعلام والبحث عنها ودراستها بعمقٍ وجديّةٍ، بعيداً عن العاطفة التي غضّت الطّرف عن أمورٍ عِدّة. وهذه الأمور هي النُّقطة الفاصلة التي تبيّن الزّيف من الحقيقة.

ابن بطّوطة، والذي أُطلق عليه أمير الرّحالة العرب، بل أعظم رحالة في التّاريخ، وسمّاه العرب بعد هذا (عالماً)! بدأ رحلته وهو في بداية العقد الثّاني من عمره، قاصداً مكّة للحج سيراً على الأقدام.

 

بداية الحكاية

تقاطعت حكايات رحلات ابن بطوطة مع حكايات رحلات الإيطالي ماركو بولو، والذي أسقط المدافعون عن ابن بطّوطة – عن عمدٍ – بأنّ ماركو بولو كان قد بدأ رحلاته وترحاله قبل أن يفكّر ابن بطوطة برحلة الحجيج تلك، وادّعو بأنّ ماركو بولو قد سرق أحداث رحلاته من الرّحالة العربي.

كانت نهاية رحلات الرّحالة الإيطالي التي تجاوزت 25 عاماً في السّجن، ليقصّ أحداث رحلته من ذاكرته على سجينٍ آخر كان معه، متذرّعاً بأنّ كلّ ما دوّنه عن رحلاته اليوميّة قد ضاع وسُرق منه، وهذا هو العذر نفسه الذي ادّعاه ابن بطّوطة، بأنّ مذكّراته وأوراقه ومدوّناته قد سُلبت من قِبَل قطّاع الطرق. لكن كان حظّ ابن بطوطة أوفر، لأنّه كان من رجالات الحُكّام والملوك والسّلاطين، وأحد رجال حاشية السّلطان أبي عنان، وهنا لن أبرئ ساحة ماركو بولو في رحلته إلى الصين، ولا ابن بطوطة، اللذَين تمتلئ رواياتهما وتُحشى بالأساطير التي رأوها أو سمعوها هناك. ولم يثبت العلم أيّ أثرٍ لتلك الخزعبلات في زمننا هذا، الذي تقلّصت فيه الجغرافيا ليحيط بها جهاز صغير يأتي عليها كلها جميعها.

وكما نعلم جميعاً فأنّ ماركو بولو أملى ما رآه في رحلاته أثناء وجوده في سجنه على روائيٍّ كبيرٍ في ذلك الوقت يدعى (روستشيلو)، والذي كان لخياله ككاتبٍ الدور العظيم في سرد أحداث الرِّحلة، وهذا تماماً ما حدث مع ابن بطّوطة الذي أملى أحداث رحلاته المزعومة وما رآه على كاتب السّلطان عنان (محمّد بن جزي الكلبي)، الذي أُلهب خياله أثناء تدوين تلك الحكايات، فظهر العمالقة الذين تفوق الجبال ضخامةً، والسحرة الذين يرمون الحبال في الهواء لتقف خلف السّحاب ويتسلّقون عليها، إضافةً لرؤية العنقاء وبساط الريح ونبع الحياة وحجر الفلاسفة، وغيرها من المشاهد التي لا يستوعبها عقل، ولم يثبتها العلم مطلقاً.

وكأنّ تلك الكتب جاءت امتداداً لقصصٍ تمّ جمعها من آسيا وبلاد فارس وشرق إفريقيا وحصرها في كتابٍ أسموه ألف ليلةٍ وليلة.

 

ابن بطّوطة وجغرافيا المرأة

عُرف عن ابن بطّوطة بأنّه رجلٌ مزواج ومبدع في سرد ووصف جغرافيا النّساء بدقّةٍ وإتقان. ففي كل بلدٍ كان يحطّ فيه يبحث عن امرأة تتميّز بجمال رسمة الحاجبَين والعينَين، لتكتمل معها تفاصيل باقي الجسد، يتزوّجها طيلة فترة إقامته في تلك البلد، فينجب منها، ويتركها لمصيرها بعد أن يحزم أمتعته معلناً الرحيل. ولو بحثنا اليوم لاكتشفنا أن لابن بطوطة في كلِّ بلدٍ أحفاد وامتداد، وهذه هي البصمة الجغرافيّة التي أبدع أمير الرحّالة العرب في تركها، حتّى أنّه قيل على سبيل السّخرية والدّعابة بأنّه عند وفاة ابن بطوطة أقيمت له جنازة ضخمة، لم يحضرها سوى زوجاته وأبنائه لكثرتهم، كنايةً عن زيجاته المتعددة.

 

شهود على زيف تلك الرحلات

المُستغرب هنا، بأنّ رحلات ابن بطوطة التي قطع فيها مسافاتٍ شاسعة في الأرض، سواء كان مشياً على الأقدام، أو على ظهر دابةٍ أو حصان، تخلّلتها فترات إقامةٍ ليست بالقصيرة في عددٍ من البلدان – للتكاثر – ليصل بعدها إلى الصّين، ويعيّن فيها خلال فترةٍ قصيرةٍ وزيراً.

ذكر ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة، حول ما يتناقله النّاس حول مرويّات ابن بطّوطة:

“ولا تنكرنّ ما ليس بمعهودِ عندك ولا في عصرك شيءٌ من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات، فكثيرٌ من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدّول السّالفة بادر بالإنكار، وليس ذلك من الصّواب، فإنّ أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبةً سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلّها فيها، ونحن إذ اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العبّاس وبني أميّة والعبيديين، وناسبنا الصّحيح من ذلك والذي لا شكَّ فيه بالذي نشاهده من هذه الدّول التي هي أقلّ بالنِّسبة إليها؛ وجدنا بينها بوناً، وهو لما بينها من التّفاوت في أصل قوّتها وعمران ممالكها، فالآثار كلّها جارية على نسبة الأصل في القوّة كما قدّمناه، ولا يسعنا إنكار ذلك عنها، إذ كثيرٌ من هذه الأحوال في غاية الشّهرة والوضوح، بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر، وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره، فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدّول في قوّتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها، واعتبر ذلك بما نقصّه عليك من هذه الحكاية المستظرفة، وذلك أنّه ورد بالمغرب لعهد السّلطان أبي عنان من ملوك بني مرين، رجلٌ من مشيخة طنجة يعرف بابن بطّوطة، كان رحل من عشرين سنة قبلها إلى المشرق، وتقلّب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي (التي أسماها الفرس ثمّ العرب بهذا الاسم، وهي مدينة دلهي) حاضرة ملك الهند، وهو السّلطان محمّد شاه، واتّصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه – الملك الذي ورد ذكره عند ابن بطّوطة – وكان له منه مكانة، واستعمله في خطّة القضاء بمذهب المالكيّة في عمله، ثمّ انقلب إلى المغرب واتّصل بالسلطان أبي عنان، وكان يحدِّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، إذا خرج إلى السّفر أحصى أهل مدينته من الرّجال والنِّساء والولدان، وفرض لهم رزق ستّة أشهر تدفع لهم من عطائه، وأنّه عند رجوعه من سفره؛ يدخل في يومٍ مشهود يبرز فيه النّاس كافةً إلى صحراء البلد ويطوفون به، وينصّب أمامه في ذلك الحفل منجنيقات على الظّهر؛ ترمى بها شكائر الدّراهم والدّنانير على النّاس، إلى أن يدخل إيوانه، وأمثال هذه الحكايات فتناجي النّاس بتكذيبه، ولقيت أيامئذ وزير السّلطان فارس بن ودرار البعيد الصّيت، ففاوضته في هذا الشّأن، وأريته إنكار أخبار ذلك الرّجل لما استفاض النّاس في تكذيبه، فقال لي الوزير فارس: إيّاك أن تستنكر متل هذا من أحوال الدّول بما أنك لم تره، فتكون كإبن الوزير النّاشئ في السِّجن، وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه، ومكث في السِّجن سنين ربي فيها ابنك في ذلك المحبس، فلمّا أدرك وعقل، سأل عن اللّحم الذي يتغذّى به، فقال له أبوه: هذا لحم الغنم، فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها، فيقول: يا أبتِ تراها مثل الفأر فينكر عليه، ويقول: أين الغنم من الفأر! وكذا في لحم الإبل والبقر، إذ لم يُعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر، فيحسبها كلّها أبناء جنس الفأر.

ولهذا كثيراً ما يعتري النَّاس في الأخبار، كما يعتريهم الوسواس في الزّيادة عن قصد الأغراب كما قدّمناه أوّل الكتاب، فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع لصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه، وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإنَّ نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدّاً بين الواقعات، وإنّما مرادنا الإمكان بحسب المادّة التي للشيء، فإنّا إذا نظرنا أصل الشّيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوّته، أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله، وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه، وقل ربي زدني عِلماً وأنت أرحم الرّاحمين، والله سبحانه وتعالى أعلم”.

 

بالنّظر إلى ما قاله ابن خلدون، هو لم يكذّب ابن بطوطة علانيّةً، ولم يجاهر بتصديقه، لكنّه نوّه إلى ضرورة تحكيم العقل والفكر والمنطق والفطرة في كلّ ما يقال، وأنوّه بأنّ ابن خلدون جاب العديد من البلاد ليس حبّاً في الترحال، ولكن هروباً من ظلم السلاطين والولاة، ولأنّ ابن بطّوطة أحد رجال السّلطان، لم يرد ابن خلدون أن يفتح باباً آخر للصّراع مع السّلطان، واكتفى بما قاله في مقدّمته كنوعٍ من التّوعية.

 

أمّا المؤرّخ أبو القاسم الزيّاني فقد قال:

“إنّما رسمت فيها – أي التّرجمانة – ما شاهدته في الأقاليم التي بلغتها، وغيره نقلته من رحلة العياشي، ومحاضرة اليوسي، ورحلة البلوي، ورحلة ابن نباتة، ورحلة السّرخسي للأندلس والمغرب، ورحلة الكردي، ورحلة البكري، وأخبار الهند والسِّند والصّين من تاريخ الإسلام للذّهبي، ومن تواريخ لبعض علماء الهند اجتمعت بهم بالحرم الشّريف وبمكّة، وكنت أسرد عليهم رحلة ابن بطّوطة، فأنكروا كثيراً ممّا فيها من أخبار ملوكهم، وأمّا قضاؤه بالهند ومصاهرته لسلطانه فقد أبطلوه بالكلية، وقالوا: هذا غير ممكن، فبسبب ذلك لم أنقل من خبرها شيئاً، ثمَّ بعد ذلك وقفت على ترجمته في الإحاطة لأبي عبدالله الخطيب، نقلاً عن شيخه أبي البركات البلفيقي، أنَّ محمّد بن عبدالله اللّواتي الطَّنجي، المعروف بابن بطّوطة، حاله كان رجلاً له مشاركة في الطّب، وارتحل للمشرق وتزيابزي الصوفيّة، وجال الأقطار ودخل بلاد العجم، والسِّند والهند والصّين، وعاد لبلده طنجة، وجاز البحر للأندلس وبلغ غرناطة، واجتمع بفقهائها في دعوة، وكان يحدِّثهم عن رحلته في يومه وليلته، فاستغربوا أخباره واستبعدوها، وقال البلوي في رحلته، في ترجمة ابن بطّوطة، إنّه لمّا عاد من رحلته ومن لقيه من الملوك، وأنَّ ملك الهند صاهره وقلّده القضاء بمدينته العظمى، وحصل من الأموال عدداً كثيراً، زيّفوه وكذّبوه، ثمَّ عاد لبرّ العدوة ودخل مدينة فاس أيّام السّلطان أبي عنان فارس ابن أبي الحسن المريني، ولم يجتمع به، ثمَّ توجّه للصّحراء تمَّ للسّودان، يحسب أنّ ملوكه كملوك الهند، وأرضه مثلها، فخفق سعيه ووجد الأرض غير الأرض، والناس غير النّاس، وبلغ خبره للسّلطان أبي عنان، فكتب له واستقدمه، ولمّا اجتمع به عاتبه على عدم الاجتماع به لمّا قدم من الأندلس لفاس، وكان أبو عنان قد فرغ من تشييد المدرسة المتوكليّة التي بطالعة فاس، فقال له: يا مولانا السّلطان، إنّما أتيت لفاس بقصدك والمثول بين يديك، ولمّا دخلت هذه المدرسة التي شيّدت، ولم أقف على مثلها فيما شاهدته في المعمور كلّه، قلت والله لا بدّ لي أن أتمم عملي، وأبرّ قسمي بالوصول إلى أقاليم السّودان حتّى أشاهده، وأقسم أن ليس في المعمور كلّه مثلها، فحقّق الله ظنّي وأبرَّ يميني، هذا موجب تأخيري عن المثول بين يديك، فأكرمه السّلطان أبو عنان، وأجرى عليه الأنعام، وأمره أن يؤلّف رحلته ويذكر فيها مدرسته التي زعم أن لا نظير لها في المعمورة!

قال كاتبه عفا الله عنه، وهذا من التغالي في الكذب، ودليلٌ على ما لمسه به فقهاء الأندلس، فإنّ في كلّ إقليم من أقاليم بلاد العرب، كمصر، والشآم، والعراق التي شاهدناها من المدارس والمساجد ما هو مثلها وأعلى منها ضخامةً وتأنّقاً وحسناً، وأمّا بلاد العجم والتّرك، فحدّث عن البحر ولا حرج، فكلّ مسجدٍ وكلُّ مدرسةٍ صغيرةٍ أو كبيرة فوقها وأعظم منها، وأتقن منها، وما وصف به المدرسة العنانيّة لبانيها أبي عنان رحمه الله، فإنّما قصد به مدحه والتخلّص منه بتلك الحيلة التي نجح سعيه بسببها، غفر الله لنا وله، ولقد أخبرني أحد طلبة السّلطان، سيّد محمّد رحمه الله، أنّه كان يسرد عليه رحلة ابن بطّوطة، وساق كلام ابن تيميّة في الاستواء والنّزول، فنزل من محلّ جلوسه وقال: كنزولي هذا، فقال له السّلطان سيدي محمّد، اطوِ ذلك الكتاب وبعه في السّوق، وكل ثمنه لحماً، هذا رجلٌ كذّاب من أهل التّجسيم كمن نقل عنه، فوالله لو حضر بين يدي لأضربنَّ عنقه، فقد تحقّق عنه ما وسمه به أهل الأندلس من الكذب، وسيما إذ هو من أهل البدع.

 

الرِّحلات المزعومة إلى الخليج العربي

شكك العديد من الباحثين والعلماء في رحلة ابن بطّوطة من خلال المعلومات التي أدلى بها، إضافة إلى تشكيك ابن خلدون بصدق كلامه، وافقه الرأي ابن حجر العسقلاني، وعددٌ من علماء العصر الحديث والمستشرقين، كأحمد العوامري، وفيليب حتّي، ومحمّد أحمد جاد المولى وغيرهم، ووصف ابن بطّوطة لبلاد الخليج تؤكّد بأنّه قام بنقل تفاصيلها من كتاب، فراوغ ولفّق الكثير من المعلومات التي عرّت كذبه، ومن تلك المعلومات وصفه لرحلته من قيس إلى البحرين، حيث قال بأنّ سيراف تقع على ساحل بحر الهند، وفي الحقيقة بأنّها تقع على السّاحل الشّرقي من الخليج في البرّ المقابل، أمّا قيس فهي جزيرة تقع في عمان، لكن عدم تمييز ابن بطّوطة بينهما جعله يعتقد بأنّهما مدينة واحدة، والرّحالة الحقيقي يتفادى الوقوع بمثل هذه الأخطاء.

أمّا بالنسبة للبحرين فهو من المؤكّد بأنّه لم يتخطَّ ثراها، وكلّ ما جاء ذكره عن البحرين ما هو إلا نقلٌ مشوّه من كتاب (الممالك والمسالك) للبكري الذي عاش قبل ابن بطّوطة بثلاثة قرون، حيث قال ابن بطّوطة بأنّ (مدينة) البحرين كبيرةٌ حسنة ذات بساتين وأنهار وأشجار، وماؤها قريب المؤنة، يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النّخل والرّمان والأترج والليمون، ويزرع بها القطن، وهي شديدة الحرّ كثيرة الرِّمال، وربّما غلب الرّمل على بعض منازلها، وكان فيما بينها وبين عُمان طريقٌ استولت عليه بعض الرِّمال وانقطع، فلا يوصل عُمان إليها إلا في البحر، وبالقرب منها جبلان عظيمان يسمّى أحدهما بكسير، وهو في غربيها ويسمى الآخر بعوير، وهو في شرقيّها، وبهما ضُرب المثل فقيل: (كسير وعوير وكل غير خير!)

أمّا البكري فقد وصف البحرين قبل ابن بطّوطة بقرون، قائلاً:

“هي بلادٌ سهلةٌ كثيرة الأنهار من العيون، عذبة المياه، ينبطون الماء على القامة والقامتين، والحنا والقطن على شطوط أنهارها بمنزلة السَّوسن، وهي كثيرة النّخل والفواكه، وبساتينهم على نحو ميلٍ منها، ولا يأتونها إلاّ غدوةً أو رواحاً لإفراط حرّ الرّمضاء، وهي كثيرة النّخل والموز والجّوز والإترنج، والأشجار والزّرع والأنهار، ومما يلي (أوال) جبلٌ في البحر، أسود، يسمّى الحازم يقيم به الغوّاصون الأشهر، وبلاد البحرين منهالة الكثبان، جارية الرّمال حتى يسكروها بسعف النّخل، وربّما غلب عليهم في منازلهم، فإذا أعياهم حملوا النقوض وتحولوا”.

هذا هو ما قاله البكري، ويظهر جليّاً للقارئ بأنّ الوصف هو ذاته، لكن مع إعادة صياغة كما نُسميها في أيّامنا هذه، وهذا ما أبدع ابن بطّوطة بفعله، فقد حوّل الدّولة إلى مدينة، وعمل على تغيير بعض المفردات والعبارات، إضافةً إلى أنّه لم يُميّز بين الجّزيرة والبلاد الواقعة في البرّ، وذكره للجبلين العظيمين كسير وعوير يضرب بهما المثل، فهذا الكلام ليس أكثر من تخليط لأنَّ الجبلين موجودان فعليّاً في أقصى بحر عمان، ومعروفان حتّى يومنا هذا، وذكرهما ياقوت على أنّهما جبلان عظيمان مشرفان على أقصى بحر عُمان، والمثل المضروب لا صلة له بالجبل، بل هو منسوبٌ إلى (أمامة بنت نشبة بن غيظ بن مرة) التي تزوجها رجلٌ أعور من غطفان هو خلف بن رواحة، فنشزت عليه إلى أن طلّقها، وتزوجت رجلاً بعده أعرج من بني سليم، فلما دخلت عليه ورأت فخذه المكسور، قالت: “كسير وعوير، وكلُّ غيرٍ خير”، فتحولت مقولتها لمثل.

أمّا في وصف القطيف فقد قال: “ثَمَّ وصلنا القُطيِّف، كأنّه تصغير قطف، وهي مدينةٌ كبيرةٌ حسنة ذات نخلٍ كثير، تسكنها طوائفٌ من العرب، وهم رافضة يُظهرون الرَّفض جِهاراً، لا يخافون أحداً، ويزيد بعدّ التّكبير الأخير: محمّداً وعلي خير البشر، ومن خالفهما فقد كفر”.

وهذا الوصف للقطيف يدل على كذب وافتراء هذا الرّحالة العظيم، فالآذان هو واحدٌ في القطيف والبحرين والإحساء، ألم يسمع نفس الآذان في البحرين، إذا كيف تسنّى له أن يصف كلّ ما رأى في البحرين ولم يسمع الآذان هناك؟

ومن يتأمل ما ورد في كتاب ابن بطّوطة من عبارات، يجدها قريبة جداً من عبارات ياقوت، وهذا يظهر نقله من مجموعة من الكتب، حتّى اختلطت عليه الأماكن والمذاهب، وشوّه كلّ الصور.

أمّا في وصفه للغوّاصين واللؤلؤ وطريقة استخراجه، فقد أذهلنا ابن بطّوطة حين قال:

“يجعل الغوّاص على وجهه مهما أراد أن يغوص، شيئاً يكسوه من عظم الغيلم – السُّلحفاة -، يتفاوتون في الصّبر في الماء، فمنهم من يصبر السّاعة والسّاعتين فما دون”!

فهل يعقل بأن يستمرّ غواصٌ في أعماق البحر لساعة أو ساعتين، وبأدوات غوصٍ بدائيّة، إذا كانوا في ذلك الزّمان بشراً غير البشر الذين نحن عليهم اليوم، أو هي عادة ابن بطّوطة في إضافة الإثارة والتّشويق لحكاياته المدهشة ليمتّع بها المستمعين، كم نحن بحاجةٍ لحكواتي يقصّ علينا أغرب الحكايات في أيامنا هذه.

أعود إلى اللؤلؤ، وفي كلامه كل الإعجاز عن طريقة تشكّل اللؤلؤ، حيث قال: “ويُفتح الصّدف، فيوجد في أجوافها قِطع لحمٍ تقطّع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جوهراً”!! هل عرفتم الآن يا سادة طريقة تشكّل اللؤلؤ؟!

الحديث يطول، والأدلّة تظهر في تقلّص حجم الأرض بسبب التطوّر العلمي والتكنلوجي الذي حوّلها إلى قريةٍ صغيرة، لتعرّي تلك المعرفة مواطن الزّيف في كثيرٍ من الأمور الواردة والمتداولة في التاريخ.

ابن بطّوطة تحوّل في مشرقنا لشخص تحيط به هالةٌ من القداسة، رغم أنّه كان منافقاً، يستجدي من خلال أبيات شعريّة يمدح بها السّلاطين والملوك، ليهيلوا عليه العطايا، لا أعلم كيف صدّق الناس تلك الرّحلات وهي تمتلئ بالأساطير التي رآها ابن بطّوطة كما ادّعى بأمّ عينيه، لم تتجاوز رحلاته زيارة القبور والمزارات ومكّة للحجيج، وزراعة زوجات وأبناء له في كل بلدٍ ارتحل إليها، كان الأجدى بهذا الرّحالة العظيم أن يكون قاصّاً من أن يدّعي أنه قطع شرق البلاد وغربها، وبعد كلّ ما قرأت وقد كتبت اليسير ممّا عثرت عليه، فيستحقّ أن أسمّيه (الحكواتي).

 

المراجع:

– تحفة النظار في غرائب الأمصار، محمّد بن عبد الله اللواتي الطّنجي (ابن بطّوطو). شرح طلال حرب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1407هـ ص:21 – 22.

– تحفة النظار في غرائب الأمصار، ص 289.

– تحفة النظار في غرائب الأمصار، ص 8 – 15، و 292 – 291.

– المعجم الجّغرافي للبلاد العربيّة السعوديّة، المنطقة الشرقيّة (البحرين سابقاً)، الشّيخ حمد الجّاسر، دار اليمامة للبحث والتّرجمة والنّشر، الرّياض ط1 1399.. ف1 / 213، ف1 / 183.

– معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت جـ 461 / 4، جـ4 / 150.

– معجم المؤلّفين، عمر رضا كحّالة، دار إحياء التّراث، بيروت، جـ 2/ 282.

 

 

 

عضو إتحاد كتاب الأردن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى