مقالات كل العرب

حين يصبح الألم مملا: كيف تؤدي كثافة التغطية الى موت التعاطف

شارك

حين يصبح الألم مملًا: كيف تؤدي كثافة التغطية إلى موت التعاطف؟

أ. د.  عبدالرزاق محمد الدليمي

في زمن التدفّق الهائل بالمعلومات والصور دون توقف، باتت المآسي الكبرى مهما بلغت فداحتها تتخذ طابعًا عاديًا في الوعي الجمعي. المشهد يتكرر في كل حرب على غزة: صور الأطفال تحت الركام، المستشفيات المنهكة، الأمهات المنكوبات… ثم فجأة، يخبو كل شيء، ليس لأن الموت توقف، بل لأن المتابعين تعبوا ووصلوا حد الإشباع وهنا يبرز السؤال المؤلم هل نُقتل مرتين؟ مرة بالصواريخ، ومرة بتبلد العالم وضعف اهتمامه!!؟؟

الإرهاق العاطفي

تشير دراسات الإعلام وعلم النفس إلى ظاهرة تُعرف باسم “الإرهاق العاطفي” أو “Compassion Fatigue”، وهي حالة تصيب الجمهور بعد التعرض المتكرر للمآسي، حيث تفقد القصص تأثيرها العاطفي، ويُستبدل التعاطف بالتجاهل أو اللامبالاة. في ظل تغطية إعلامية مكثفة ومتكررة للعدوان الإسرائيلي على غزة، نرى هذا الأثر بوضوح.

وسائل الإعلام تبث الصور من الميدان لحظة بلحظة، والمحتوى الإنساني متاح بكثافة على منصات التواصل، لكن ردود الفعل الجماهيرية غالبًا ما تتراجع بعد أيام قليلة. كيف يمكن أن تتحول أكبر المآسي إلى “خبر عادي”؟ إنها لعنة التكرار دون نتيجة.

الإشكال لا يكمن في التغطية ذاتها، بل في طريقة تقديمها وتلقيها. حين تُعرض المعاناة بشكل متكرر دون سرد جديد أو هدف واضح، تصبح “خلفية ضجيج” لا تحرّك شيئًا. بل قد تؤدي إلى تطبيع الألم، بحيث يصبح استشهاد الأطفال وأشلاء المدنيين جزءًا من “الروتين الإخباري”.

وفي الحالة الفلسطينية، يتفاقم الأمر بفعل غياب التغيير السياسي الحقيقي. فعلى الرغم من الزخم الجماهيري العالمي في بداية كل عدوان، إلا أن غياب النتائج يخلق شعورًا بـ”اللاجدوى”، ما يعزز مناخ اللامبالاة. المواطن العادي يشعر أنه “شاهد كل هذا من قبل”، وأن صوته لن يُغيّر شيئًا.

الحل المطلوب

الحل يكمن في قيام المؤسسات الإعلامية الشريفة والناشطين بتبنّي خطاب جديد لا يُرهق الجمهور بل يحرّكه. فعاليات المقاومة، قصص النجاة، المبادرات المحلية في وجه الدمار… كلها أدوات تحيي الأمل وتحفّز الفعل. كما أن تحويل التعاطف إلى خطوات عملية – كالتبرع، التوقيع على عرائض، أو الضغط على صناع القرار – يمنح الجمهور شعورًا بالجدوى ويعيد للضحايا حضورهم الإنساني الحقيقي.
في النهاية، لا نريد “أنسنة الأرقام” فقط، بل إحياء الضمير في وجه التكرار. فالألم لا يقل إذا اعتدنا عليه، والمأساة لا تنتهي إذا توقفنا عن مشاهدتها. المطلوب ليس أن نغضّ النظر، بل أن نُغيّر الطريقة التي ننظر بها.
غزة لا تحتاج فقط إلى عدسات الكاميرا… بل إلى عيون لا تتعب، وقلوب لا تتبلد، وأصوات لا تصمت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى