أغنية الطين الأخيرة
(قصة قصيرة)
أ. سيد كاظم القريشي
في ذيل الصراخية، حيث ينتهي الگاهن إلى غابة من القصب وبردية وحيدة، كان عبيد الماء يتقلب بين الطين والذكرى كظلٍّ لم يعد يملك جسده. لم يُولد من رحمٍ، بل من تنهيدة أطلقتها البرديّة الأخيرة، حين جزّها سيف الجفاف. لم يكن بشرًا، ولم يكن وحشًا. كان شيئًا بينهما، أقرب إلى نداء رطب في ليلٍ جاف.
سكن عبيد الماء في تجويف قلب الهور، ينام على أوراق القصب اليابسة، ويتوسد أحلام الطيور المنقرضة. لا يُعرف له عمر، فقد نسي الزمن أن يضع له ميلادًا، واكتفى بتسجيل نواحه المتكرر في دفاتر الريح.
كان يخرج عند الغسق، حين تتنفس الأرض الظلال، ويُصلح ممرات الماء بأصابعه التي تشبه جذور القصب. ومنذ هجرت عائلته الهور، ظلّ وحيدًا يحدق في انعكاسه على صفحة الماء المتآكلة، كمن ينتظر أن يسأله أحدهم: “هل ما زلت هنا؟”
قالت له خُضرة أم الليف ذات ليلة، وهي تطلّ من عمق المستنقع وقد تناثر طحلبها على صفحة وجه القمر:
ـ «الهوار لفظك يا عبيد… ما عاد في الماء ذاكرةٌ لك.»
لكنه لم يرد. فقد كان يسمع تحذيرها منذ مئة موسم، ولم يزل بينه وبين الرحيل خصومة قديمة.
وفي ليلة هجرها القمر، زاره الطنطل، متقافزًا من بين بقايا زورقٍ مهجور، عاري القدمين كما العادة، وعيناه مثل بئرين بلا قرار:
ـ «الهور لم يعد لك يا أخي… البشر شوّهونا، صيّرونا حكاية تافهة.. لا تخافنا الأطفال!»
ومع ذلك، لم يهاجر عبيد الماء. كان يحرس برديّة واحدة في الجانب الجنوبي من الصراخية، يروّضها كل فجر كأنها آخر أنثى على وجه الأرض. لكنها بدأ يتيبّس شيئًا فشيئًا، وصار صوته أشبه بتغريدة اختنقت في منتصفها. الصيد اختفى بفعل القوارب الحديدية. لم يعد يستطيع إيجاد قوته. كان الهور يراه يتظائل لكن لا يستطيع إسعافه.
وفي ليلة اختلط فيها الضباب باليأس، قرر عبيد الماء أن ينزع جلده الأسطوري، أن يصبح بشرًا كئيبًا. غمس نفسه في الطين حتى ذابت ملامحه، وخرج من الهور بهيئة رجل عجوز يلبس قميصًا من قش، وعيناه كغيمتين متعبتين.
اشترى قاربًا صغيرًا من أحد المهربين، وسمّاه “حنين”. لم يكن يعرف البيع ولا الشراء، لكنه دفع ما تبقى من لآلئٍ مائية كانت تُزيّن صدره حين كان في زهوه. وصار ينقل السياح من مرفأ الصراخية إلى داخل الهور، إلى جزيرة صغيرة صنعها بيديه من قصب وطين، حيث دفن فيها أسماء الذين هاجروا، وذكرى من غرقوا، وتمثالًا طينيًا لأمه التي ماتت وهي تحتضنه طفلا.
كان يقول لهم بصوت مبلل بالشجن:
ـ «في هذه الجزيرة، يتكلم الصمت… وتأكل سياط الشمس الأحلامَ القديمة.»
ضحكوا، التقطوا صورًا معه، وصفّقوا لغرابته، ثم تآمروا عليه.
في ليلة بلا قمر، جاءه رجلان ببدلات نظيفة، قالا إنهما من “جمعية تنمية السياحة البيئية”، أقنعاه بتوقيع ورقةٍ لم يكن يعرف حروفها، وقالا إنهما سيمنحانه قاربا جديدا، ومكاناً دائماً للعمل. صدقهم، لأنه لا يعرف الخداع. لكنه حين عاد في اليوم التالي، لم يجد القارب. ولم يجد أحداً يعرف شيئاً عن “الجمعية”. ضحك المهرب، وقال:
ـ «أكلوك..
أصابه الذهول، ولم يعرف كيف يطالب بحقّه، فلم يتعلم الشكوى، ولم يعرف القانون، فقد نشأ في ظلال السُحب لا تحت سقف الكذب.
مضت الأيام، وبدأت ملامحه تتآكل. لم تعد الطيور تتوقف قربه، ولم يعد القصب يحيّيه. جلس على أطراف المرفأ، يمد يده للسياح، لا ليركبوا، بل ليمنحوه قطعة نقود أو كسرة خبز.
وصار الناس ينادونه:
ـ «المجنون الذي يدّعي أنه من سلالة الهور…»
ولمّا مات، لم يلتفت إليه أحد. لكنّ طحلبًا أخضر خرج في صباح موته من ضلعه، وغطّى نصف المرفأ، كأن الهور جاء يلفّ جسده في كفنه الحقيقي.
وبعد أسابيع، شوهد زورقٌ صغير من الطين، يعوم بلا مجداف، تتبعه سرب من الطيور التي قيل إنها انقرضت.
يقول بعض العجائز في الصراخية إنهم سمعوا لحن اغنية قديمة تخرج من جوف الزورق الطيني..