مقالات كل العرب

في تجليات الكلمة والريشة: جلسة حوارية وقراءة نقدية لكتاب “عيون العجائب”

في تجليات الكلمة والريشة: جلسة حوارية وقراءة نقدية لكتاب “عيون العجائب”

د. شاكر نوري – دبي

في بهو مكتبة محمد بن راشد العامر بالمعرفة، أُقيمت جلسة حوارية استثنائية شكلت قراءة نقدية عميقة في كتاب الدكتور علي بن تميم “عيون العجائب فيما أورده أبو الطيب من اختراعات وغرائب”. انعقدت هذه الندوة، التي حملت عنوان “المتنبي بين عبقرية الكلمة وإبداع الريشة”، بالأمس، الأول من أكتوبر، وأدار خيوطها بحنكة الإعلامي سليمان الهتلان.

وفي معرض إجابته على استهلال المحاور سليمان الهتلان حول التحديات التي جابهها كباحث في تناوله لغرائب وعجائب المتنبي في الإبداع الشعري، استهل الدكتور علي بن تميم حديثه مستحضرًا المقولة الخالدة لابن رشيق في كتابه “العُمدة”: إنّ المتنبي “ملأ الدنيا وشغل الناس”. وأوضح أن هذا التعبير ليس مجرد وصفٍ لشهرة المتنبي الواسعة، بل هو شهادة على أن تأثير شعره سيبقى مستمرًا إلى يومنا هذا. وأضاف: “وبالفعل، ما زال المتنبي يشغلنا حتى عصرنا الراهن، وربما كان هو الذي أخفى بشعاعه الكثير من الأسماء في عصره؛ فنجد بأن مجايليه لم يكن منهم من يحمل طاقته الشعرية الفذة أو يؤسس لنظرية كبيرة في الشعر، وإن أجادوا في شعرهم”. وأردف قائلاً عن التحدي الثاني: “كما اعتدت في الندوات أن يتقدمني من يعبّد الطريق أمامي، وما يشفع لي هو أنني في ضيافة مكتبة محمد بن راشد، هذا الصرح الثقافي الكبير”. ثم استطرد في تفصيل لغوي دقيق: “السؤال الأدق يعتمد على المعنى المراد؛ فإذا كنت تسأل عن صفة الطريق، فتقول “هل الطريق طويل؟”، أما إذا كنت تسأل عن حدوث المشقة، فتقول “هل يطول الطريق؟” (بمعنى هل سيصبح أطول مما هو عليه ونحن قادمون من أبو ظبي إلى دبي).

وتابع ابن تميم: “قلنا الكثير في مقدمة كتابي عمّا يجعل المتنبي مخترعاً، وهل الاختراع مصطلح نقدي أم مصطلح علمي. لقد كتب المتنبي معظم قصائده بين الأربعين والخمسي بيتا وكان يشبه قصيدته التي لم تتجاوز الأربعين بيتا بأن كل بيت فيها كالفرس، تقطع الطريق الموحشة بقوة. ولعل ما أسعدني أن الفنان محمود شوبر قد زيّن الكتاب بلوحاته الملهمة، فبفنه جسّد ما كنتُ أطمح إليه. ونحن نؤكد هنا أن تعاون الكاتب والرسام فيه من عبقرية الإبداع ما يوازي ما كنا نراه في الأزمنة البعيدة، وهو من نوعية الكتب التي تلهم القراءة بلا شك”. وكما قال علي بن تميم، فإن رسومات محمود شوبر أضفت البعد الحميمي على الكتاب، وفتح آفاق التلقي فيه.

ثم جاء دور الفنان محمود شوبر الذي تدخل في إجابة لسؤال المحاور، قائلاً عن التحديات التي واجهته: “كيف ندمج اللوحة بالشعر، وهل يمكن قراءة المتنبي من خلال اللوحة؟ مما لا شك فيه أن مؤلف الكتاب قد خاض غمار عالم مغاير وتناول المتنبي من زاوية جديدة، وذلك يملي بمهام جسيمة على عاتق الفنان بلا شك. ونحن نحاول أن نرتقي إلى إبداع المتنبي، كتابةً وفناً، لشاعر ما زال يلقي بظلاله الوارفة على الأدب العربي بل والعالمي. إن اختيار المؤلف لأربعين بيتاً من أمهات شعر المتنبي لهو خيار فني وإبداعي يلخص العوالم العجيبة والغريبة التي طرحها المتنبي في شعره. وهنا بدأنا باشتغال الثقافة البصرية، المستوحاة من الفكر الجمالي الغربي لأننا أهملنا ما ورثناه من جمالياتنا في الثقافة العربية الإسلامية، لكنني حاولت الابتعاد عن ذلك واللجوء إلى الإنشاء التصويري الذي يزخر به تراثنا. لا بد من الرجوع إلى الخطاب الإبداعي في شعر المتنبي، ولدينا أمثلة كثيرة في الجماليات، كأن هيغل بدأ بالموسيقى وانتهى بالعمارة. ومزاوجة الشعر باللوحة لم تكن جديداً في ثقافتنا بل تمتد إلى الرقم الطينية القديمة”.

ثم رد علي بن تميم على المحاور لوصف اهتمامه بالمتنبي بـ”الهوس”، قائلاً: “ليس هوساً بل حكمةً. تعلمت ذلك من أبي الطيب”. وأوضح: “أتصور أن الاختراعات كما جسدها الكتاب، هي أفضل ما في بنية النص، ولعلي أضرب مثلاً لذلك، وهو الجمع بين الخيل والكتاب في صورة واحدة، لأن الخيل حركة مستمرة في حين أن الكتاب في سكون ظاهر. لأول مرة تجمع العرب بين الخيل والكتاب. فقد جمع امرؤ القيس ثلاثة عناصر، وأبو تمام خمسة عناصر، لكن المتنبي جمع بين سبعة عناصر، ليقدم اختراعاً جديداً. وهو أول من أعطى صيغة الجمع للدنيا بـ”الدنا”، وشروحات دواوينه توازي ما يزخر به القرآن من شروحات، كما قالوا. لم يسبقه أحد في الاختراع والابتكار، كما يقول الناقد الفرنسي “الكتابة في درجة الصفر”. كان المتنبي يقدر أسلافه خير تقدير، من أبي تمام وعنترة وامرؤ القيس، وهذا هو ديدن العظماء المبدعين. في قصائد عديدة يبدأ بالوداع وينتهي بالوداع. ولم يتمكن النقد القديم ولا الحديث أن يصل إلى جوهر شعر المتنبي، بل بعض الباحثين أو كثير منهم قدم قراءة إيديولوجية لشعره، وحاولوا الإجابة على أسئلة كثيرة طرحها المتنبي”.

ثم تحدث الفنان محمود شوبر، الذي زين كتاب علي بن تميم بلوحاته الفائقة الجمال والتعبير، وقال: “بأن اشتغال الفنون بالأدب ظاهرة موجودة في الفنون. إنها المنطقة التي يشتغل فيها الفنان منذ القدم، ولكن لماذا المتنبي، ولماذا نحتفي به الآن في عصرنا؟ خاصة بعد كل ما قيل عن الحداثة وما بعد الحداثة. إن المعاصرة هي أساس الفكرة القائمة الآن، ودور المتلقي”. وفي الحقيقة، أن الفنان محمود شوبر قدم رؤيته عن المتنبي بأسلوبه الخاص، وهو ليس الأسلوب الفوتوغرافي الجامد، بل أعطى الخيل روحاً أخرى وكذلك لشخصية المتنبي ألقه وألمه بكل ما يجيش به صدر الشاعر. وهو ما اتفق عليه مؤلف الكتاب الذي أعطاه حرية التصرف في استيحاء شخصية المتنبي كما يشاء الفنان دون قيد أو شرط. وهذه هي أريحية الباحث المبدع علي بن تميم الذي يقدم سردية جديدة للمتنبي وهو ماضٍ في الحفر في جسد وروح هذا الشاعر، وننتظر منه أعمالاً جديدة.

ثم تدخل علي بن تميم مجدداً: “إن أبا الطيب عاش في عصر كان يخلو من الشعراء الكبار. انظر إلى قصيدة المدح ستجدها لا تمس جوهر القائد في حين أن أبا الطيب رد عبق الصورة في الشعر، وما زال شعر الكبار يردد أطروحاته بمعنى من المعاني، كما هو حال الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته “أحنّ إلى خبز أمي”. وقد رثى المتنبي خمس نساء: رثى أم سيف الدولة، وأخته الكبرى والصغرى، وعمة عضد الدولة. ونراه أيضاً يرثي جدته التي يناديها أمه، وسار على دربه محمود درويش: “أحن إلى الكأس التي شربت منها”. كما لم يكتب المتنبي قصيدة في التصوف بعد سنوات من رحيل الحلاج. ما هي التحولات الكبرى التي يحملها المتنبي في شعره؟ إنها كثيرة وكبيرة، ولا بد من الاحتفاء بهذه الشخصية الفذة كما تحتفي الأمم بشعرائها وعظمائها: شكسبير، ودانتي وسيرفانتس وغوته”. وقد أبدع في استخدام كلمة الخيل، وفصلها في شعره.

لم يذكر المتنبي أسماء محددة لخيولٍ خاصة به، بل أشار بشكل عام إلى تفضيله للخيل الدهم، وهي الخيل شديدة السواد، وإلى فرسٍ أهداها له سيف الدولة، خيل “دهماء”. ذكر المتنبي في شعره أن الخيل الدهم هي الأفضل عند العرب، وأن اللون الأسود الخالص في الخيل هو من أجمل وأقوى الألوان، وهذا يتجلى في اهتمامه بخيل سيف الدولة من هذه الفئة.

واستأنف ابن تميم: “إن تأثير المتنبي يأتي بالدرجة الأولى على مستوى اللغة، لا على مستوى الشعر فقط. هنا تكمن عبقرية المتنبي”. ثم قال محمود شوبر: “إن عبقرية أبي الطيب المتنبي لها مرجعيتها في الشعر والفن، وعبقريته ملهمة للكاتب والفنان”.

ثم تدخل معالي محمد المر، رئيس مجلس إدارة مكتبة محمد بن راشد، الذي أكد على أن هناك مراكز علمية وثقافية عديدة في العالم تهتم بعباقرتها، ولكن هذه الظاهرة ما تزال ضعيفة عندنا، وهذه المراكز تتخصص في مشاهير الشعراء والأدباء. وأضاف: “لكن لا نجد كتب كثيرة متميزة عن المتنبي سوى كتاب أو كتابين مثل كتاب كوركيس عواد. هناك عمالقة في عصر شكسبير لكنهم لم يصلوا إلى عبقريته، وكان في عصر المتنبي البحتري وأبو تمام، إنهم شعراء عظام أيضاً لكن المتنبي تميز بالفرادة”. وأشار إلى كتاب مهم عن المتنبي أبدعه الفنان العراقي المقيم في باريس حسن المسعود الذي أصدر كتاباً فنياً عن المتنبي وهو المعروف في فرنسا بـ “Livre d’artiste”، وهذه تختلف عن الكتب المزينة بالصور والرسومات. ونلاحظ أن الفرس يحتفون بشعرائهم وأدبائهم كأن يخطون قصائدهم أو يرسموها أو يزينوها بالمنمنمات الفنية. هذا التقليد غير موجود لدينا للأسف الشديد. هناك الكثير مما يمكن العمل به في أدبنا وتراثنا عن تعاون الأدباء والفنانين في عمل إبداعي واحد. كما أنني أنصح من لا يقرأون أن يلجأوا إلى الكتاب المسموع. وقد أجاد عبد المجيد مجذوب في إنشاد قصائد المتنبي وهو متوفر على الإنترنت.

هكذا اختتمت الجلسة الحوارية والقراءة النقدية بتداخلات أخرى من الجمهور، تاركةً الحضور في تأمل عميق مع إرث الشاعر الخالد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى