مقالات كل العرب

حكمة الموروث الشعبي: ابن الحلال و ابن الحرام بين النبل و الغدر

حكمة الموروث الشعبي:
ابن الحلال وابن الحرام…
بين النبل و الغدر

د. محمد بن أحمد المرواني

في مجالس القرى والحواضر، على الأرصفة وفي المقاهي، كثيراً ما تتردد على ألسنة الناس كلمات من الموروث الشعبي. بعضها يفهمه الجميع ويعيش معناه، وبعضها يبدو غريباً أو قاسياً، فيحسبه غالبية البشر ضرباً من الخرافة أو المبالغة. غير أن الأمثال الشعبية، كما يقول الحكماء، لا تأتي من فراغ. فهي وليدة التجارب، وخلاصة المعاناة، وصوت الذاكرة الجماعية للشعوب.

ومن بين هذه المقولات هي التسمية المتداولة في بلاد الشام ومصر وبعض دول الخليج والمغرب العربي، و التي كثيراً ما يطرق ألاسماع ذكرها وصف الناس بـ ابن الحلال أو ابن الحرام. و هما كلمتان بسيطتان في لفظهما، لكنهما تختصران عالماً من الدلالات، وتجارب مرة ، وحكايات صادمة او مواقف مشرفة عن معدن البشر الذي لا يظهر إلا عند الشدائد.

ابن الحلال… يد الله الخفية

يقول رجل حكيم جاوز الستين، اشتهر بين أهل قريته بالفطرة السليمة وبعد البصيرة:
“ابن الحلال هو ذاك الذي يرسله الله لاحدهم في لحظة لا تيوقعها. قد يكون معرفة هامشية او غريب لا يعرف اسمه ولا نسبه، لكن قلبه يتحرك فجأة لمد يد العون.
قد يكون رجلاً في الشارع مع زوجته أو أخته، يرى فتاة في مأزق أو خطر، فيطلب من رفيقته أن ترافقها حتى تصل إلى مأمنها. لا يعرفها، ولا ينتظر منها شكراً، لكنه شعر بمسؤولية إنسانية فجاء إنقاذه كنسمة من رحمة الله.”

ابن الحلال لا يقتصر على المواقف العابرة. قد يكون ذاك الغريب الذي يظهر فجأة في ساعة أزمة صحية أو مالية، ليكون سنداً لم يتوقع، أو صديقاً جديداً ينقذ شخصا من ورطة كان تظن أن الخروج منها مستحيل. إنه أشبه باحد ملائكة الأرض الخفين، لا يعرف من أين يأتون، ولا إلى أين يذهبون بعد أن يؤدوا رسالتهم.

ابن الحرام… الغدر المغلف بالمعروف

لكن الوجه الآخر للقصة أشد قسوة. حين سُئل الحكيم: ومن هو ابن الحرام؟ تنهد وأجاب:
ابن الحرام هو ذاك الذي يحسن إليه احدهم بكل ما يستطيع، فيرد على المعروف بالخيانة والغدر. هو الذي يفتح له احد الطيبين بيته حين يضيق بشخص ما الحال، ويطعمه من جوع، ويأويه من شتات، ويعلّمه ويرعاه. و قد يزوجه ويحفظ عرضه، ويربي أبناءه كما يربي الكريم أبنائه شخصيا في كنفه و تحت ظله و حمايته و من خيره . كل ذلك وألرجل الكريم يظن أن المعروف دينٌ سيرد يوماً بالوفاء والعرفان ممن اكرمه و اعانه.

ثم أضاف: “لكن المفاجأة تأتي حين يكتشف الرجل الطيب أن أقرب الناس إليه و اكثرهم تنعما بمعروفه و فضله و رعايته هو من يطعن ظهره. قد يسرق الدار التي آوته ، ويشيع بين أهل من استضافه الفرقة والخلاف، ويخرب علاقت الكريم بإخوته . قد يكذب على من تفضل عليه ويشوّه سمعته، و يخون امانته ، ويكيد لأولاده، ويعمل في الخفاء على تدمير من رعاه و افساد حياته لاطماع مادية او احقاد مرضية بينما هو نفسه يقف أمام الرجل بابتسامة صفراء ويقول: أنا في خدمتك يا سيدي، ولا أنسى فضلك. ، لست إنسانا قذرا ينسى الفضل !

في هذه اللحظة لا يحتاج الانسان إلى فلسفة معقدة لتسمية هذا الضبع البشري، يكفي أن تقال بعفوية: هذا ابن حرام.

صور متكررة في حياتنا

كم من قصة مرّت على احدهم تبيّن هذا التناقض:

صديق قديم يرافق احدا في طفولته، فيظنه سنداً و اخا، فإذا به أول من يشي به او يتبلى عليه حين تشدّ عليه الظروف.

جار يساعده جاره ويكرمه، فإذا به يحاول الاستيلاء على أرض من ساعده أو يحرّض بينه وبين إخوته.

قريب احتضنه كريم وربّاه كاحد أبناءه، فإذا به يفتعل الخلافات ويعمل على تدمير بيت مضيفه.

وعلى الطرف الآخر:

غريب في الشارع يقف مع محتاج حين يخذله الأقربون.

إنسان لم يربطه مع احدهم سوى موقف واحد، فإذا به يكون سبب نجاته من حادث أو مصيبة.

موظف أو عامل التقاه احدهم صدفة، فإذا به يفتح له باب رزق أو يساعدك في ورطة.

هذه القصص ليست أساطير، بل تجارب واقعية عاشها الناس، ومنها خرجت الأمثال الشعبية التي تختصرها في كلمتين: ابن الحلال وابن الحرام.

المعدن لا يظهر إلا في الشدائد

يقول الحكيم: “الشدائد هي المِحكّ. في وقت الرخاء يبدون جميعاً أبناء حلال. لكن حين تحل المحن و المصائب، ينكشف الغطاء. هناك من يبقى إلى جوار المحتاج بنبل و بلا مصلحة، وهناك من يتربص به ليفتك بذا الحاجة ساعة ضعفه.

وقد لخّص الشاعر هذه الحقيقة حين قال:

جزى الله الشدائد عني كل خيرٍ
عرفتُ بها عدوي من صديقي

حكمة الموروث الإنساني

الأمثال الشعبية ليست مجرد زينة كلام أو عبارات تقال في المجالس. هي ذاكرة الشعوب، وحصيلة تجاربها. حين يصف الناس شخصاً بأنه ابن حرام، فإنهم لا يقصدون نسبه ولا أصله، بل يقصدون خيانته وغدره. الغير متوقعان، و حين يصفون أحداً بأنه ابن حلال، فإنهم لا يسألون عن اسمه أو بلده، بل ينظرون إلى فعله النبيل في لحظة الحقيقة.

ولذلك يقول المثل اللبناني: “ما فيه مثل كِذِب.” أي أن المثل الشعبي خلاصة تجربة لا يزيّفها الخيال.

أسئلة للتأمل

وهنا يبرز السؤال الكبير الذي يطرحه كل إنسان على نفسه:

من هو ابن الحلال ذاك الانسان النبيل الذي سيأتيك من حيث لا تدري لينقذك ساعة الضيق او يدعمك عند الحاجة او يحميك عند الفزع؟

ومن هو ابن الحرام الذي تظنه سنداً فإذا به ضبع خائن يتربص بك ليفتك بك ساعة غفلتيك أو ضعفك ؟

أسئلة لا يجيب عنها إلا المواقف، ولا تكشفها إلا التجارب. فالقرب والبعد، والدم والجيرة و المعروف الذي تظنه في اعناق البشر لك، كلها لا تكفي لتحديد الجوهر. وحدها الأزمات تفعل.
و كما تقول الام داعية لابنها عند خروجه من المنزل في صباح يوم جميل في إحدى قرى بلاد الشام :
روح ، ، ، ،
الله يوقف لك اولاد الحلال
و يبعد عنك اولاد الحرام ، ، يا ابني
كذلك هي دعوتي للجميع

الخلاصة

في النهاية، يظل الإنسان محكوماً بمعدنه لا بمظهره. ابن الحلال قد يكون غريباً لم يره المحتاج من قبل، لكنه يقف إلى جانبه في أشد اللحظات. وابن الحرام قد يكون أقرب الناس لاحدهم، لكنه لا يتردد أن يغدر به ويخون أمانته و يسرق ماله او يدمر حياته.

إنها حكمة الموروث الشعبي التي تختصر الحياة في كلمتين، وتضع المجتمع أمام مرآة الحقيقة:

ابن الحلال… وابن الحرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى