مقالات كل العرب

الطائفية المقنّعة: كيف تستثمر النخب الخطاب الطائفي في الفضاء العلماني؟

شارك

الطائفية المقنّعة: كيف تستثمر النخب الخطاب الطائفي في الفضاء العلماني؟

أ. معتز فخرالدين

لم تكن المأساة السورية مجرد كارثة إنسانية، بل تحوّلت إلى مرآة كاشفة لما تراكم في البُنى الثقافية والسياسية والفكرية، وخصوصاً في نخبه العلمانية والمدنية.
فعلى وقع الجثث والتهجير والانهيارات، سقطت أقنعة كثيرة، وظهر وجه طائفي مقنّع في فضاءاتٍ ظنّها الناس نخبوية، موضوعية، حداثية الطابع.
لكن المواقف، حين وصلت لحظة الحقيقة، لم تصدر من موقع الالتزام الإنساني أو الوطني العام، بل من موقع الفرز المذهبي والانتماء الضيق.

لقد أثبتت التجربة السورية بما لا يدع مجالاً للشك أن الانتماء الطائفي يمكن أن يتغلّب على كل ادّعاء أيديولوجي، حتى عند أولئك الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم علمانيون أو حداثيون. إذ لم تصمد كثير من النخب السورية، التي تبنّت خطاباً عقلانياً تحررياً لعقود، أمام لحظة الاختبار الحقيقية. فحين ارتجّت أركان الدولة، وعاد الخوف الوجودي ليهيمن على المكوّنات الطائفية، تراجعت مفردات الدولة المدنية، والحرية، والعدالة، لتحلّ مكانها غريزة الحماية الذاتية، والعودة إلى “الملاذ الأخير”: الطائفة.

في هذا السياق، بدا بعض “العلمانيين” أكثر طائفية من الإسلاميين المتطرفين، لا لأنهم يحملون وعياً دينياً مضاداً، بل لأن الطائفة أصبحت لديهم هي الهوية الأعمق من كل خطاب فوقي. ولم يكن ذلك محصوراً بتيار بعينه، بل ظهر عند اليساري والقومي والليبرالي، ما يكشف عن عمق الأزمة البنيوية في المجتمعات العربية: غياب الهوية الوطنية الجامعة، وهشاشة الانتماء للمشترك المدني حين تغيب الدولة ويتقدّم الهلع الطائفي.

وهكذا، لم يكن انحياز أغلبهم للنظام السابق دائماً نابعاً من قناعة بمشروعه أو سياساته، بل من خشية مضمرة من الآخر، واستبطان لخطاب “التهديد الوجودي” الذي أجاد النظام تسويقه. وبذلك تحوّلت الطائفية من سلوك شعبي إلى بنية وعي نخبوية، تعيد إنتاج ذاتها حتى تحت غطاء الأيديولوجيا العلمانية.

في خضم الانهيارات السياسية والمجتمعية، حيث تترنح الدولة وتتآكل المؤسسات، تبرز ظاهرة الطائفية المقنّعة بوصفها الوجه الأشد مراوغة والأكثر خطورة. إنها ليست الطائفية الفجّة، الصريحة، التي يمكن مواجهتها بخطاب واضح ومباشر، بل هي تلك المتوارية خلف أقنعة الفكر المدني والعلماني والتقّية السياسية والفكرية، حيث تتحوّل مفردات الوطنية والمواطنة والحداثة إلى أدوات لتبرير الانحياز الطائفي لا لمواجهته.

لقد أتاحت السنوات الماضية اختباراً كاشفاً، بدا فيه بعض من يتبنّون الخطاب العلماني، حتى من المثقفين والناشطين، أكثر طائفية من رموز التديّن التقليدي. لا لأنهم يعترفون بذلك، بل لأنهم وظّفوا مواقفهم “الوطنية” لتبرير اصطفافهم الطائفي، ولإعادة إنتاج الانقسام على نحو ناعم، متقن، يصعب فضحه دون التعرّض لحملات تشويه. هنا، لا تكون الطائفة مجرد ملاذ نفسي، بل أداة تموضع سياسي واجتماعي.

ويبدو أن هذا السلوك لا يُختزل بالخوف من الآخر، بل يتجاوزه إلى انتهازية مكشوفة، حيث تتحوّل بعض النخب إلى أداة ناطقة باسم الطائفة لا باسم المجتمع، لا بدافع التديّن أو الدفاع، بل تحت غطاء مفردات فارغة كـ”الواقعية” و”الحكمة” و”حماية التنوّع” و”المجتمع المستهدف” من حقد الآخر. وهنا لا يُكتفى بتبرير الاصطفاف، بل تُبرَّر الجريمة، ويُعاد تدوير الاستبداد، ويُمنح العدو شرعية التدخل كل ذلك بذريعة عقلانية مزيّفة تنهار عند أول اختبار.
لكن من المهم أن نُفرّق هنا بين مراجعة صادقة تفرضها التحولات الوطنية، وبين تموضع انتهازي يُعيد إنتاج الانقسامات. فليست كل مراجعة الفكر تراجعاً عن المبادئ، كما أن رفض الاصطفاف الأعمى لا يعني تبنّي خطاب الآخر. إن الاختبار الحقيقي هو القدرة على المراجعة دون الوقوع في تسويغ الاستبداد أو تبرير الانقسام او الإستقواء بالخارج تحت أي ذريعة.

نحن لا نواجه مجرد خطأ في التقدير، بل مشروعاً طائفياً مقنّعاً، يتقن التمويه، ويقدّم نفسه كموقف مدني، بينما هو في جوهره فعل انقسام مدروس ومقصود، لا ينتمي لا للوطنية ولا للمدنية.

ما نراه اليوم هو عملية استثمار منظم للطائفية في الفضاء العلماني: تبرير القتل بذريعة الخوف من الآخر، وتبرير الاستبداد بذريعة حماية التنوّع، وتبرير الاصطفاف السياسي بذريعة العقلانية، وتبرير الاستقواء بالعدو كخيار نجاة. فتتحوّل الحداثة إلى خطاب وظيفي، والطائفية إلى بنية متغلغلة حتى في لاوعي أولئك الذين لطالما اعتبروا أنفسهم ضدها.

نحن أمام طائفية جديدة، مقنّعة، هجينة، تتخفى خلف الشعارات المدنية وتستمدّ مشروعيتها من الفوضى لا من الوعي. وهي بذلك أكثر فتكاً لأنها ترتدي ثوب العقلانية، وتقدّم نفسها كحامية لما تبقى من المجتمع، في حين أنها تعيد إنتاج انقسامه بشكل أكثر رسوخاً.

لن يُجدي الخطاب الأخلاقي وحده في مواجهة هذا النمط من الطائفية المقنّعة، بل نحتاج إلى مشروع وطني صادق يعيد الاعتبار للمواطنة لا بوصفها شعاراً بل هوية فعلية، ويفكّك الخطابات التي تتدثّر بعباءة العقلانية لتُخفي انحيازات ما قبل وطنية.

إن المطلوب اليوم ليس فقط نقد الغريزة الطائفية، بل مواجهة الانتهازية التي تتلبّس ثياب الوطنية والمدنية والحداثة، وتُفرغها من معناها الحقيقي.

ففي لحظات التحوّل العميق، لا يُقاس الموقف بمدى تناغمه مع الخطاب السائد، بل بقدرته على الحفاظ على بوصلته الأخلاقية والوطنية، بعيداً عن التموضع الغريزي والانحيازات المستترة.

لقد آن الأوان لنعيد تعريف “العلمانية” لا كنقيض للدين فحسب، بل كنقيض لأي انحياز ما دون وطني، بما في ذلك الطائفية المتخفّية تحت لافتات التنوير والواقعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى