من المثقف المشتبك الى المثقف المنصاتي: مقارنة بين جيلين
"الثقافة هي القلعة الأخيرة التي تقف سدا منيعا في وجه الانهيارات الكبيرة"

من المثقف المشتبك إلى المثقف المنصاتي: مقارنة بين جيلين
“الثقافة هي القلعة الأخيرة التي تقف سداً منيعاً في وجه الانهيارات الكبيرة”.
أ. معتز فخرالدين
في لحظات التحوّل الكبرى، يُنتظر من المثقف أن يكون مرشداً ومعبراً عن وعي المجتمع، لا تابعاً له. لكن حين نتأمل المشهد العربي خلال العقود الأخيرة، يصدمنا الغياب أو الانكفاء شبه الكامل لصوت المثقف، خاصة قبل واثناء و بعد الربيع العربي، في مقابل حضور كثيف له في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فما الذي تغيّر؟ وكيف انتقلنا من جيل كان المثقف فيه جزءاً من ملامح المرحلة، إلى جيل بات فيه المثقف أقرب إلى الحياد أو الاستعراض؟
في منتصف القرن الماضي، كان المثقف العربي جزءاً من المشروع العربي التحرري : مقاومة الاستعمار، الوحدة العربية، الاشتراكية، النهضة، تحرير فلسطين… كانت كتابته نضالاً، وموقفه رأياً سياسياً معلناً، ومكانته داخل المجتمع مكانة قيادية.
أما في الألفية الثالثة، فتراجع دور المشروع العربي بل اندثر، ومعه تشرذمت الهوية الثقافية للمثقف. بات الخطاب الفردي، والتعبير الذاتي، والحياد السياسي، هو السائد. لم يعد المثقف حاملاً لقضية كبرى، بل أصبح — في كثير من الأحيان — مراقباً من بعيد، أو منتجاً لمحتوى بلا أثر فعلي
ثانياً:
مثقف الأمس كان مناضلاً: يُعتقل، يُنفى، يُمنع من النشر، ويُصادر كتابه لأنه يقلق النظام. كانت الكلمة حينها فعلاً سياسياً، وكانت للمثقف سلطة معنوية.
في المقابل، مثقف اليوم غالباً ما يكتفي بالأداء: منشور على وسائل التواصل، ظهور في برنامج حواري، أو تغريدة منمقة. الخطورة هنا ليست في تغيير الأدوات، بل في تغييب الإشكالية بين المثقف والسلطة، واختفاء الفرق الواضح بين حامل المشروع الفكري والمروّج
ثالثاً:
مثقف الخمسينيات و الستينيات والسبعينيات كان ينتج كتاباً ومعرفة، يؤسس مجلةً ورأي، يُترجم افكاراً ومفاهيم، يحاضر ويثقف، وينخرط في نقاش فكري طويل الأمد. كانت المعرفة مشروعاً، والكتابة أداة بناء وتوجيه.
أما في زمن المنصات الرقمية، فالمثقف بات أسير اللحظة والسرعة. تنتج أفكاره على شكل محتوى، غالباً سهل الهضم، سريع النسيان. العمق تراجع أمام التفاعل، والنص الطويل فقد مكانته أمام المقطع المختصر أو اللايف التفاعلي
ولتبسيط الصورة، يمكن النظر إلى الفارق بين من حملوا مشروعاً فكرياً متكاملاً مثل ياسين الحافظ ،عصمت سيف الدولة ،إدوارد سعيد، صادق جلال العظم، ومحمد عابد الجابري وغيرهم، ممن كانت كتاباتهم تدخل في صلب النزاعات الكبرى حول الهوية والدولة والحرية، وبين مثقفي الألفية الثالثة الذين يندر أن نجد بينهم من يُنتج معرفة مؤسِّسة. صحيح أن بعض الأسماء ما زالت تحاول الحفاظ على هذا النفس، مثل عزمي بشارة ، فواز طرابلسي ، برهان غليون وغيرهم، إلا أن المشهد العام يطغى عليه حضور “المؤثر الثقافي” أو “المثقف الرقمي” الذي يظهر في مقاطع قصيرة، أو في بث حيّ، أو من خلال محتوى إعلامي سريع التبخر، حتى وإن كان جادًّا في ظاهره. لقد حلّ التفاعل محل التنظير، والمشهدية محلّ البناء المعرفي، وأصبح التأثير مرهوناً بعدد المشاهدات لا بقوة الفكرة أو عمق السؤال
رابعاً: كان المثقف العربي جزءاً من المشهد العام: يُستشار، يُستضاف، تُدرّس نصوصه، وتُناقش أفكاره. كان فاعلاً في الجامعات، والصحف، والمنابر الثقافية.
اليوم، المجال العام بات محكوماً إما بالسطحية الإعلامية أو التوجيه الأمني أو التمويل المشروط. من لم يندمج في هذه المنظومات، وجد نفسه على الهامش. ومع صعود ما يُسمّى بالنخب البديلة — من مؤثرين ومحللين متعددي المهارات — أُقصي المثقف الحقيقي لصالح من يملكون قابلية التوظيف الإعلامي.
خامساً:
كان الجمهور يحترم المثقف ويخضع لتأثيره، وكان الحوار معه جزءاً من الوعي العام. أما اليوم، فالعلاقة بين المثقف والجمهور تعاني من انقطاع أو ريبة. جزء من ذلك يعود إلى تفكك المرجعيات الثقافية، وجزء آخر إلى إخفاق المثقف نفسه في تجديد خطابه.
في بيئة باتت تحكمها خوارزميات السوشيال ميديا، يبدو أن أقل ما يُقال أسرع انتشاراً، أما المثقف، فقد وجد نفسه إن أراد الاحتفاظ بعمقه بعيداً عن أضواء اللحظة
لا يمكن لمثقف اليوم أن يعود إلى شروط القرن الماضي، فالعالم تغيّر، والسياقات السياسية والثقافية تبدلت. لكن ما لا يتغير هو جوهر المثقف: الالتزام بالحق، والاشتباك مع قضايا الناس، والاحتفاظ باستقلاله الأخلاقي والفكري.
إن استعادة الدور لا تعني الحنين إلى الماضي، بل إعادة تعريف هذا الدور في ضوء التحديات الجديدة: من هيمنة الشعبوية، إلى صعود الإعلام البديل، إلى تفكك الدولة الوطنية.
فإذا لم يَعد المثقف اليوم لقول ما لا يُقال، وتقديم ما لا يُطلب، فلن يبقى من الثقافة سوى صدى خافت في حفلة من الضجيج
من هو المثقف اليوم؟
محاولة لتعريف الدور في زمن التلاشي.
في زمنٍ تتآكل فيه المعاني، وتختلط فيه الوظائف، ويُستبدل العمق بالتفاعل، يبدو طرح سؤال “من هو المثقف؟” أشبه بمحاولة الإمساك بخيط المعنى وسط عاصفة من التشويش.
لقد تغيّرت بنية الحقول المعرفية، واختلفت تموضعات السلطة، وتحوّل المجال العام نفسه إلى ساحة إعلامية تخضع لقواعد السوق لا لقواعد الفكر. ومع ذلك، يبقى تعريف المثقف، رغم كل التحولات، ضرورة معرفية وأخلاقية لا يمكن القفز فوقها.
أولاً:
المثقف لا يُعرّف بمكان عمله، ولا بكونه أستاذاً جامعياً أو كاتباً أو إعلامياً. فكم من كاتب بارع لا يحمل من معنى الثقافة شيئاً، وكم من محاضر مرموق لا يقول شيئاً جديداً.
المثقف، في جوهره، هو صاحب موقف من العالم، من الإنسان، من العدالة، من الحرية، ومن الكرامة.
هو الذي يطرح السؤال حيث يُفرض الصمت، ويوقظ التفكير حيث تسود البلاغة الفارغة، ويزعج السائد حين يتحوّل السائد إلى قيدٍ على العقل.
ثانياً:
إذا كان الخبير يشرح، والسياسي يُنفّذ، والمفكر يؤسس، فالمثقف يجمع بين القلق المعرفي والحسّ الأخلاقي، بين الفهم والاشتباك.
المثقف ليس من يملك المعلومة فقط، بل من يحوّلها إلى أداة مساءلة، ومن يحوّل المعرفة إلى سؤال مفتوح لا إلى إجابة جاهزة.
ليست مهمته شرح الواقع كما هو، بل مساءلة ما كان يمكن أن يكون عليه الواقع، لو وُجد وعي مختلف، وقيمٌ أخرى، وصوتٌ مستقل.
في هذا السياق، يُمكن استحضار نماذج مثل محمود أمين العالم في مصر، وإدوارد سعيد في الولايات المتحدة، وهما من المثقفين الذين واصلوا طرح أسئلتهم النقدية من داخل الجامعات والمؤسسات، رغم ما كان يحيط بهم من تضييق أو رفض ضمني لصوتهم. لم يغادروا مواقعهم، بل تمسكوا بمواقفهم داخلها، مؤكدين أن حرية المثقف لا تتطلب العزلة، بل الشجاعة على قول ما لا يُراد له أن يُقال، حتى من قلب النظام نفسه.
ثالثاً:
في زمن هيمنة الخوارزميات، وتحوّل الخطاب إلى أداء، والموقف إلى محتوى، والتأثير إلى أرقام، يجد المثقف نفسه أمام خيار صعب:
إما أن يتحوّل إلى “مؤثر” ضمن لعبة الاستهلاك، أو أن يبقى حاملاً لنار السؤال في الظل.
لكن التراجع عن الضوء لا يعني العزلة، بل إعادة التمركز.
المثقف اليوم مدعو إلى بناء أدوات جديدة للتحدي: أن يعيد تأسيس العمق داخل السطح، أن يشتبك مع العالم دون أن يُختزل فيه، وأن ينطق بما لا يمكن ترويجه، لا بما يُطلب قوله.
رابعاً:
المثقف الذي يتحدث بلغة السبعينيات فقط، يخسر الجيل الجديد.
لكن المثقف الذي يُفرّط بالمفاهيم لحساب الرواج، يخسر نفسه.
التجديد لا يعني التنازل، بل يعني القدرة على التعبير عن المبادئ بلغة اللحظة، دون أن يُستهلكها السوق أو تُفرغها الخوارزميات من معناها.
بعض الأصوات اليوم، وإن بدت “مؤثرة”، لا تحمل إلا صدى السوق لا روح الفكر، ولا يمكن لمثقف أن يبني جسراً نحو المستقبل إن تخلّى عن صلابته النقدية.
خامساً:
في زمن الانقسام الحاد، والانتماءات الفئوية، يبدو صوت المثقف المستقل ضرورة ملحّة.
لكن الاستقلال لا يعني الحياد، ولا يعني الوقوف على مسافة واحدة من الظالم والمظلوم.
المثقف الحقيقي يلتزم بالقيم، لا بالأنظمة. بالإنسان، لا بالجغرافيا. بالحق، لا بالولاء.
هو منحاز بطريقته، لكن انحيازه أخلاقي ومعرفي لا أيديولوجي. وكما أوضح سارتر في ‘المثقف والسلطة’، فإن المثقف الذي يصمت أمام الظلم لا يكتفي بالخذلان، بل يشارك فيه.
أن تكون مثقفاً اليوم، لا يعني أن تكون صدى لما يُقال، بل أن تقول ما لا يُقال.
أن تحمل قلق الأسئلة في زمن الإجابات السريعة.
أن ترفض الطمأنينة في حضرة الخراب.
وأن تصرّ، رغم كل شيء، أن الثقافة، مهما تقلّصت مساحتها، ستبقى قلعة من نور في عتمة الضياع.
قد لا تُسمَع، وقد لا تُشاهد، لكنك حين تكتب أو تقول أو تفكر بما لا يريد السوق ولا السلطة ولا الجهل أن يُقال، فأنت تحرس المعنى.
وفي زمن التلاشي هذا، دورك هو أن تكون النبراس، ولو خفت نورك، لمن لا ضوء لهم