إيران والرد المحتوم: بين استعادة الهيبة وتفادي الانتحار الاستراتيجي

إيران والرد المحتوم: بين استعادة الهيبة وتفادي الانتحار الاستراتيجي
د. محمد بن أحمد المرواني
حين تتدخل واشنطن بصمتٍ صاخب
لم يكن التدخل العسكري الأميركي في الحرب الجارية بين إيران وإسرائيل مجرد دعم لوجستي أو غطاء سياسي. بل كان عملاً عسكريًا مباشرًا ترك بصمته الثقيلة على موازين القوى في المنطقة، بعدما تمكنت واشنطن، باستخدام أحدث تقنياتها، من قصف ثلاث منشآت نووية حساسة في عمق الأراضي الإيرانية، كانت من الصعب استهدافها أو حتى الوصول إليها.
وبعد هذه الضربة الدقيقة، أعلنت الإدارة الأميركية أن تدخلها العسكري “انتهى مؤقتًا”، مبررة العملية بأنها تهدف إلى منع إيران من بلوغ العتبة النووية، لا إلى شنّ حرب مفتوحة.
لكن هذه العملية ( رغم قصرها ) وضعت إيران في موقع جديد: مواجهة مباشرة، غير مسبوقة منذ عقود، مع الولايات المتحدة الأميركية، دون أن تكون هي البادئة بالتصعيد.
السؤال الذي يفرض نفسه: هل يجب أن ترد إيران؟
المعادلة أمام طهران معقدة، فهناك من يستحضر مشهد قصف “مفاعل تموز” العراقي في الثمانينيات، عندما اختار نظام بغداد الصمت وعدم الرد على الغارة الإسرائيلية، مما فسّر لاحقًا كضعف استراتيجي. إلا أن النظام الإيراني، بطبيعته وتركيبته، لم يكن يومًا من أولئك الذين يسكتون طويلاً على الضربات.
غير أن هذا القرار ( قرار الرد ) لا يُتخذ في فراغ، بل وسط انقسام داخلي بين أجنحة السلطة:
التيار المتشدد، الذي يهيمن على مفاصل الدولة، يرى أن الرد ضرورة وطنية لحفظ ماء الوجه، خصوصًا أمام الداخل الإيراني الذي يرى في التراجع ضعفًا.
التيار الأكثر تشددًا، يدفع نحو رد شامل يشمل ضرب القواعد الأميركية في الخليج وشرق المتوسط، وإغلاق مضيق هرمز، ولو كلّف ذلك حربًا كبرى.
أما الأصوات المعتدلة، فقد تراجعت مؤقتًا تحت وقع الضربة الأميركية، لكنها ما زالت حاضرة خلف الستار، تترقب ميزان القوى داخل النظام.
الوضع الإقليمي: حلفاء منهكون وسوريا متغيرة
في المشهد الإقليمي، لم تعد إيران محاطة بذات الحلفاء كما في سنوات سابقة:
حزب الله اللبناني تلقى في الحرب الأخيرة ضربة قاسية أفقدته كثيرًا من قياداته الميدانية وقدرته التعبوية.
الحوثيون في اليمن يعانون من استنزاف عسكري وجغرافي، أفقدهم السيطرة على عدد من المواقع الحيوية.
أما سوريا، فلم تعد دولة ذات نظام موالٍ بالكامل لإيران، كما كانت في العقد الماضي، بل باتت تحاول أن تلعب على التوازنات، وتسعى للانفتاح على محيط عربي ودولي أوسع، مما ازال قدرة طهران على استخدامها كساحة خلفية في مواجهاتها.
اما المليشيات الموالية لإيران في العراق فإنها في حالة تراجع و تقيد من الداخل العراقي و ترقب نتيجة لأوضاع إيران الحالية.
هذا التآكل في المجال الحيوي الإقليمي يجعل حسابات الرد أكثر دقة، ويقلل من خيارات “الرد بالوكالة”، كما كان معتادًا سابقًا.
الاقتصاد الإيراني: هشاشة داخلية تحت الضغط
بعد سنوات من العقوبات، ومنع التحويلات المالية، وانهيار منظومة التبادل التجاري، يقف الاقتصاد الإيراني اليوم على حافة الانهيار. التضخم مستمر، والعملة الوطنية تواصل فقدان قيمتها، والبطالة تتصاعد.
تضاف إلى ذلك الضربات الإسرائيلية والأميركية الأخيرة التي أصابت الدفاعات الجوية وبعض القدرات الصاروخية، وهو ما يُضعف الردع العسكري ويُفقد إيران مساحة من المناورة.
خيارات الرد: بين الرمزية والتصعيد المحسوب
في ضوء هذا الواقع، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لرد إيراني محسوب:
1. ضربة مباشرة لقاعدة أميركية في العراق
يرجّح أن تقوم إيران بشكل مباشر ومن خلال قواتها الخاصة باستهداف إحدى القواعد الأميركية غير الحيوية داخل العراق، خصوصًا تلك التي لا تحوي عناصر قتالية رئيسية أو مراكز قيادة حساسة. هذه الضربة، إن تم تنفيذها بهذا الشكل، ستحمل رسالة واضحة دون أن تفتح الباب لتصعيد أميركي شامل.
وقد يتم تنفيذ هذه الضربة بطريقة تتيح للإعلام الإيراني تصويرها كـ”رد تاريخي”، في حين تُبقي الباب مواربًا لتخفيف التوتر عبر القنوات الدبلوماسية لاحقًا.
2. تصعيد ضد إسرائيل
من وجهة النظر الإيرانية، فإن إسرائيل هي من فجّرت الأزمة، وهي من دفعت الولايات المتحدة إلى دخول الحرب. وعليه، فإن الرد الأقوى سيكون من خلال استهدافات مكثفة داخل العمق الإسرائيلي، تُرهق المنظومة الدفاعية وتخلق حالة استنزاف تدريجي يجعل اسرائيل تدفع الثمن الأكبر لحرب المفاعلات.
إيران قد تُدخل تقنيات جديدة في هذا الصراع، وربما تلجأ إلى موجات من الصواريخ والمسيّرات بشكل متتالٍ يفرض على إسرائيل حالة طوارئ مستدامة.
3. عمليات أمنية غير معلنة في الخارج
في المسار الثالث، قد تستخدم طهران أدواتها السرّية عبر عمليات نوعية خارج حدودها، تستهدف مصالح أميركية أو أوروبية دون إعلان رسمي عن المسؤولية. وقد تشمل هذه العمليات أهدافًا اقتصادية أو تجمعات رمزية، بما يعيد لأميركا شعور “التهديد الممتد”، ويمنح طهران هامش المناورة دون حرب شاملة.
الخيارات القصوى: مناورات لن تُرجّح
أما إغلاق مضيق هرمز أو استهداف مباشر لقواعد أميركية في الخليج أو تركيا، فهي سيناريوهات قصوى لا تُستبعد تمامًا، لكنها في الأغلب لن تُنفّذ، لخطورتها الشديدة، ولأنها قد تجرّ إيران إلى حرب وجودية مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي ودول اقليمية و عالمية اخرى مجتمعة.
ومن المرجّح أن تُهزم هذه الرؤية المتطرفة داخل النظام الإيراني لصالح رؤية أكثر حذرًا تحافظ على بقاء الدولة واستمراريتها.
نحو رد يوازن بين الكرامة والعقلانية
من المنتظر أن تختار القيادة الإيرانية سيناريو يوازن بين:
الرد المباشر المحدود الذي يُعيد رسم خطوط الهيبة،
والامتناع عن الدخول في مواجهة إقليمية أو دولية واسعة.
قد تسعى إيران ( عبر هذا الرد ) إلى تسجيل نقطة “كرامة استراتيجية”، ثم تعود سريعًا إلى طاولة المفاوضات، إن لاحت لها فرصة رفع العقوبات، خاصة بعد تدمير جزء من برنامجها النووي، وهو ما يُضعف مبررات الضغط الدولي عليها مستقبلاً.
خاتمة: الصراع بين البقاء والانتقام
تدرك طهران أن الردّ العسكري الشامل قد يؤدي إلى تكرار سيناريوهات كارثية عاشتها المنطقة سابقًا، وتحديدًا في العراق. لكنها في الوقت ذاته تدرك أن الصمت قد يُفقدها مكانتها الإقليمية و”هالتها الردعية”.
لذا، فإن الرد الإيراني سيكون، على الأرجح، مدروسًا بدقة، مباشرًا في توقيته، رمزيًا في مضمونه، انتقائيًا في أهدافه، ومدعومًا بخطاب سياسي قوي يروّج له داخليًا وخارجيًا، على أن يبقى الباب مفتوحًا لمبادرات التهدئة إذا ما تبدّل الموقف الأميركي أو ظهرت ملامح تفاهم دولي جديد.
ملاحظة ختامية: ما بعد الصمت… حسابات غير مكتملة
وإن اختارت إيران مسار الخنوع و التهدئة الظاهر و عدم الرد، فلا يعني ذلك بالضرورة تخليها عن طموحاتها الاستراتيجية أو قبولها الدائم بالأمر الواقع. فثمة احتمالان يُحتمان على المراقب عدم إسقاط خيار الرد المؤجل من الحسابات:
الأول: أن يكون هذا الصمت استراتيجيًا، مدفوعًا برغبة إيرانية في الحفاظ على ما تبقى من بنيتها النووية، والعمل بصمت على استكمال مشروعها بعيدًا عن ضجيج المواجهات العسكرية. وهو صمت محسوب، لا عن ضعف، بل عن تصميم طويل النفس.
الثاني: أن تختار إيران الانكفاء المؤقت، بانتظار لحظة مناسبة تُفاجئ فيها العالم بردّ نوعي ومدوٍ، يعيد رسم قواعد الردع في الإقليم، ويستهدف المصالح الأميركية أو الإسرائيلية بشكل مباغت، بعد أن تكون ذاكرة العالم قد خفّت تجاه ما جرى.
في كلتا الحالتين، فإن قراءة السلوك الإيراني تقتضي التمسك بمعادلة: الصمت وعدم الاستكانة لا يعني الرضا، والتريث لا يعني النسيان. فإيران، كما خبرها العالم، قد تُراكم صبرها… لا لتتراجع، بل لتعود حين تحين اللحظة بثقلٍ لا يُتوقع.