كل الثقافة

عيون مدينة؛ ذلك النسر الذي افترسني

قصة قصيرة

شارك

عيون مدينة؛ ذلك النسر الذي افترسني

بقلم: سالم الباوي

إنّه مسلسلنا المفضل؛ هذا كلّ ما في الأمر.. كنا نرجو من الله أن يكون الطقس شرجيّاً حتى نتمكن من متابعة حلقة جديدة من مسلسل “النسر وعيون المدينة”. كان يُبث من التلفزيون العراقي حينما كانت الحرب في ذروتها. كان الجميع ينتظره بلهفة واشتياق. كانت الشوارع تخلو من المارة عند بثّ حلقاته. معظم عوائل حيّنا في تلك الفترة لم يكونوا يمتلكون التلفاز. فكان الناس تجتمع في بيوت الميسورين الذين لديهم اجهزة التلفاز بغية مشاهدة المسلسل و الاستمتاع به وقد كنّا من تلك العوائل الميسورة الذين يملكون واحدًا من هذه الاجهزة. كان التلفزيون خاصتنا من ماركة بيلير. كان الجهاز عبارة عن صندوق خشبي به أبواب، تُفتح لتُظهر الشاشة. وعند تشغيله، كان يجب أن ننتظر أكثر من خمس دقائق حتى تظهر الصورة على الشاشة. كان تلفزيوننا يعرض الصور بالأبيض والأسود.

كان شقيقي الأكبر يصعد قبل بثّ المسلسل إلى السطح لضبط هوائي الاستقبال. كنا ننتظر أمام الشاشة الفارغة، وعندما تظهر الصورة كنا نصرخ جميعاً قائلين: “جميل، جميل!”.
ينزل أخي من السطح حتى لا يفوته العرض. الامر الرائع هو كل من يأتي إلى منزلنا كان يحمل معه شيئًا للتحلية لزيادة المتعة و الترفيه. كان الجميع يشاركون مشاعر الفرح والحزن مع أحداث المسلسل.
بدأ المسلسل بثه في شهر رمضان، مما أثّر سلبا على ارتياد بعض الجيران للمسجد. كان إمام المسجد يطرق الأبواب ويذكّر الناس بأنه ستُعقد مجالس الوعظ بعد انتهاء “النسر وعيون المدينة”.

هي وأمها كانتا تأتيان لمتابعة المسلسل. وعلى سبيل المصادفة، رأيتها تحدق فيّ، فشعرت بمشاعر ممزوجة بالارتباك والتعلق. كلما نظرتُ إليها كانت ترد النظرة. ابتسمت لها وردت هي الابتسامة، فشعرت بعلاقة غريبة تتشكل بيننا.

بعد انتهاء المسلسل، كنا نجتمع نحن الأطفال في الشوارع المظلمة. في ذلك الوقت، كانت شوارع كوت عبدالله غير مُعبّدة، ولم تكن هناك مصابيح إنارة على أعمدة الكهرباء. وبعد لعب “عظيم الضاع” كنا نجلس بجانب منزل الشيخ حنش الذي كان يضيء مصباحًا خارج بيته؛ كان الجميع يجتمع هناك، فتدور الأحاديث حول الحرب أو أحداث المسلسل. كنت جالسًا وحدي على قطعة من جذع نخلة. خططت اسمها على الأرض. رآني جويسم. جويسم كان صديقي المقرب وكنا نتبادل الأسرار. لكن في مدينتنا قصة حب من هذا النوع تعد خطيرة؛ و ممنوع يعلم بها أحد. طلب مني مراسلتها على غرار ما يفعله العشاق في الأفلام. لم نكن نمتلك هاتفًا أرضيًا آنذاك، فأردتُ أن أقتدي بما كان يفعله الفنانون مثل عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش في الأفلام المصرية.
لم أكتب رسالة حب من قبل، ولم أكن أمتلك العبارات الكافية للتعبير عن مشاعري. في السابق، كنت أكتب الرسائل لخالي الجندي الأمّي بناءً على طلب من جدتي، مُخبرًا إياه بأحدث الأخبار في المدينة. وكان معظم الجنود على الجبهة لا يقرئون، لذلك كنت أكتب ما يجول بخاطري. المهم أن تمتلئ الصفحة بآثار قلمي. كانت رسائلي بمثابة واجباتي المدرسية أو القصص القصيرة التي قرأتها في القصص التي كان يأتي بها معلمنا، والذي كان يحثنا على القراءة.
كتبت اسمها وأضفتُ كلمة “أحبك”، ثم توجهتُ إلى بيتهم لتسليمها الرسالة. لكن والدتها فتحت الباب. انتابني الهلع وشعرت بالخوف الشديد. فقدتُ السيطرة على حواسي، فسقطت الرسالة من يدي. لم أتجرأ على التقاطها من الأرض وهربتُ.
ظللتُ متوجسًا طوال النهار من احتمال كشف سرّي، لكن لم يصدر من بيتهم أي صوت أو ضوضاء. كان من الممكن أن يحدث في مدينتنا في هكذا حالات أن تندلع معارك ويُجبر الشاب على دفع ما يُعرف بغرامة الشرف لأهل الفتاة.
في تلك الليلة، لم تحضر الأم وابنتها. بدأ الجميع يتساءل عن سبب غيابهما. كشفت إحدى الجارات أنهما ذهبتا إلى منزل آخر لمشاهدة الحلقة. شعرت عائلتي بالحزن لهذا الانكسار في العادات. سُئلت الأم عن سبب عدم الحضور، ولكنها لم تُجيب. على الرغم من ذلك، كانت نظرات والدتي تُشير إلى أن سبب غياب الفتاة هو أنا، مع أن والدتي لم تنطق بذلك صراحةً.
منذ تلك الليلة وحتى نهاية المسلسل، فقدتُ الرغبة في متابعته. وإلى اليوم, بعد أربعة عقود، أشعر بالحزن لأني لا أعرف كيف انتهى المسلسل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى