كل الثقافة

إمرأه بلا عنوان

شارك

امرأة بلا عنوان

 

أ.  أمنية كانوني

        في منتصف الليل تغادر روزا عالمها الصغير المليء بالأضواء والضجيج، تمشي بخطى متثاقلة لتقف على بعد أميال على حافة الطريق، تشير بيديها للسيارات. أحست فجأة بتعب شديد فخلعت حذاءها ذو الكعب العالي ورمته أرضا وجلست ببطء لتمدد قدميها المتعبتين على الرصيف شاردة في الأنوار الساطعة بوجه شاحب رغم مساحيق التجميل.

       ما ان مضت ثلاث دقائق حتى تسلل البرد الى أطرافها وحاصرها المطر من جميع الجهات، حاولت النهوض جاهدة وهي ترتجف كالطير الذبيح، طالبة الدفء من معطفها الثقيل.

وقعت أمامها سيارة سوداء، فتحت بابها الخلفي وركبت دون أي كلام، سألها سائقها: “الى أين يا سيدتي
لم تجبه في الحال، أحست بالدوران وانتابها الغثيان بعدما أيقنت أنها نسيت العنوان. فتحت حقيبتها اللامعة، وجدت أوراقا، نقودا ومفاتيح.

     أخذت تتحسها بأصابعها لتنعش ذاكرتها المعطوبة، فدخلت في صمت رهيب حتى ظنها السائق خرساء. وبعد هنيهة أجابت عن سؤاله بسؤال: “وأنت الى أين ذاهب؟
اندهش من قولها فأشار بسبابته الى عداد السيارة واصلت كلامها: “خذني الى أقرب فندق

     لما وصلت خرجت في تراخ وزنابير تدور حول رأسها: من أنا؟ … أين أنا؟ .. استقبلها كلب بنباحه المتواصل كأنه سمع أنين بطنه الجائعة، رافقها الى المدخل وهو يلعق قدميها الحافيتين المجمدتين. أنهت بسرعة إجراءات المبيت وصعدت المصعد متكئة على أحد موظفي الاستقبال الذي انصرف فور فتح باب غرفتها.


    استلقت على السرير وغصت في نوم عميق، صوت شخيرها يسمع من بعيد. بعد ساعتين تقريبا، فتحت عينيها والدهشة ملتفة حولها كالعنكبوت. عاجزة عن تحريك بيديها المعقودتين فوق صدرها كأنما أحدا ربطها برباط سحري خانقا أنفاسها. تذكرت حينها كلام أمها عن المس الشيطاني فأخذت تتلو سورة الفاتحة والعرق يتصبب من جبينها، لم تتذكر سوى الحمد.
تاهت في متاهة ذاكرتها وبكت في صمت رهيب. أدارت عينيها تتحس المكان، على يمينها قلم مداد يتحرك ليسقط وتسقط معه الأوراق، وعلى يسارها قنينة زجاجية صغيرة لونها البني يحجب ما بداخلها قد تكون لعطر أو دواء..غير متأكدة فالعين تخدع. تحجب عنا الأشياء الحقيقية، ها هي تعكس على المرآة المسمرة أمامها صورة لوجه منسحب ملامحه بصباغات يغلب عليها لوني الأحمر والأسود يبدو أنه وجه ممثلة محترفة بمسرح الأشباح، توحي عينيها الغريبتان ونظراتها المفزوعة أنها تبحث وراء الجدران عن باب النجدة.


    أرخت تكة سروالها الضيق فأحست بريح تنفذ لجسمها وتحررها من المجهول. فتحت شفتيها لتنفث دخان السجائر على شكل دوائر… وهي تمعن النظر في الوجه المقنع، ربما صادفته في إحدى الحفلات أو السهرات. بدت الرؤيا ضبابية فالدخان ملأ الغرفة بحلقاته اللامتناهية… أبحرت بها الى يقين لا شك فيه انها أمام بقايا روح تصغي لحوار بين نورها وظلها، في مكان غريب عن مكانها، تلعب أدوارا صممت لغيرها.


    تحسست جيب معطف الفرو، أخذت هاتفها وكتبت على حسابها الشخصي؛ انا إلهام راعية الأغنام ذنبي الوحيد هو الحرمان، فساقني القهر إلى الإدمان. إدمان الأضواء والشهرة وجمع المال… فلعبت لعبة النسيان ثم نسيت اسمي ونسيت العنوان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى