مقالات كل العرب

مصيدة روسيا الأوكرانية..قراءة في تثبيت القطب الواحد عالميا

شارك

مصيدة روسيا الأوكرانية
قراءة في تثبيت القطب الواحد عالميا

 

أ. نسيم قبها

بعد إعلان الرئيس بوتين فجر الخميس 24 شباط/فبراير إطلاق عملية عسكرية في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، وامتداد العملية لتشمل محاور أوسع، إذ وصلت في اليوم الثاني ميناء أوديسا وخريسون وميناء مريوبل وأطراف العاصمة الأوكرانية كييف، فقد لبست روسيا الثوب المفروض عليها عسكريا.
وفي كلمة المتلفزة ، فال بوتين “الغرب ترك لنا “صفر” خيارات، فما يحدث الآن أمر اضطراري ولم يتركوا لنا أي خيار”. وأكد “إن روسيا لن تسمح لأوكرانيا بامتلاك أسلحة نووية”. وإن “روسيا لا تخطط لاحتلال الأراضي الأوكرانية. روسيا تعتبر أن من المهم أن تتمتع جميع شعوب أوكرانيا بحق تقرير المصير”. وأكد أنه: “لا يمكن لروسيا أن تشعر بالأمان وتستمر في الوجود والتطور في ظل تهديد دائم من أوكرانيا”. وقال إن “محاولات موسكو الاتفاق على عدم توسيع الناتو باءت بالفشل، والوضع بشأن توسع الحلف أصبح أكثر خطورة ولم يعد بإمكاننا الصمت”. وأضاف: “بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها هذه سياسة احتواء لروسيا لكنها بالنسبة لنا هذا تهديد حقيقي لوجود الدولة”. وسبق وحذر الغرب بشأن الأزمة الأوكرانية أنه “يتم دفع روسيا للجدار”. وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بقوله: “إن الولايات المتحدة تستخدم أوكرانيا لردع روسيا. الناتو سعى لضم أوكرانيا وجورجيا متجاهلًا تصورنا الأمني. حاولنا إقناع كييف والغرب بتنفيذ اتفاقيات مينسك لكن محاولاتنا لم تلق صدىً”، وأضاف “إن النظام الحالي في كييف خاضع للولايات المتحدة والغرب والنازيين الجدد، وإن الرئيس الأوكراني لم يلتزم باتفاقية مينسك وتحالف مع الناتو وسعى لامتلاك أسلحة نووية”. ومن جهته قال رئيس الاستخبارات الروسية: “روسيا لن تسمح بأن تتحول أوكرنيا خنجرًا في يد أميركا”. وكل ذلك يُمثل المخاوف الحقيقية والأسباب الجوهرية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وكانت روسيا قد وفَّرت المبرر لعمليتها العسكرية من خلال اعترافها رسميًّا باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، ومصادقة البرلمان الروسي على قرار إرسال قوات خارج البلاد، وإصدار بوتين أمرًا بإرسال قوات عسكرية بناءً على طلب إدارتي المنطقتين الانفصاليتين الدعم من الرئيس بوتين؛ لصد عدوان القوات المسلحة الأوكرانية. مما يعني أن التحضيرات الروسية لغزو أوكرانيا، ومنع انضمامها لحلف الناتو بالقوة، كان مخططًا له فيما إذا فشل بوتين في التوصل لحل سياسي مع أميركا، وفشل رهانه على قدرة فرنسا وألمانيا على رفض الضغوط الأميركية حفاظًا على مصالحهما مع روسيا. كما يعني أيضًا أن أميركا كانت تعرف ما تخطط له روسيا، ورفضت الضمانات الأمنية لجر روسيا إلى عمل عسكري يؤدي إلى عزلها، وضرب علاقتها بأوروبا، وبخاصة مع فرنسا وألمانيا الأكثر تضررًا من تصاعد الأزمة الأوكرانية، وهو الأمر الذي لم يُخفه الناطق باسم الحكومة الألماني بقوله: “إن تعليق العمل بسويفت المالي ستكون له آثار كبيرة على الاقتصاد الألماني، وإن عددًا من الدول رفضت أي عقوبات تتعلق بالغاز وإمدادات النفط”. ولهذا ناشد الرئيس الألماني بوتين أن يوقف (جنون هذه الحرب).
وفور بدء العملية العسكرية انطلقت حملة سياسية وإعلامية غربية منددة بالهجوم الروسي متوعدة روسيا بالعقوبات القاسية، وتداعت الدول الأوروبية وحلف الناتو للاجتماع، وبحث الحرب الروسية في أوكرانيا، ومناقشة العقوبات المزمع فرضها على روسيا.
ومن قراءة تصريحات المسؤولين الروس والأوكرانيين والأوروبيين يتضح ما أكدناه سابقًا أن توسيع الناتو ليضم أوكرانيا بتحريض أميركي وتحفظ فرنسي ألماني إنما يهدف إلى خلق بؤرة توتر على حدود روسيا ومحاصرتها في أهم مواقع مجالها الحيوي والجيوستراتيجي؛ إذ إن انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، أو نشر قوات الناتو فيها، سيقيد يد روسيا عن استعمال القوة ضدها والتي حذر رئيس الاستخبارات الروسية من أن تصبح خنجرًا بيد أميركا. وذلك أن هدف أميركا هو أن تبقي حالة عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفات بوتين حاكمة للعلاقة الروسية الأوروبية؛ لتبرير بقاء حلف الناتو وتحكم أميركا في أمن أوروبا.
وفي هذا السياق يمكن القول إن بايدن قد نجح في جر بوتين إلى عمل عسكري مرعب لأوروبا، بعد رفض أميركا للضمانات الروسية، والتي أهمها عدم توسيع حلف الناتو باتجاه روسيا، كما نجح في تصوير العدوان الروسي على أوكرانيا بالعدوان على أوروبا وقيم الحرية والديمقرطية، وعاجل مع بريطانيا إلى تعزيز قوات الناتو في دول البلطيق وشرق أوروبا، ونجح أيضًا في حشد الدول الأوروبية لفرض عقوبات على روسيا مستغلًا رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي ورئاسة ألمانيا لمجموعة الدول السبع، وهما الدولتان اللتان حاولتا حل الأزمة سياسيًّا لتلافي تداعياتها عليهما، ويبدو أن أميركا استثنت قطاع الطاقة ونظام سويفت من العقوبات لتداعياتهما على أوروبا، ومن أجل تشجيع فرنسا وألمانيا على فرض عقوبات على بوتين والنظام المالي بين أوروبا وروسيا؛ ولهذا شدد الرئيس الأميركي جو بايدن في بيان مشترك مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في نهاية شهر كانون ثاني/يناير الماضي على أن هناك التزامًا مشتركًا بالمحافظة على أمن الطاقة في أوروبا. ولا يخفى أن من شأن العقوبات أن تضعف روسيا وتضعف العلاقات بين الروس والأوروبيين وتدفع إلى التباعد بينهما، كما أن توحد أوروبا واصطفافها خلف الولايات المتحدة سيجعل أميركا تقود أوروبا في المستقبل بمقتضى وحدة مواقف الحلف وقيم الحرية والديمقراطية. وهو ما أكدت عليه رئيسة المفوضية الأوروبية في اللقاء الصحفي المشترك مع السكرتير العام لحلف الناتو، بقولها: “نحن أكثر اتحادًا وتصميمًا من أي وقت مضى. نحن اتحاد واحد، تحالف واحد، متحدون في الهدف، هذه الأزمة ستجعلنا اكثر تقاربًا”.
وأما الأهداف العسكرية الروسية فتشي بها محاور الهجوم الروسي الذي استهدف إقليم دونباس بغرض استعادة المواقع الإدارية التابعة للإقليم قبل سنة 2014، والخارجة عن سيطرة الانفصاليين، واستهداف اللسان الساحلي الاستراتيجي في منطقة خيرسون الذي يربط إقليم دونباس مع جزيرة القرم؛ لاستعادة السيطرة على مصدر المياه الذي قطعته الحكومة الأوكرانية، والهجوم على ميناء أوديسا وميناء مريوبول لشل الوضع الاقتصادي الأوكراني لتحريض الشعب على الحكومة والضغط على زيلنسكي للاستسلام. وهذا بالإضافة إلى الاقتراب من جمهورية ملدوفا القريبة من أوديسا وتهديدها بشأن ملف منطقة ترانسنستريا الانفصالية والموالية لروسيا، والتي تضم الجيش الرابع عشر الروسي الذي يرابط على حدود رومانيا. أما الهجوم من جهة روسيا البيضاء فيهدف إلى السيطرة على مفاعل تشرنوبل النووي، ومطار غوستوميل المهم، وبالتالي تطويق العاصمة كييف الذي بات واضحًا. وتبرز الأهداف الروسية بشكل أوضح في تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف حيث قال: “بعد استكمال هذه العملية العسكرية وتحرير أوكرانيا من العسكرة سنسمح لشعبها بتقرير مصيره. مستعدون للتفاوض فقط عند تنفيذ شروط بوتين بأن تلقي أوكرانيا السلاح وتشكل حكومة ممثلة للجميع”. وهذا يجعل خيار دخول كييف، أو محاصرتها وإسقاط الحكومة، أو إرغامها على الحياد بالقوة، واردًا. لكنه قام بطمأنة أوروبا قائلًا: “روسيا ستستعيد السلام في أوكرانيا بسرعة وتمنع نزاعًا أكبر في أوروبا”.
أما مطالبة الرئيس الأوكراني بلقاء بوتين، واستعداده للتفاوض مع روسيا بما في ذلك الحياد إنما هي محاولة لإبطاء التحرك نحو العاصمة، وثني بوتين عن دخول كييف وإسقاط الحكومة. إذ تشي تصريحات لافروف وبوتين بنية تغيير الحكومة الأوكرانية، أو إرغامها على الاستسلام بالقوة، أو تقسيمها وإخراجها من دائرة النفوذ الأميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأوكراني، وتبدو ملامحه في مسار العمليات العسكرية. وأما شكوى الرئيس الأوكراني قبيل اجتماع حلف الناتو من ترك أوكرانيا وحيدة فيهدف إلى إحراج أوروبا والضغط عليها لاتخاذ خطوات قوية في وجه الروس. حيث قال: “رد الفعل الأوروبي غير كاف وكذلك المساعدات في حين تهاجم الدبابات الروسية شعبنا. روسيا تحاول الآن تقسيم أوكرانيا. نطلب من أوروبا طرد السفراء الروس وعزل روسيا وتشديد العقوبات عليها. أدعو المواطنين الأوروبيين للتظاهر للضغط على حكوماتهم لاتخاذ قرارات حاسمة”. من جانبه دعا الرئيس بوتين “الجيش
الأوكراني لتولي زمام السلطة”؛ لإدراكه أن الجيش هو الأكثر فهمًا للتهديد العسكري الروسي، ويمكن الرهان عليه في إمكانية التجاوب مع مطالب روسيا، وهو ما أشار إليه الرئيس بوتين بقوله: إن “الاتفاق بيننا سيكون أسهل إذا توليتم السلطة”.
ولا يُستبعد أن توافق أميركا على مفاوضات بين أوكرانيا وروسيا لكسب الوقت، وإعاقة مخطط روسيا بالسيطرة على أوكرانيا وإسقاط حكومتها، أو تقسيم أوكرانيا، والتفاوض من موقع قوة، وبخاصة وأن أميركا قد حققت هدف جر روسيا لعمل عسكري مرعب لأوروبا، وعززت وجود الناتو شرق أوروبا ودول البلطيق، وقادت أوروبا لفرض عقوبات على روسيا. إلا أنه ليس من المتوقع أن يدخل بوتين المفاوضات إلا بعد إظهار القوة وإحكام قبضته ومحاصرة كييف، واستعادة مناطق دونباس (ما قبل سنة 2014) حفاظًا على ماء وجهه أمام الرأي العام الداخلي، وحفاظًا على هيبة روسيا أمام حلفائه في الإقليم وأمام حلف الناتو والعالم .
وفيما يتعلق بموقف أردوغان وقوله: “رد فعل الناتو على الهجوم الروسي يجب أن يكون أكثر حزمًا والإدانة وحدها لا تكفي”. فهو للاستهلاك الإعلامي وبحكم عضوية تركيا في الناتو؛ لكن الموقف التركي الفعلي تجسد برفض إغلاق مضيق البسفور في وجه البحرية الروسية حفاظًا على علاقة متوازنة مع روسيا، ونحو ذلك كان الموقف الصيني الذي دعا إلى تفاوض روسيا مع أوكرانيا مع تفهم الصين للمخاوف الأمنية الروسية.
ومهما يكن من أمر فإن ما يجري لا يؤثر على الموقف الدولي وحالة القطب الواحد، وإن كان يعزز حضور روسيا الدولي، وبخاصة بعد أن نجح بوتين في أن يفعل ما يريد ولو كان ذلك باستخدام القوة العسكرية. ولذلك فإن ما سينجم عن هذه الحرب هو تعزيز روسيا لموقفها الأمني وإضعاف فاعلية النفوذ الغربي في أوكرانيا وأثره على روسيا، بينما تحقق أميركا أهدافها حيال نفوذها في أوروبا، وترسيخ فكرة الخطر الروسي الذي طالما عارضته فرنسا وألمانيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى