مقالات كل العرب

 مؤسسة الخلافة الأموية: راعية المشروع النهضوي العربي

شارك

 مؤسسة الخلافة الأموية: راعية المشروع النهضوي العربي

د. إياد سليمان

مقدمة

في هذه الدراسة أعرض أهم مركبات الهوية العربية في العهد الأموي وذلك من خلال الإصلاحات والتغيرات التاريخية التي جرت في هذا العهد من خلال إدارة بني أمية لمقاليد الحكم وبناء الدولة الأموية العربية.  أن هذه التغيرات ساهمت في تعزيز الثقافة العربية وساعدت بتأصيلها، كذلك رفعت من شأن الشخصية العربية في الدولة، من خلال تحويل اللغة العربية إلى لغة الدولة الأمر الذي أجبر المسلمين من غير العرب من تعلم اللغة العربية وإتقانها.  ويبقى الحديث عن أسباب هذه النهضة وعن الدوافع وراء الاهتمام في الهوية العربية لدى الخلفاء الأمويين، ونتائج هذه النهضة على الحياة السياسية والاجتماعية في الدولة.

 ولقد اعتمدت في هذه الدراسة على العديد من المصادر التي بحثت في تاريخ الخلافة الأموية في شتى المجالات, وتناولت أسلوب الإدارة والنزاعات السياسية والحزبية التي حدثت في زمن الخلفاء الأمويين وتأثير هذه النزاعات على الحياة اليومية وعلى العديد من مظاهر التصرف في الدولة وتوجهات الأحزاب المعارضة , وأيضاً على الإنجازات التي حققت في تلك الفترة إن كانت في الفتوحات الإسلامية وتوسيع رقعة الدولة الأموية والنهضة العمرانية والثقافية, وعن نزعة بني أمية في مواجهة الغرب بالأساليب العلمية, وبالتغيير من الداخل بتقوية الثقافة والفكر الداخلي والتخلص من التبعية الأجنبية.

  وقد قسمت هذه الدراسة إلى:

1 ـ الأمور الإدارية ومؤسسة الخلافة، وهنا الحديث عن مساهمات الخلفاء الأمويين في تعزيز الثقافة العربية أن كان على مستوى حياتهم الشخصية أو عن طرق إدارتهم للدولة.

2 ـ مركبات الهوية العربية وأسس تعزيزها:

أ – الجيش والوحدات العسكرية، أتطرق هنا لمكانة المقاتل العربي في الجيش والامتيازات التي كان يتمتع بها في مختلف الوحدات العسكرية مقارنة مع المسلمين الغير عرب في الدولة الأموية أو ما عرفوا بالموالي.

ب – حركة التعريب في الدواوين التي جرت في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وتأثيرات هذه الحركة على اللغة العربية والحياة الإدارية في مؤسسات الدولة، وعن أسباب هذه الحركة والدوافع وراء ذلك.

ج – المال وتعريب النقود والذي أبتدأ زمن عبد الملك بن مروان ومساهمات هذه الحركة بتمتين الاقتصاد العربي والتحرر من التبعية الأجنبية وتأثيرها على الهوية العربية حيث أعرض شكل العملة العربية الحديثة التي تم تناولها في تلك الفترة وعن الأسباب وراء سك عملة عربية واستبدالها بالعملة البيزنطية القديمة.

د- العلوم والنهضة العلمية في العهد الأموي والمجالات التي ساهم بها العرب في تطوير علوم الطبيعة في تلك الفترة، وذلك من خلال الدراسات والبحوث والترجمات من المصادر الأجنبية وخاصة في مجالات الطب والكيمياء والتخطيط والفنون الهندسية.

هـ – النهضة اللغوية في الأدب والشعر وتأثيرها على مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في الدولة، والأسباب التي أدت إلى تكوين هذه النهضة.

الإدارة في العهد الأموي

اكتسبت الخلافة الأموية طابع الإمبراطورية العربية التي أنشأها العرب وحافظوا على حكمها بصورة مباشرة، وقد استفاد منها العرب وغير العرب غير أن طريقة حكمها ظلت تسير وفاقاً للنظم العربية نفسها”  من هنا نرى بأن الحاكم العربي في هذه الشكلية من أسلوب إدارة الحكم في العهد الأموي والتي أخذت طابع التوريث أي الانتقال من الآباء إلى الأبناء قد استمرت حتى يومنا هذا كظاهرة قديمة جديدة في كافة الأقطار العربية.

الأمر الثاني وهو اللباس الذي كان يرتديه الخليفة الأموي لا سيما في عهد عبد الملك بن مروان حيث كان الطراز من الحرير والديباج حيث كانت عليه أسماؤهم ويستعملونه في دواوينهم وعليه الكتابات الرومية “وبعد مجيء عبد الملك بن مروان أصبحوا يستعملون الطراز بالعربية، على أثوابهم وستور منازلهم وقراطيسهم ثم جعلوا ذلك على ملابسهم وملابس أجنادهم ورجال دولتهم، يكتبون عليها شارة الخلافة أو لقبه أو نحو ذلك” .

ان هذه الخطوة تدل على البدء بتناول اللغة العربية في العهد الأموي على مستوى الحياة الشخصية وذلك بتحويل الكتابات من اللغة الرومية إلى اللغة العربية الأمر الذي عزز بدوره الهوية العربية في بيت الخليفة الأموي، حيث كان قصر الخليفة محطاً ثقافياً يستمع فيه الخليفة إلى قصص التاريخ والأدب والشعر العربي الأمر الذي وضع الأدب في ظل نهضة عظيمة حيث كانت القصائد الملقاة في بيت الخليفة من أشهر قصائد الشعر العربي وخرج العديد من رواد الأدب العربي في تلك الفترة.

وقد مهد مقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان دخول البيت السفياني معترك الحياة السياسية ومن بعدها في أمور الصراعات في العهد الأموي فكان الشعر الأموي بمثابة السيف المرافق في معارك بني أمية، ومثالاً على ذلك في حادثة كربلاء نجد في شعر المتوكل الليثي  حيت أبرز بشكل واضح الفائدة من وراء التخلص من الحسين بن علي ومراوغتهم في التأسف عليه حيث يحمل بني أمية المسؤولية في ذلك فيقول:

قتلوا حسيناً ثم هم ينعونه                   إن الزمان بأهله أطوارُ

لا تعيدن بالطف قتلى ضيقت         وسقى مساكن هامها الأمطار

وكان الشعر العربي في تلك الفترة يتطرق إلى أهم مظاهر الإدارة كتوكيل الخلافة الجديدة كفترة معاوية بن يزيد وله يقول عبد الله همام السلولي، محرضاُ إياه على تسلم الخلافة بعد وفاة يزيد:

تلقفها يزيد عن أبيه                   فخذها يا معاوي عن يزيدا

فأن دنياكم بكم اطمأنت              فأولوا أهلها خُلقاً سديداً

وهكذا فإن الأدب العربي كان في أوج نهوضه في تلك الفترة وسأعود للحديث لاحقاً عن النهضة اللغوية في الأدب والشعر، ولكن هنا يجب التركيز على تأثير هذه النهضة على مؤسسات الحكم.

لقد أعتمد الخلفاء الأمويين في مختلف عهودهم على رجالات من العرب في إدارة شؤون الدولة الأمر الذي أضفى صبغة الحكم العربي إلى سياسات بني أمية ومن هؤلاء الولاة:

عمرو بن العاص السهمي (في مصر)، والحجاج بن يوسف الثقفي (في العراق)، ومنصور بن جمهور الكلبي (في خراسان)، وهشام بن إسماعيل المخزومي (في مكة) وعقبة بن نافع الفهري وحسان بن النعمان الغساني (في بلاد المغرب)، وغيرهم.

وهذا التقسيم لا يعني بأن المسلمين من غير العرب لم يصلوا إلى مراتب عالية في الدولة الأموية وبالعكس، فقد كان للموالي دوراً في إدارة الحكم ولاكن الأفضلية كانت للغرب أولاً” .

وهذا الأسلوب ينطبق على العديد من المناصب المهمة في عهد الخلفاء الأمويين كالقاضي والحاجب وصاحب الشرطة والمخبرون وغيرها.

وخاصة أخرى تمتع بها خلفاء بني أمية وهي العصبية القبلية “عصبية للعرب عامة ضد العجم والموالي وعصبية لليمنية على القيسية وعصبية بني أمية على بني هاشم وعصبية للقبائل الموالية لهم على المناوئة كعصبتيهم لكلب وتغلب على قيس” .

وهكذا نرى بأن الخلفاء الأمويين ميزوا بين الدم العربي والدم العجمي وهذا يشير لأهمية الهوية العربية لديهم فللعرب امتيازات في الدولة الأموية لا تعطى للعجم والموالي.

ومن أكثر الفترات ازدهاراً في التاريخ النهضوي العربي كانت فترة الخليفة عبد الملك بن مروان , من خلال إدراكه للمنافسة الحضارية بين العرب والبيزنطيين من جهة والروم من جهة أخرى فكثرت الإصلاحات في هذه الفترة “ومن الإنجازات المهمة التي قام بها الخليفة تطوير الجهاز الإداري، وتنشيط الدور المركزي بتحرير الجهاز الإداري من التبعية الثقافية للفرس والقبط والروم، وقام بتعريب الدواوين فجعل بذلك اللغة العربية لغة الثقافة والإدارة الى جانب أنها لغة الدين، وأصبح اللسان العربي في هذا العهد لسانًا حضاريًا في أمصار الدولة كافةً”  

وبهذا يتجلى دور مؤسسة الخلافة الأموية بأنها راعية للمشروع النهضوي العربي الذي لم يتناول كتاريخ فقط، وإنما كدراسة مستفيضة حول بناء القومية العربية وتعزيزها ويمكننا أن نعتبر العهد الأموي محطة مهمة في تاريخ القومية العربية التي ما زالت تطرح حتى يومنا هذا لغةً وحضارةً وثقافةً.

أهم مركبات الهوية العربية في العهد الأموي

إن تعزيز الهوية العربية في العهد العربي يحتوي على العديد من المركبات التي ساعدت على بلورة هذه الهوية فيما بعد، وأهمها: الجيش، التعريب في الدواوين، المال وتعريب النقود، العلوم، والنهضة اللغوية في الأدب والشعر.

أ – الجيش

لقد طبقت الدولة العربية الإسلامية في العهد الأموي مبدأ الأمة المقاتلة المسلحة. وقد أثبت هذا المبدأ جدواه وفعاليته لأسباب عديدة، فكانت نتائجه الإيجابية التي اتصلت بالإنجازات الكبيرة في مجال حروب التحرير والفتوحات، التي جعلت حدود الدولة الإسلامية تمتد من تخوم مملكة الصين إلى جنوبي بلاد الغال (فرنسا اليوم) في أوروبا.

ولأن العرب كانوا مادة الإسلام من فجر الدعوة حتى زمن الفتوح، فقد كانوا لذلك العنصر الأساسي والغالب في تكوين الجيش في الدولة العربية الإسلامية

إن هذا التميز جاء لصالح العرب على غيرهم من سائر المسلمين، ويمكن ملاحظة هذا من خلال مراتبهم المتقدمة في الوحدات العسكرية للجيش العربي، فكان العرب متمتعون بالمناصب القيادية الرفيعة في هذا الجيش، الأمر الذي طور أساليب قتالهم وقدم من طرق تفكيرهم في إدارة الحروب والمعارك بطرق عسكرية جيدة لا ينقصها الدهاء ولا الشجاعة، وعززت أيضًا مكانة المحارب العربي في السيطرة على بلاد عديدة من خلال الفتوحات الكثيرة في العهد الأموي.  ومن الوحدات العسكرية التي انتشرت في العهد الأموي:

  1. 1. الخيالة، وهي وحدة الفرسان العربية، وقد أصبحت هذه الوحدة بالنسبة للجيش العمود الفقري وذلك نظرًا لما كان لها من أهمية بارزة في حسم المعارك. وكان هؤلاء الفرسان يلبسون الدروع والخوذ، ويحملون تحت السروج، الفؤوس أو الدبابيس التي يستعينون بها من أجل تهشيم الخوذ وإصابة الرؤوس، وقد أمتاز الفرسان العرب على غيرهم من فرسان الأمم الأخرى بأنهم كانوا يلبسون الدروع الخفيفة التي تؤمن لهم المرونة وسرعة الحركة. وكان ملقى على عاتق هذه المجموعة من الجيش العربي مهمة الهجوم والمناورة
  2. 2. الرجالة والمشاة، وكانوا يؤلفون القسم الكبير من القوات العربية الإسلامية، وكان ملقى عليهم مهمة التصدي لفرسان العدو.
  3. 3. وحدة الرماة، وكانوا ملقى عليهم مهمة تحصين المسالك والطرق.

وهنالك العديد من الوحدات العسكرية التي تميز بها الجنود العرب، وأصبحوا من أمهر المقاتلين في جيش الدولة العربية الإسلامية.  وهذا ساعد على تطوير وتقوية الشخصية العربية والإنسان العربي في تلك الفترة.

ب – تعريب الدواوين

إن تعريب الدواوين يشكل أهم مركبات الهوية العربية في الدولة الأموية، ويشكل أهم ركائز الدولة العربية المتجددة، وكان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان المؤسس لحركة التعريب في الدواوين، فقد كانت لغة الدواوين لا تزال إلى أيامه تكتب بلغة أهلها، إذ حافظ جميع الخلفاء الأمويين السابقين على تعيين أصحاب الدواوين من أهل البلاد المحليين، وهذا مما كان يصعب على الدولة بسبب لغتهم الأجنبية، الإدارة والتعامل مع كافة أقطار الدولة الواسعة.

ذلك أن عبد الملك بن مروان رأى أن هذا الوضع يتناقض مع سياسة الدولة العربية، كما رأى أيضًا أن ثقته في الإدارة يمكن أن تهتز لأن معظم موظفيها من غير الوطنيين العروبيين، ولأن لغتها بالتالي هي غير اللغة العربية

إن تعريب الدواوين كان له الأثر الكبير في تعميق وترسيخ اللغة العربية حيث أصبحت اللغة الرسمية للدولة العربية، وأصبح الموظفون العرب هم من يشرفون على كتابة الدواوين، وكذلك ساعدت هذه العملية على أن تكون اللغة العربية الأكثر انتشارًا في العالم الإسلامي وأصبحت لغة الفكر والحضارة مما دعا المسلمين من غير العرب إلى تعلم هذه اللغة وكذلك أدت حركة التعريب إلى تأسيس حركة ترجمة منظمة والتي أدت إلى نقل الكثير من الاصطلاحات الرومية والقبطية واليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية، “ويذكر صاحب أخبار الخلفاء أن عملية تعريب الدواوين بدأت في الكوفة”  وهذه الحركة ساعدت أيضًا إلى ترسيخ السيادة العربية الإسلامية وبدون أن تكون اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، هي السائدة في الدولة وتكون اللغة الرسمية لها تبقى السيادة العربية سيادة منقوصة، وأيضًا لم تقتصر هذه الحركة على تقوية اللغة، لا وبل أثرت على السيادة الاقتصادية للدولة الإسلامية “تحررت الدولة الإسلامية من أية تبعية اقتصادية للبيزنطيين”  ومن الناحية الإدارية أيضًا أعطت الخلفاء الأمويين فرصة التحرر من أية تبعية إدارية لأبناء الأمم الأخرى ولغتهم، لذلك نرى بأنها أثرت تأثيرًا مباشرًا على تعزيز الهوية العربية للدولة الأموية كدولة لها سيادة مستقلة من أية تبعية خارجية “وكانت الدواوين في العهد الأموي خمسة : وهي ديوان الجند، ديوان الخراج، ديوان الرسائل، ديوان الخاتم، ديوان البريدية” . 

ج- المال وتعريب النقود

إن تعريب النقود في الدولة الأموية يشكل مركبا مهما آخر والذي ساهم على التحرر من التبعية الاقتصادية الأجنبية وأيضا على استقلالية السيادة العربية على كافة الجوانب الحياتية وكان الخليفة عبد الملك بن مروان أول من أمر بسك العملة العربية الإسلامية فقد ظهر الدينار الإسلامي الخالص الذي ضرب في دار السك الرئيسية في دمشق وبدأ تداوله منذ العام 77هـ/ 699 م”  وقد كان وجه الدينار يحمل ” لا اله ألا الله وحده لا شريك له” بكتابة أفقية من ثلاثة أسطر, في المركز يطوقها هامش خارجي مكتوب فيه “محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله”, وعلى الظهر “الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد” بكتابة أفقية من ثلاثة أسطر, في المركز يطوقها هامش خارجي يحمل تاريخ الضرب على النحو التالي “بسم الله ضرب هذا الدينار في سنة سبع وسبعين” , ولم يسمح عبد الملك لأحد بإصدار الدنانير إلا لأخيه عبد العزيز واليه على مصر, لمرة واحدة وفي سنة واحدة فقط (77هـ / 699 م) .

وأما بالنسبة للدراهم والفلوس المعربة فلم تكن هناك مركزية لضربها، فكانت هناك دور للضرب في العراق وفارس والشام والحجاز واليمامة واليمن والمغرب،” وقد حذا الخلفاء وولاتهم حذو عبد الملك في المحافظة على الصبغة العربية للنقود” .

ويذكر أن قبل عملية تعريب النقود كانت النقود البيزنطية هي المتداولة في الدولة الإسلامية.

إن تعريب النقود له أسباب كثيرة منها: –

أسباب سياسية – من أجل إعطاء البلاد مظهراُ من مظاهر القوة وأنها ليست بحاجة إلى الدولة البيزنطية.

أسباب إدارية –وهي ضبط ومراقبة ومتابعة شؤون الدواوين وخاصة بيت المال.

أسباب اقتصادية – مناعة الاقتصاد الإسلامي بما يخص الصناعة والتجارة والزراعة لأي تهديد نتيجة التبعية للنقد الأجنبي وهذا يؤدي إلى النمو الاقتصادي في الدولة.

أسباب قومية – ناتجة عن الأنفة العربية والعصبية القبلية في السعي لمراكز القوة والسيطرة.

إن مسألة تعريب النقود ليست فقط عملاً إصلاحياً اقتصادياً بقدر ما هو ترسيخ للشخصية العربية والهوية العربية الإسلامية وتشجيع للفن والتراث العربي في تلك الفترة حيث أصبحت النقود العربية مصدراً مهماً في التاريخ العربي الإسلامي ومراحل تطور الدولة العربية.

د- العلوم

لقد شهد العهد الأموي نهوضا علميا كبيرا، الأمر الذي أوجد العديد من العلماء العرب في ثورة علمية حديثة، أضفت تأثيراتها على كافة أرجاء المعمورة في مجالات عديدة كالطب والحساب والفيزياء والكيمياء والفلسفة، أصبحنا نرى الكتب العربية تتطرق الى هذه المواضيع، وكان هذا بمثابة تحدي للمظاهر الغربية التي تنفي تأثيرات العرب على هذه العلوم.

حقيقةً لقد دأب المستشرقون على نفي كل أصالة عند المسلمين ورد كل مفاخر علومهم الى أصول غير إسلامية وبالأحرى يونانية، حتى لكان اليونان هي بداية العلم ونهايتها معًا في آنٍ واحد” .

المجالات التي قدموا لها العرب:

الطب – لقد ساهم العرب في حفظ هذا العلم ونقله الى العالم من خلال ترجماتهم للبحوث اليونانية ولم يتوقف عند هذا الحد بل قاموا بتطويره وتعميقه واختصوا بشتى حقول الصحة وتركيب الأدوية والعقاقير. ومن أشهر أطباء العرب في تلك الفترة الزهراوي أبو القاسم خلف بن عباس، وابن زهر الأندلسي، وابن البيطار، وابن نفيس القرشي.

في الكيمياء – أشهر ما وجده العرب في تلك الفترة هو إحلال النسب الكمية محل الخواص الكيفية في تفسير ظواهر الطبيعة. الأمر الذي طور الصيدلة، والصناعة والعمران ومن أشهر العلماء العرب هم خالد بن يزيد الذي لُقبَ بحكيم آل مروان وجابر بن حيان.

في الفنون والهندسة – لقد ساهم العرب في هذا المجال مساهمة كبيرة الأمر الذي أثر على النهضة العمرانية في العهد الأموي وقد تطورت الأعمال الفنية التشكيلية والزخرفية مما أضفى شكلاً جديدًا على العمران الديني والعمران المدني.

إن النهضة العلمية التي شهدتها الدولة الأموية تصب في خدمة الهدف التحرري من التبعية لبلاد الغرب حيث أصبح الاستناد على العلوم المحلية العربية والاستغناء عن العلوم الأجنبية.

هـ – النهضة اللغوية في الأدب والشعر

لقد شهد العهد الأموي نهضة نوعية في الأدب والشعر العربي، حيث أصبح الاهتمام في أصول الأدب أكثر وأنجع الأمر الذي زاد من أصول البلاغة ووزن الكلمة العربية كما ذكرنا في الفصل الأول عن اهتمام الخلفاء الأمويين بالاستماع الى القصص الأدبية والشعر في مجالسهم وتشجيعهم لذلك,  وهذا كان مساندًا لهم، ويذكر أن هناك أيضًا الشعر المعارض للدولة الأموية وخاصةً الشعر والأدب الشيعي، الذي هو أيضًا بدوره تطور بسبب حركة التعريب التي شهدتها الدولة الأموية حيث أصبح الاهتمام أكثر باللغة العربية، اللغة الرسمية للدولة الأموية.

نرى أيضًا العديد من كبار الشعراء والأدباء العرب على مر التاريخ الذين ساهموا في تعميق الحس الأدبي

 “نشأ في هذا العصر حس أدبي دقيق وترك الرواة والمدونون قسطًا كبيرًا من نماذجه فالتفت جمهور الذوق الأدبي الى كلام الأعراب لفطرته وجرأة التعبير فيه أو وضوحه

وترجع أسباب النهضة اللغوية الى:

  • الحاجة في تقوية الأدب والفكر العربي لمجابهة الثقافات الخارجية الدخيلة على هذا الفكر.
  • الجدل العقائدي والسياسي دافع إضافي يهيب بالمنتمين الى الأحزاب الى تحصين أنفسهم بالفكر الأدبي والعقائدي شعرًا وأدبًا.
  • اهتمام الخلفاء والولاء بالذوق الأدبي وغيرهم ممن شغلتهم بلاغة اللغة العربية.
  • حركة التعريب التي شهدتها الدولة الأموية وتعزيز مكانة اللغة العربية فيها.
  • إبراز للمواهب الشخصية وتكريس للصفة الإبداعية لدى العديد من الأشخاص.
  • شعر المعارضة الشيعية جاء من أجل مواجهة بين أمية أدبيًا وفكريًا، وكان يمتزج بروح الحزن والمرارة، وهذا فتح باب المنافسة الأدبية والشعرية على مصراعيه الأمر الذي قوى اللغة العربية.
  • اتساع الحياة الاجتماعية وتطورها الفجائي.

إن النهضة اللغوية في العصر الأموي شملت خمسة أبواب:

  • الأدب، والقصد هنا التدوين الأدبي.
  • الشعر – الشعر العاطفي والشعر الاجتماعي، والشعر السياسي والشعر المذهبي.
  • النثر، ويشمل النثر العاطفي والنثر الاجتماعي، والنثر السياسي والعقائدي، والنثر القصصي.
  • دراسات وبحوث تاريخية – حركة الترجمة والنقل للغة العربية.
  • أدب الرسائل.

إن أكثر من ساعد هذه النهضة على التقدم هي الصراعات السياسية في الدولة فقد أخذت الطابع الهام. شعر الأمويين صار في اتجاهين: 1.  اتجاه المصانعة لاستمالة الخليفة ونيل عطاياه وضمان الأمن والاستقرار له ولقبيلته.  2.  إظهار الخلافة الأموية وصورة الخلافة الدينية.

وتحركت أشعارهم في هذين الاتجاهين، وأمن لهم البلاط السفياني المرتع الخصب فانقضوا على أعدائهم انقضاض الباز على طريدته ومزقوهم أربًا، وشفعوا بهم

الملاحظ في هذه الفترة أن ثقافة الشعر السياسية والاجتماعية والدينية قد تطورت وواكبت في تطورها الحضارة الجديدة بكل تعقيداتها السياسية والدينية وتعقد معها الشعر بتعبيره عن مسلمات عقائدية، ومبادئ اجتماعية في قالب من اللغة العلمية التي هي إلى المنطق أقرب منه إلى لغة العاطفة، وهذا بدوره أعلى من قيمة اللغة العربية على أساس علمي ومركب، وتطور أيضًا الاهتمام بأصول النحو فكتبت الدراسات العديدة حول ذلك وزادت الاهتمامات بالكتابة الأدبية النحوية مما أجبر الكتاب أن يلتزموا أصول النحو العربي في كتاباتهم.

وبسبب هذه النقلة النوعية في كتابة الأدب والشعر، علت مكانة الشعراء والأدباء في تلك الفترة وأصبحوا من أصحاب الشؤون الرفيعة ولهم مكانتهم الخاصة، وأثرهم على الحياة السياسية والاجتماعية في الدولة، كيف لا وقد أصبح الشاعر لسان الدولة، والراوي لقضاياها الشاغلة، والباحث والمؤرخ فيما يدور في ثناياها. وأشهر الشعراء والأدباء الذين لهم آثارهم في الحياة الأموية أذكر

جرير – “فقال مادحًا بني أمية حينما قدمه الحجاج إلى عبد الملك بن مروان لأول مرّة:

       ألستم خيرَ من ركب المطايا           وأندى العالمين بطون راحٍ

وكذلك الفرزدق، والأخطل الذي لُقب بشاعر بني أمية فله:

       شمس العداوةِ حتى يستقادُ لهم         وأعظمُ الناسِ أحلامًا إذ قدروا

وكذلك النابغة الشيباني، ولم يقتصر الشعر عند الرجال فقط، فهذه ليلى الأخيلية وهي إحدى النساء الشهيرات في ذلك العصر تمتدح الحجاج وشجاعته في الضرب بقوة أعداء الدولة، وتقول:

       إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة تشبعُ أقصى دائها فشفاها

       شفاها من الداء العُضال الذي بها      غلامٌ إذا هزَّ القناةُ شفاها

واشتهر أيضًا من الأدباء عبد الله بن المقفع والذي له ذاع طويل حتى يومنا هذا وقد ساهم في العديد من التراجم من اللغة الفارسية “كان الأدب السياسي – من شعر وخطابة وحوار ورسائل مسايرًا للحياة السياسية مصورًا لما بين الأحزاب من صراع على الحكم ومعبرًا عن مشاعر الشعب

وبهذا فإن الحديث عن الهوية العربية في الدولة العربية يبقى منقوصًا إذا لم يتم التطرق الى هذه الميزات المهمة في النهضة اللغوية في الأدب والشعر، فإن تطوير الهوية العربية لا يمكن أن يدخل لنطاق المعنى التعبوي دون المساهمة في تمتين لغة الهوية في الفكر والثقافة، وذلك من أجل التخلص من الازدواجيات الفكرية، ومن الاستدلالات الثقافية للناطق باللغة العربية خاصةً.  وإن الحديث عن الدولة الإسلامية والتي هي القرآن كتابها باللغة العربية والتفسيرات الدينية أيضًا للأحاديث النبوية الشريفة، وهذا أثر بدوره تأثيرًا كبيرًا. وأيضاً مساندة مؤسسة الحكم في تلك الفترة لدور الشعراء والأدباء أدى لرفع مكانتهم الحياتية وعزز اللسان العربي والهوية العربية

 

 

محاضر جامعي، باحث في التاريخ ومختص في علوم البيانات

 

المصادر

1العقيلي، عمر سليمان،” تاريخ الدولة الأموية”, الرياض: قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الملك سعود, 2002.

2اليحوفي، أحمد محمد، “أدب السياسة بالعصر الأموي”, القاهرة: دار النهضة,1975.

3د. الحسين، قصي، “تجديد الدولة العربية”, لبنان: الشركة العالمية للكتاب, 1997.

4د. الناطور، شحادة، ” تجديد الدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان 79هـ/685م – 86هـ/705م” الأردن: دار الكندي للنشر والتوزيع, 1996.

5د. عاقل، نبيه، “خلافة بني أمية” – سلسلة تاريخ العرب والإسلام، الكتاب الثاني، دمشق: دار الفكر, 1975.

6حلاق، حسان علي،” تعريب النقود والدواوين في العصر الأموي”, لبنان: دار الكتاب اللبناني, 1978.

7د. الجبيلي، سجيع جميل، “البيت السفياني في الشعر الأموي”, بيروت: المكتبة العصرية, 1998.

8بركات، إبراهيم، “السياسة والمجتمع في العصر الأموي”, المغرب: دار الآفاق الجديدة, 1990.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى