محافظات مصر و لكن …

محافظات مصر ولكن…
د. سعيد حسانين
حين نتحدث عن مصر، فنحن نتحدث عن الأصالة والعراقة والمجد في سجلات الأمم، عن كيانٍ متجذرٍ في عمق الحضارة، ساهم في صنع التاريخ، لا مجرد العبور فيه. فمصر ليست مجرد دولة ( تضم ٢٧ ) محافظة فحسب، بل هي دولة تمتلك ( ٢٧ ) مركزاً محتملاً للقوة الاقتصادية المتخصصة يحمل كلاً منها مقومات تؤهله لأن يكون نواةً لصناعة أو زراعة أو تجارة فريدة .
ومع ذلك تبقى الحقيقة المؤلمة ǃǃǃ لماذا لم يتم تحويل هذه المحافظات من وحدات إدارية إلى قلاع إنتاجية فعلية ؟
للإجابة على هذا السؤال : دعونا نقترح مثال عملى يطبق على أرض مصر بذكر أصغر وأكبر محافظتين فى مصر من حيثُ المساحة وهى محافظة دمياط والوادى الجديد وذلك على النحو التالى :
ولنبدأ بالطرف الأول للمعادلة الجغرافية وهى محافظة دمياط تلك المحافظة الصغيرة في المساحة، الكبيرة في القيمة، والتي تبلغ مساحتها ٩١٠ كيلومتر مربع،وهى أصغر محافظات مصر من حيثُ المساحة إلا أنها بمقاييس الجغرافيا أكبر من دولة سنغافورة التي لا تتجاوز مساحتها ٧١٠ كيلومتر مربع.، ولكن الفرق لا يكمن في عدد الكيلومترات، بل فيما يُنجز بداخلها .
فـسنغافورة لم تُخلق متقدمة، بل وُلدت من رحم التحدي، وقررت أن تبدأ من الإنسان فجاءت خطواتها الأولى نحو التقدم من خلال التعليم والتخصص، وصناعة المصانع المتنقلة، ليصبح المواطن السنغافوري مصنعًا يمشي على الأرض، يصنع نموذجًا يُحتذى به في إثبات الذات، وتحقيق أعلى القيم الاقتصادية من موارد محدودة .
أما نحن: فى محافظة دمياط التى تمتلك هوية راسخة في صناعة الأثاث، وتاريخًا عريقًا في الحِرَف اليدوية نستطيع تحويلها بالتخطيط المتكامل إلى
“مدينة تخصصية عالمية” في هذه الصناعة، ليس فقط على المستوى الوطني، بل على مستوى العالم أجمع .
فكيف نبدأ ؟؟
الإجابة تكمن في توجيه التعليم نحو التخصص المهني المتكامل داخل المحافظة، بدءًا من المرحلة الابتدائية، مرورًا بالتعليم الجامعي، ووصولًا إلى الدراسات العليا، بحيث تكون كل المراحل التعليمية مكرّسة لبناء جيل قادر على الإبداع في صناعة الأثاث بجميع مدارسه: العثماني، والإسلامي، والفرنسي، والإيطالي، والكلاسيكي، والحديث، والتصميم الذكي .
كما يجب أن يتيح هذا النظام التعليمي الفرصة أمام خريجيه للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه، تمامًا كخريجي التعليم الاكاديمي التقليدي، ليشعروا بالفخر والتميّز، ولا يقل شأنهم عن أي مسار تعليمي آخر، فيصبح حصولهم على هذه الشهادات بمثابة وسام شرف لتخصصهم العملي والعلمي في آنٍ واحد، فلا يتخرج الطالب بشهادة فقط ، بل يكون بمثابة “مصنع متنقل” صاحب فكر مستنير يحمل العلم والعمل وقادرعلى الأنتاج لبناء بلده متسلّحًا بفخر العلم وكرامة المهنة ونبل الرسالة وأصالة اليد العاملة.،كالجندى فى معركة التنمية لا يتراجع.
وبذلك نخلق منظومة تنموية متكاملة : يكون التعليم فيها خادمًا للإنتاج، والإنتاج مولّدًا للدخل، والدخل دافعًا للاستقرار، والاستقرار بيئةً جاذبة للاستثمار، والاستثمار وسيلة لزيادة الصادرات مما ينعكس على الاقتصاد الكلي من خلال سد فجوة العجز في الميزان التجاري والموازنة العامة للدولة، وزيادة حصيلة سلة العملات الصعبة، وتوفير المعروض المحلي، وخفض المستوى العام للأسعار .
حينها لن نُثقل كاهل الدولة بزيادة المرتبات، لأن المواطن نفسه سيشعر بتحسن في القيمة الحقيقية لدخله، وستزداد قدرته الشرائية، ويعيش حياة كريمة مستقرة .
وقبل أستكمال الإجابة على السؤال أريد توضيح أن ذكـر محافظتى دمياط والوادى الجديد لكونهما الأصغر والأكبر من حيثُ المساحة كما ذكرت ولكن أردت توصيل رسالة لكل محافظات مصر دون استثناء، وكان القصد من ذلك تقديم نموذج توضيحي ..
يمثل طرفي المعادلة الجغرافية في مصر: من الأصغر إلى الأكبر لتكون دعوة إلى ما بينهما من المحافظات للإستثمار فى مواردها حيثُ أن كل محافظة تمتلك ميزة نسبية يمكن أن تنطلق منها إن أحسنت توجيهها .
فلا تقتصر دعوتى إلى محافظتين بعينهُمَا، وإنما دعوة عملية ورؤية قابلة للتطبيق على كل المحافظات، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ليتحول التنوع إلى تكامل، وتتحول خريطة مصر الإدارية إلى خريطة إنتاجيـة تعمل على تقدمها فى كافة المجالات .
وبناء على هذا النحو نستكمل الأجابة على سؤال كيف نبدأ؟
وعلى هذا النهج نستدعى محافظة الوادي الجديد وهي أكبر محافظات مصر من حيثُ المساحة، وتبلغ مساحتها ( نحو ٤٤٠ ألف كيلومتر مربع ) لتكون نموذجًا تكامليًا مع محافظة دمياط .
هذه الرقعة الشاسعة يمكن أن تتحول إلى مركز وطني مستدام لإنتاج الأخشاب عبر زراعة الأشجار الصناعية مثل الزان، الكافور، الساج وغيرها، لتزويد صناعة الأثاث في دمياط بما تحتاجه، وتقليل الاعتماد على الاستيراد .
وهنا يتجسّد التكامل الاقتصادي الحقيقي بين محافظة صغيرة تمتلك الخبرة، وأخرى كبيرة تمتلك المورد؛ فيُبنى اقتصاد وطني راسخ يقوم على مبدأ التخصص وتقسيم العمل.، ويجد كل مواطن فرصة حقيقية داخل محافظته، دون الحاجة إلى الهجرة نحو العاصمة بحثًا عن عمل، فتتحول كل محافظة إلى منارة إنتاجية مستقلة، مزدهرة بما تمتلكه من قدرات وإمكانيات.، وحين يُطبق هذا النموذج في جميع المحافظات، وفقًا لما تتميز به كل منها من موارد وحرف وصناعات، نزداد إنتاجًا، ونحقق نموًا اقتصاديًا شاملًا، ويعمّ الرخاء على ربوع الوطن .، وآنذاك، لا نكون مجرد سائرين في ركب التقدم، بل نصبح من صانعيه، كما فعلت كبرى الدول المتقدمة حين استثمرت مواردها بذكاء، وقامت ببناء نهضتها من داخل مجتمعاتها المحلية .
وهنا تتجلى أهمية ما أكده كبار المفكرين الاقتصاديين على مدار العصور، بأن النهضة الاقتصادية لا تُبنى على الموارد فقط ، بل على طريقة استغلالها، وعلى الإنسان الذي يُحسن توجيهها ..
وقد أوضح ذلك مبكرًا المفكر الأسكتلندي الشهير آدم سميث في كتابه المرجعي “ثروة الأمم” الصادر عام 1776م، حين طرح نظريته الشهيرة “اليد الخفية” ،والتى تنص على الأتـى : (The Invisible Hand)
“عندما يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الشخصية، فإنه دون أن يشعر يسعى إلى تحقيق المصلحة العامة بطريقة أكثر فاعلية مما لو سعى لتحقيقها مباشرة “.، فتحقيق أمال وطموحات الأفراد لا تتعارض مع تقدم الدولة بل هى بداية التوجه للتقدم.، وهذا يوضح أن الفرد الذى يبدع فى مجاله ويسعى لتحسين دخله أو جودة إنتاجه فأنه في النهاية يعمل على زيادة معدلات الناتج القومي، ويدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام مما يعود بالنفع على المجتمع .
كما أكد “آرثر سيسيل بيجـو”، أحد رواد المدرسة الكلاسيكية الجديدة، أن “رفاهية الإنسان هي محـور كل سياسـة اقتصادية”، وأن تقييم نجاح الدول لا يُقاس فقط بالأرقام والناتج، بل بمستوى الحياة اليومية للمواطن، والتعليم، والصحة، والفرص المتاحة له .
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل ما أكده “لورانس فريزر أبوت” في أعماله حول العلاقة بين الإنسان والموارد، حيث قال : لا يستطيع الإنسان الحصول على طيبات الحياة إلا من خلال مزج جهده بالموارد الطبيعية فالعمل هو أساس خلق القيمة ،وهذا ما يُبرز مركزية العنصر البشري، ويُؤكد أن الاستثمار في قدراته هو الطريق الأمثل لتحقيق التنمية الحقيقية.
أما الاقتصادي النمساوي “فريدريش فون هايك”، فقد طرح أهمية ترك الأسواق تعمل بتنظيم ذاتي، ما دام هناك بيئة منظمة وحرية إنتاج، وهو ما يتجسد في دعم التخصصات داخل المحافظات لكى تتخصص وتتكامل فى الإنتاج .
وفي المقابل شدد المفكر الاقتصادي البريطاني “جون مينارد كينز” على أهمية الدور الحكومي في تحفيز الاقتصاد خلال فترات الركود، وخاصة عبر زيادة الإنفاق على التشغيل والدخل، مما يؤدي إلى رفع الطلب الكلي وتحريك عجلة النمو وهذا ما يتطلبه الواقع المصري من استثمار في الثروة البشرية والبنية التحتية فالأمر ليس مجرد ضبط نقدي فحسب بل يترجم فى زيادة الأنتاج بالزيادة الحقيقية لمكونات الطلب الكلى مما يترتب علية تحسين الوضع الاقتصادى العام للدولة.
وإذا أردنا تأكيد هذا الاتجاه عبر أطـر جغرافية واقتصادية أكثر عمقًا، فإننا نجد في كتاب “الجغرافيا الاقتصادية” للمفكر الفرنسي “جان برونشفيك” تأكيدًا واضحًا أن “توزيع الثروات لا يُبنى على حجم الأرض، بل على كيفية استغلالها”.، وهذا يعيدنا إلى صلب المقال : أن محافظة صغيرة مثل محافظة دمياط ، يمكن أن تتفوق على دول بأكملها أذا تم استغلال مواردها أفضل استغلال وأُعيد تشكيل دور الإنسان بداخلها .
ويوضح لنا هذا برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ، وتدعمه تقارير البنك الدولى بأن التنمية المستدامة تبدأ من تمكين الوحدات المحلية والمجتمعات الصغيرة، لا من المركز وحـده، وأن العنصر البشري حين يُستثمر فيه يصبح أعلى الموارد قيمة، وأقوى وسيلة لتجاوز التحديات الاقتصادية.
وهذا ما نحتاج إليه : تحويل كل محافظة إلى مركز متفـرد في تخصصه، استنادًا إلى نظرية “نمو المعرفة” لعالم الاقتصاد “بول رومر”، “أن التنمية تنبع من داخل الدولة لا من خارجها”.، ويقصد من ذلك أن الاستثمار الحقيقى لا يأتى من الخارج بل من الداخل من العقول التى تفكر والأيدى التى تنتج.،وإن أعظم ما يمكن أن تستثمر فيه الدول هو الإنسان لقدرته على توليد النمو وصناعة التقدم .
فهل نملك نحن هذا المورد؟ نعـم ǃǃǃ
هل نستثمره كما يجب؟ ليس بعـد ǃǃǃ
محافظات مصر ولكن ،،،
ليست مجرد حدود جغرافية على الخريطة أو تقسيمات إدارية على ورق ، بل هي مفاتيح النهضة الاقتصادية الحقيقية، بشرط أن ننظر إلى كل محافظة كـ”دولة متخصصة” داخل الدولة الأم، تُستثمر مواردها، ويُفعل دورها، ويُوضع ҉الإنسان ҉لا الحجر҉ في قلب المعادلة ҉.،وإن كنا نؤمن فعلًا بأن التنمية تبدأ من الإنسان، ومن الفكرة، ومن المحافظة ؛ فإن أول خطوة للتحول من دولة نامية إلى متقدمة لا تبدأ من العاصمة،ولكن تبدأ من كل بقعة مصرية تحمل موردًا مهملًا، أو طاقة بشرية غير مستغلة حينها لا نكون بصدد خطاب حماسي، بل مشروع وطني حقيقي، يُبنى بالفعل لا بالقول .
فهذا المقال ليس مجرد رؤية نظرية، بل اقتراح عملي متكامل، قابل للتنفيذ على أرض الواقع، ويستحق أن يُؤخذ بعين الاعتبار من صانع القرار، ليُترجم إلى خطط تنموية تبدأ من القاعدة وتصعـد للأعلى .
وفي الوقت ذاته هـي رسـالة لكـل مواطـن :
ابدأ من مكانك، وتسلح بالعلم وأجتهد فى مجالك وارتقِ بعلمك وعملك فكل نهضة كبرى بدأت من فرد آمن بنفسه قبل أن تؤمن به دولته.، وما بين إرادة الدولة وإخلاص المواطن تُصنع الأمم .
محافظات مصر… ولكن..
قد تكون هي المفتاح الذي تأخّرنا كثيرًا في الالتفات إليه، فهيا نُديره سويًا عسى أن يُفتح لنا به باب التقدم .
الباحث والخبير الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس وعضو الجمعية
المصرية للاقتصاد السياسى والتشريع …