ثلاثية “دولة المواطنة والإنسان”: نحو فكر يؤسّس و لا يجمل، و نقد يفتح افقا لا يغلق

ثلاثية “دولة المواطنة والإنسان”:
نحو فكرٍ يؤسّس لا يجمّل، ونقدٍ يفتح أفقاً لا يُغلق
أ. معتز فخرالدين
في زمنٍ تتهاوى فيه شرعيات الدولة، وتتفسّخ فيه الروابط الاجتماعية، ويتعمّق الشرخ بين المواطن والسلطة، لم يعد ممكناً الاكتفاء بالترقيع السياسي أو الإصلاح التجميلي. لقد أصبحنا بحاجة إلى إعادة تأسيس شاملة، لا تُعالج الأعراض بل تنفذ إلى الجذر.
هذه الثلاثية ليست مقالاً عابراً، ولا صرخة يأس، بل محاولة فكرية لطرح مشروع بديل ينطلق من الإنسان كمركز لا كأداة، ومن المواطنة كشراكة لا كمنّة، ومن الدولة كعقدٍ لا كغنيمة.
على امتداد ثلاث محطات، تحاول هذه السلسلة أن:
1. تفكّك خراب السياسة العربية، وتعيد طرح العلاقة بين السلطة والمجتمع من منظور إنساني نقدي، في نص أول بعنوان:
“من خراب السياسة إلى أفق الإنسان”
2. تسائل تحوّل الدولة إلى غنيمة، وانفجار الهويات المغلقة، وعجز المؤسسات عن صهر التنوع ضمن عقد مدني، في نص ثانٍ بعنوان:
“بين غنيمة الدولة وتصدع الهوية”
3. وتختم بالدعوة إلى عقد اجتماعي جديد يؤسّس لوطن الإنسان، لا وطن الطائفة أو الحزب أو الامتياز، في نص ثالث بعنوان:
“نحو عقد جديد: من دولة الغلبة إلى وطن الإنسان”
ليست هذه النصوص تنظيراً نخبوياً، ولا مشروعاً مغلقاً، بل دعوة مفتوحة للحوار والتفكير المشترك. هدفها أن تُعيد الاعتبار للفكر كأداة للتغيير، وللكرامة كمبدأ تأسيسي، وللمعرفة كقوة محرِّرة.
فإذا كنّا عاجزين عن وراثة عالم أفضل، فلنمتلك الشجاعة كي نُعيد خلقه… على صورة الإنسان.
من خراب السياسة إلى أفق الإنسان
رغم مرور أكثر من قرن على ولادة الكيانات السياسية العربية الحديثة، لا تزال الدولة في معظم التجارب العربية عاجزة عن أداء وظيفتها الجوهرية: حماية الإنسان، واحترام كرامته، وتوفير شروط العيش الحر والمشترك له. فالدولة التي نشأت، في معظم الأحيان، لم تُبْنَ تعاقدياً من رحم المجتمع، بل فُرضت من أعلى، كامتداد للقوة لا للشرعية، وللسلطة لا للحق.
وبدل أن تتجذر فكرة الدولة كمجال مدني عام يجمع المواطنين على أساس المساواة، تحوّلت إلى جهاز سلطوي يحتكر العنف، ويُخضع المؤسسات، ويُهمّش الفرد لحساب الجماعة، والجماعة لحساب الزعيم. وهكذا، أُفرغت المواطنة من مضمونها، وفُسخت العلاقة بين الدولة والمجتمع، ولم يعد الإنسان مركزاً لأي رؤية إصلاحية أو مشروع سياسي قابل للحياة.
إنني لا أطرح هنا مجرد مطلب إصلاحي أو تحديث إداري، بل أعيد طرح السؤال الجوهري:
أيّ دولة نريد؟
هل نريد دولةً تُنتج الطاعة، أم تُصغي لمواطنيها؟
هل نريد دولةً تفرض هوية قسرية على تنوع المجتمعات، أم تحتضن هذا التنوع في إطار جامع؟
هل نريد دولةَ أمنٍ أم دولةَ حق؟
في قلب هذا السؤال، تتبلور فكرة “دولة المواطنة والإنسان”: دولة لا تقوم على الطائفة، ولا على العرق، ولا على الولاء الشخصي، بل على قاعدة واحدة لا ثاني لها: الكرامة الإنسانية والمواطنة المتساوية. وهي ليست نقيضاً للهوية الثقافية أو الخصوصيات الجماعية، بل ناظماً يضمن لها التعبير والعيش المشترك في ظل قانون عادل.
فإذا كان من درسٍ ينبغي استخلاصه من الثورات والانتفاضات العربية، ومن الانهيارات المتتالية للدولة ومؤسساتها، فهو أن الحل لا يكون في إعادة تدوير الاستبداد، ولا في العودة إلى الطوائف والعشائر والأثنيات، بل في مشروع تأسيسي جديد… يُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والدولة، بين المواطن والوطن، على أساس من الحرية والمساواة والشراكة في القرار.
أنتَ، أخي السوري واللبناني والعراقي والعربي… أيّ دولة تريد؟
-بين غنيمة الدولة وتصدّع الهوية
إذا كانت “دولة المواطنة والإنسان” تتأسس على الكرامة والحق، فذلك لأن الدولة القائمة اليوم قامت على نقيض هذه القيم. ففي التجارب العربية، تحوّلت الدولة من فكرة سيادية جامعة إلى حلبة صراع طائفي ومجالي، ومن عقد اجتماعي إلى ميدان لتقاسم الغنائم بين عصبيات ما قبل الدولة.
فالدولة لم تَفشل في وظيفتها فقط، بل تحوّلت إلى غنيمة: يحتكرها الأقوى، ويديرها وفق منطق الامتياز لا الحق، والولاء لا الكفاءة، والطائفة لا المواطنة. هكذا انتُهكت المساواة، وغابت العدالة، وساد منطق الريع السياسي والزبائنية، حتى بات المواطن مستجدِياً للحقوق، لا شريكاً في إنتاجها.
ولعلّ التجارب العربية المتعددة تُجسّد هذا الانحدار بوضوح فاضح:
في لبنان، تحوّلت الدولة إلى محاصصة طائفية مزمنة تُخضع الكفاءة لسلطة الزعيم والطائفة.
في العراق، وُلدت دولة ما بعد 2003 من رحم تقاسم المكونات، لا من عقد جامع، فبات المواطن غريباً في وطنه ما لم يكن محسوباً على جهة.
في سوريا، أُخضعت الدولة لسلطة الأمن وأيديولوجيا الحزب، ففقدت مؤسساتها استقلالها، وتمّت تصفية التنوع باسم شعارات قومية جوفاء.
وفي ليبيا، انهارت الدولة المركزية الهشّة تحت وطأة العسكرة والتشظي القبلي، لأنها لم تنشأ من المجتمع، بل فُرضت عليه.
في هذا السياق، لم تكن “المواطنة” سوى كلمة مجوَّفة في خطاب السلطة. إذ جرى تفريغها من مضمونها، واختُزلت في ولاءٍ لشخص أو جماعة، لا في انتماء مدني حر. أما المؤسسات، فبدل أن تكون حامية للحقوق، تحوّلت إلى أدوات قمع وتوزيع مصالح.
ولعلّ أخطر ما أفرزته هذه البنية هو تحلل الهوية الوطنية الجامعة. فقد فشلت الدولة في إنتاج هوية قادرة على صهر التعدديات في إطار مدني. وغالباً ما سعت إلى فرض هوية واحدة قومية أو دينية أو طائفية على حساب تنوع المجتمع وحقه في التعبير. فكان الانفجار حتمياً، والتشظي واقعاً.
ليست الهوية مشكلة في ذاتها، بل في المنطق الإقصائي الذي رافق تشكيلها. بدل أن تُبنى كهوية مركبة وعابرة للولاءات المغلقة، جرى توظيفها في صراع السلطة، فباتت عبئاً بدل أن تكون أفقاً.
لكن “دولة المواطنة والإنسان” لا تعني تذويب الهويات، بل عقلنتها في إطار عقد وطني مشترك. إنها تدعو إلى إعادة تأسيس الانتماء على أساس الحق في التعدد، والواجب في العيش المشترك، لا على منطق الغلبة أو النقاء.
ما نحتاجه اليوم ليس دعوة أخلاقية إلى التسامح، بل مشروعاً سياسياً يعيد بناء الدولة انطلاقاً من إنسانها، ويحرّرها من الطائفة والغنيمة، ويصون تنوعها من التفكك. مشروع يربط بين الكرامة الفردية والانتماء الجماعي، بين المساواة والاختلاف، بين المواطنة والإنسان.
ففي النهاية، لن يُنقذ هذه المنطقة من خرابها إلا عقدٌ جديد يعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والشرعية، بين السياسة والحق.
-نحو عقد جديد: من دولة الغلبة إلى وطن الإنسان
ليس ما نحتاجه اليوم مجرد إصلاح دستوري أو تعديل إداري، بل ما نحتاجه هو نقلة معرفية وأخلاقية وسياسية تعيد بناء الفكرة المؤسسة للدولة والمجتمع في عالمنا العربي. فبعد كل هذا الانهيار، وبعد أن تَعرّى الاستبداد وتَفكّك الغطاء الطائفي والعشائري، لم يعد ممكنًا الاستمرار في تدوير نفس البُنى، ولا في تجميل الشروخ العميقة بطلاء شعاراتي.
لقد أثبتت التجارب، الواحدة تلو الأخرى، أن الدولة لا تقوم على القوة وحدها، ولا تُبنى بشرعية السلاح أو الطائفة أو الحزب، بل تتأسس حين يشعر الإنسان بأنه شريك في إنتاج المصير، لا موضوعًا للسلطة أو ضحية للصراعات.
إن “دولة المواطنة والإنسان” ليست طوباوية حالمة، بل ضرورة واقعية لبناء مجتمعات قابلة للحياة. إنها ليست وصفة تقنية، بل رؤية حضارية جديدة تضع في قلبها الإنسان، لا الجماعة، الحق لا الامتياز، العقل لا العصبية، المشاركة لا الطاعة.
لكن هذا المشروع التأسيسي لا يولد من فراغ، بل يتطلب:
- نقدًا جذريًا للموروث السياسي والثقافي الذي شرعن الاستبداد وجمّل الطائفية.
- تحرير الدين من توظيفه السلطوي، وإعادته إلى فضائه الإيماني والروحي، لا الإيديولوجي والتعبوي.
- إعادة الاعتبار للمعرفة والتربية كأدوات تحرير وبناء، لا كوسائل ترويض وتلقين.
- بناء اقتصاد يحترم الإنسان، ويؤمّن له شروط الكرامة، لا أن يُقايَض بالولاء أو يُترك فريسة للفقر والبطالة.
الإنسان أولًا: لا دولة حديثة دون بناء الذات
لا يمكن أن يُولد عقدٌ جديد من رحم البنية القديمة، ما لم يُعاد بناء الإنسان ذاته: وعيه، وقيمه، وعلاقته بالآخر، وبالسلطة، وبالمعرفة.
فالمواطنة ليست صفة قانونية فحسب، بل مسارٌ وجودي يُبنى بالتربية، والثقافة، والتعليم. والمواطن ليس مجرد حامل هوية، بل حامل مسؤولية، وفاعل في المجال العام.
ولهذا، فإن مشروع “دولة المواطنة والإنسان” يبدأ من تحرير العقل من التلقين، والضمير من الخوف، والإرادة من التبعية. يبدأ من المدرسة والجامعة، من الإعلام والفضاء الثقافي، من إعادة تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع على قاعدة الحوار لا القهر، والمسؤولية لا التبعية.
لا دولة دون إنسان حر، ولا حرية دون وعي، ولا وعي دون تربية تُعيد للعقل حقه في السؤال، وللوجدان حقه في التفكّر، وللجسد حقه في الكرامة.
نحو ثورات ثلاث: فكر، وحق، وعقد اجتماعي
وهنا، تقع المسؤولية على النخب والمثقفين، وعلى قوى التغيير الصاعدة، في إنتاج هذا الأفق الجديد. لا عبر الانخراط في الصراعات الضيقة، بل من خلال إبداع خطاب جامع، عابر للطوائف والعصبيات، ومبني على قيم إنسانية ومواطنية مشتركة.
نحن بحاجة إلى ثورة من نوع جديد، لا تُشبه انتفاضات الغضب العابر، بل تُؤسَّس على وعي طويل النفس، يتجاوز رد الفعل إلى الفعل البنّاء:
- ثورة فكرية تُعيد الاعتبار للإنسان كذات عاقلة فاعلة، تُنقذ التعليم من التلقين، وتُحرر المعرفة من الاستهلاك، وتعيد الفلسفة والسؤال إلى مركز الثقافة.
- ثورة سياسية تُؤسّس لدولة الحق، لا دولة القوة، ترتكز على الشرعية لا الغلبة، وعلى العقد الاجتماعي لا الاستحواذ السلطوي.
- ثورة اجتماعية تُعيد بناء العقد من القاعدة، حيث يُشارك المواطن في القرار، لا يُستدعى فقط عند الحاجة، ويُرى كمصدر للسلطة لا مجرد تابعٍ لها.
نهاية مفتوحة: نحو وطن الإنسان
فهل نجرؤ على الحلم؟
وهل نحسن البناء؟
إن الوطن الذي نحلم به ليس أرضًا نُولد فيها صدفة، بل أفقًا نشارك في صنعه بمعنى وحرية وكرامة.
وطن لا يُختزل بحدود أو أعلام، بل يتجسّد في الإنسان حين يكون حرًا، وفي الدولة حين تكون عادلة.
ذاك هو وطننا الممكن… إذا امتلكنا الشجاعة لا أن نرث العالم، بل أن نُعيد خلقه على صورتنا: صورة الإنسان.
كتبتُ هذه الثلاثية كدعوة مفتوحة، لا أدّعي فيها امتلاك الحقيقة، ولا احتكار المعرفة. كل ما أرجوه أن تفتح نافذةً لحوار نحتاجه جميعًا، في زمنٍ تختلط فيه الأصوات، وتبهت فيه المعايير، وتضيع فيه البوصلة.
شاركوني تأملاتكم، اعتراضاتكم، رؤاكم… فلعل الكلمة تكون بذرة، ولعل الحوار يصنع بداية جديدة.
إن “دولة المواطنة والإنسان” لا تُفرَض، بل تُبنى. لا كترفٍ فكري، بل كضرورةٍ وجودية. ومعًا، يمكن أن نبنيها.